عبد الحفيظ الهرقام: الاستثــمــار بيــن العـائد الأوفــر والـــتـــأثيـر الأعمق
في الوقت الذي تغرق فيه تونس في أوحال أزمة متعدّدة الأبعاد، ماليّة وسياسية وأخلاقية ومجتمعية، يتسارع نسق التّحوّلات التي يشهدها العالم حولنا ويتّسع مداها يوما بعد يوم. فما من مجال من مجالات النشاط الإنساني إِلَّا وطالته موجات التغيير وتطوّرت فيه مناهج العمل والتفكير فتولّدت مفاهيم جديدة ومقاربات مبتكٓرة لما هو مطروح حاضرا ومستقبلا من مسائل حيويّة.
وإحدى هذه المسائل الاستثمار وطرائقه وغايته التي كانت محلّ درس ونظر في منتديين هامّين احتضنهما في غضون أسبوعين بلد أضحى وِجهة مميّزة لرجال الأعمال والمستثمرين في القارة الأفريقيّة وفِي العالم ونعني جنوب أفريقيا.
المنتدى الأوّل انعقد في أكتوبر الماضي في كاب تاون وكانت الرسالة الموجّهة فيه من قبل كلّ دولة من الدول المشاركة إلى أصحاب المشاريع ورؤوس الأموال: لتستثمروا عندنا.. إنّ الطريق مفتوح أمامكم للحصول على أوفر العائدات في ظرف وجيز. أمّا الثاني فهو المنتدى الأفريقي للاستثمار الذي عُقد من 7 إلى 9 نوفمبر الجاري بجوهانزبورغ ونظّمه البنك الأفريقي للتنمية. وقد ضمّ عددا من رؤساء الدول والحكومات ووزراء ماليّة وقرابة 1800 شخص من مصرفيّين ومستثمرين وأصحاب مشاريع ورؤساء مؤسّسات واثنين من كبار الأثرياء عربيّا وأفريقيا وهما ماجد سيف الغرير رئيس مجلس غرفة تجارة وصناعة دبي والنيْجيري أليكو داكيتي صاحب أوّل ثروة على الصعيد القّاري.
لقد كان هذان الرجلان في مقدّمة الداعمين لتوجّه أساسي تمّ التركيز عليه خلال هذا اللقاء وهو أنّ الربح لئن يظلّ الوسيلة الوحيدة لضمان ديمومة المؤسّسة فإنّ النفع العميم يفرض نفسه قيمةً كبرى. هل يتعلّق الأمر بضرب من الاستثمار الخيري يحكمه منطق الصداقة والتضامن؟ كلّا، وإنّما هو استثمار يؤخذ في الاعتبار تأثيره في المجموعة ككلّ وفي أفرادها ولا سيّما الشباب والنساء والمعوزين منهم. فكانت الرسالة الموجّهة إلى عموم المستثمرين: اجعلوا من تغيير حياة هؤلاء وتحسين ظروف عيشهم اليومية وفتح الآفاق رحبةً أمامهم عماد مشاريعكم.
ومنطلق هذا التفكير أنّ طرائق كسب المال السهل والسريع معلومة اليوم خاصّة في أفريقيا وقد تكمن في بيع الأسلحة وتجريد الغابات من الأشجار لإقامة مشاريع عقارية والاستغلال العشوائي للثروات البحرية وتركيز صناعات تعتمد أساسا على الآلة وتحدّ من مواطن الشغل وتغيير جينات موادّ فلاحية وتكثيف الإنتاج الزراعي بالاستخدام المفرط للموادّ الكيمياوية إلى غير ذلك من الطرائق التي لا تخفى مضارّها وانعكاساتها الكارثية على المجموعة.
ومن الإشكالات التي طُرحت في المنتدى كيفيّة الحفاظ على استدامة النمّو الناتج عن الاستثمار لضمان مستقبل المؤسّسة والوصول إلى أقصى تأثير لمردوديتها بما يجعله يحقّق قيمته المضافة المرجوّة، فضلا عن إدارة مخاطر الاستثمار بأنجع السبل وأنسبها حتّى لا يحول هاجس هذه المخاطر دون الاستخدام الأفضل لمواطن الثروات الحقيقية والاستجابة لتطلعات المجموعة. وقد خلص المنتدى إلى التأكيد أنّ نجاح الاستثمار في مؤسّسة ما هو في نهاية الأمر عنصر إفادة لمؤسسات أخرى حرفاءٓ ومزوّدين، ولمناطق وجهات ودول مجاورة فيتّسع بذلك مدى مفعوله الإيجابي ليبني قاعدة خصبة لنسيج من المنافع المتبادلة.
إنّ ما يجري التفكير فيه في مستوى العالم وفِي مستوى القارة الأفريقيّة يمكن أن يكون صالحا لبلد مثل تونس.
لقد بات من الضروري إعادة النظر في مقاربتنا للاستثمار، إذ لا يكفي إصدار قانون جديد في هذا المجال واستحداث مؤسّسات كالهيئة التونسية للاستثمار أو الهيئة العامّة للشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والتمادي في الخطب التي يُعتقد أنّها محفّزة للاستثمار... فلسفة الاستثمار وغايته في حاجة ملّحة إلى المراجعة والتجديد وذلك حتّى تشمل فوائده التشغيل والبيئة والاقتصاد وسائر الجهات والفئات الاجتماعية مع اعتماده بطبيعة الحال على مبدأي الجدوى والنجاعة الاقتصادية. وهذه المقاربة ضرورية، في حقيقة الأمر، لجميع الأطراف من واضعي المشاريع وسلط عمومية تسعى إلى النهوض بالاستثمارات ورجال أعمال ومستثمرين يبحثون عن فرص آمنة لجني أرباح من خلال توظيف أموالهم. ما يُستخلص من منتــــدى جوهانزبــــورغ أنْ لا قيمة لاستثمار لا يؤدي إلى نفع عميم وأنّ من يفكّر في غير ذلك يبقى حبيس الأنانية ، ديدنه الوحيد تكاثر المال وتكديس الثروات، لا يهمّه في شيء خدمة الآخرين وإسعادهم إرضاءً للضمير..
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق