تقييم المقاربة الجديدة للسياسة الخارجية التركية

تقييم المقاربة الجديدة للسياسة الخارجية التركية

في مقال للصحفي التركي المعروف Semih Idiz المتخصّص في شؤون السياسة الخارجية والصادر بتاريخ 23 فيفري 2016 بـ «Al-Monitor’s Turkey Pulse» يطرح هذا الأخير السؤال الآتي: ماذا جرى للسياسة الخارجية التركية؟ وفي إجابته على هذا السؤال، يستشهد صاحب المقال بآراء مجموعة من السفراء الأتـــراك المشهود لهم والذين مثّلوا الدبلوماسية التركية بالخارج:

  1. السيــاسة الخــارجية تحت حكم حزب العدالة والتنمية وصلــت إلى حـــدّ كبير من التفكّك والتدهور جرّاء ابتعادها عن الخطّ التقليدي المعتدل وانحصارها في بعـد واحد.
  2. المقاربة الجديدة قلّصـت مــن خيارات تركيا السياسية في ظرف تعاني فيه المنطقة من اضطرابات خطيرة ومن عدم الاستقرار.
  3. نفس المقاربة أفضت إلى عزلة تركيا وإلى فشلها في التأثير على الأحداث في المنطقة في حين تأثّرت مصالحها الحيويّة بصفة خطيرة.
  4. اعتمد حزب العدالة والتنمية منذ تولّيه السلطة على مفهوم «الرؤية القومية» وهي من تنظير الإسلام السياسي وقريبة من فكر الإخوان المسلمين.
  5. هذه الرؤية لها علاقة بالموقف الغاضب إزاء إسرائيل وكذلك بتأزّم العلاقات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع الغرب كذلك.
  6. سعى حزب العدالة والتنمية إلى تنفيذ سياسات تفوق قدراته وإمكانياته في حين اتّسمت السيـــاسة الخـــــارجية التــركية تقليديا بالحذر واتّخذت دوما مواقف دفاعية. ورغم شعار «لا مشـــاكل مع الجوار» فقد سعى القائمون على السياسة الخارجية التركية إلى تحقيق ذلك من موقع علويّ استنكفت منه الدول المجاورة والقوى الإقليمية.
  7. سعى حزب العدالة والتنمية إلى انتهاج سياسة خارجية مثالية بقيادة داوود أغلو وكان مخطئا في ذلك إذ أنّه انطلق من فرضية أنّ تركيا هي اللاعب الأهمّ في المنطقة وبإمكانها إعادة ترتيب الأوضاع وتغيير النظام الإقليمي القائم. لكن الواقعية السياسية والموقع الجغراسياسي لتركيا لا يسمحان بتوفر تلك الإمكانية.
  8. تتّسم مقاربة الحزب الحاكم في السياسة الخارجية بالحقد حيث ينظر إلى الرافضين لها على أنّهم أعداء. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك: إسرائيل، مصر، سوريا، روسيا... ويبدو أنّ الحزب قد نسي أن السياسة الخارجية لا تحتمل وجود صداقات أبدية ولا عداوات أزلية، المصالح فقط تبقى أبديّة.
  9. الدّول لها انتماءات وهو ما يشكّل أساسا الأمن الجماعي إلاّ أنّ حزب العدالة والتنمية جعل تركيا تبتعد عن الغرب وفشل في إيجاد البديل. ويبدو أن رغبته في الانضمام إلى منظمة شنقهاي للتعاون قد قوبلت بالرّفض. وتسعى تركيا حاليا إلى الرّجوع إلى الحاضنة الغربية لكنها تبقى رهينة سياسة خارجية ذات بعد واحد. وكما أخطأت في الماضي بتوجّهها الكلّي نحو الغرب فإنّها تخطئ اليوم من جديد بالنظر فقط باتّجاه الشرق الأوسط. ويدعم مناهضو هذا الاتّجاه موقفهم بالأمثلة التالية:

- الاختلاف بين أنقرة وواشنطن في ربيع 2003 حول طلب الأخيرة انطلاق قوات أمريكية من القطر التركي (حيث توجد قاعدة جوية أمريكية بانجرليك)، لغزو العراق. ورغم اقتراح مساعدة أمريكية تقدّر ب 6 مليارات من الدولارات إلاّ أنّ البرلمان التركي رفض العرض واعتبرت واشنطن ذلك بمثابة صفعة من حليف تربطه وإيّاها علاقات استراتيجية تقليدية.

- الاختلاف بين أنقرة وإسرائيل التي يربطها بتركيا تحالف استراتيجي والتنديد بالسياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. إثر عملية «الرّصاص المصبوب» في ديسمبر 2008 ضدّ غزّة، غادر أردوغان مسرح منتدى دافوس (2009) احتجاجا على إسرائيل وقد تساءل حينها الملاحظـــون عــن أسبــاب هذا التوّجه وفسّره البعض برغبة أردوغان في إبراز أصوله الإسلامية واستعداد تركيا للابتعاد عن الغرب.


وتعدّدت بعد ذلك مظاهر الاختلاف بإهانة السفير التركي في إسرائيل في جانفي 2010 خلال لقاء مع نائب وزير الخارجية الإسرائيلي وأحداث محــاولة كسر حصــــار غـــزّة التي هاجمت فيها البحرية الإسرائيلية زورقا تركيا «Mavi Marmara» وقتلت وجرحت عددا من النّشطاء الأتراك على متنه.

- تعثر مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد إحراز تقدّم ملحوظ في بداية المسار وانخفاض نسبة المؤيّدين للانضمام إلى 43 % بعد أن كانت 60 % ولم يتم إحياء هذه المفاوضات في ديسمبر 2015 إلاّ بعد اندلاع أزمة المهجّرين وإبرام اتفاق حول هذا الموضوع بين تركيا والاتحاد الأوروبي مقابل مساعدة مالية ب 3،3 مليار أورو. لكن أمل الانضمام بدأ يتضاءل بعد أن تبيّن أن لأردوغان طموحات جغراسياسية أوسع من مجرّد الانصهـــار في الاتحاد الأوروبي.

أمّا سياسة ما يسمّى بـ «صفر مشاكل مع بلدان الجوار» فلم تحقّق النتائج المرجوّة منها رغم التطور الذي شهــده التعاون خلال العشرية الأولى من حكم حــزب العدالة والتنمية مع إيران وسوريا والعراق ومصر وكذلك مع روسيا المتاخمة لبلدان القوقاز والجمهوريات الناطقة بالتركية التي سعــت تركيــا إلى إقامة علاقات سياسية واقتصادية متطوّرة معها.

ومع اندلاع الثورات العربية في 2011، تحرّكت الدبلوماسية التركية في كلّ الاتّجاهات لتسويق «المثال التركي» بنجاحاته الاقتصادية ونظامه السياسي العلماني التعدّدي وإسلامه المعتدل.

إلاّ أنّ المساعي التركية لم تحقّق النتائج المنتظرة. فرغم تطوّر المعاملات التجارية مع إيران فقد بقي هذا البلد من أكبر المزاحمين لتركيا على النفوذ في المنطقة وفي القوقاز وآسيا الوسطى. وانتهت المغازلة بين تركيا وسوريا لتترك مكانها إلى صراع مرير حيث أصبحت تركيا بمثابة قاعدة خلفية وحامية كبرى للمعارضة المسلحة ضدّ نظام بشار الأسد. وقد تطوّرت الأوضاع نحو الأسوأ مع غزو تركيا العسكري لمناطق شمال غرب سوريا لضرب الفصائل الكردية.

كذلك اتّخذت تركيا موقفا متطرّفا من التغيير الذي أطاح بحكومة الإخوان المسلمين في مصر وأصرّت على التنديد مرارا وتكرارا بالانقلاب الذي نفّذه الجيش، وفي العراق فشلت القيادة التركية في التقرّب من كافة الفئات والحساسيات السياسية حيث وقعت الحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية في فلك طهران وباتت لبنة هامّة في المحور الذي يضمّ إيران والعراق وسوريا وحزب الله. واكتفى أردوغان بلعب دور الحامي لسنّة العراق لكن هؤلاء منقسمون على أنفسهم ولا يشعرون أساسا بوجود روابط ووشائح تاريخية تجمعهم بتركيا.

وتشعر القيادة السياسية في تركيا بمرارة فشل مقاربتها ورغم الإعجاب في مرحلة سابقة بما يسمّى «المثال التركي» فإنّ جلّ البلدان العربية إن لم أقل كلّها لا ترغب حاليا في محاكاة النظام التركي.

وقد أدركت القيادة التركية أنّ سياساتها أدّت إلى نتائج عكسية في جوارها حيث توتّرت العلاقات كذلك مع المملكة العربية السعودية والإمارات بعد أن انحازت تركيا إلى جانب قطر في الأزمة التي اندلعت مع شقيقتها الكبرى وبعد أن دخلت في تحالف ظرفي مع روسيا وإيران القى بظلاله على التحالفات التقليدية للدولة التركية.

يقول Semih Idiz في تقييمه للسياسة الخارجية التركيـــة: «الخطاب العقائدي الموالي للإخوان المسلمين المدافع عن السنّة، جعل تركيا تخسر مواقع في الشرق الأوسط، المنطقة التي كانت تطمح أن تلعب فيها دورا أساسيا وهو ما يذكّر بفشل الأتراك المتواصل في صياغة علاقات جوار هادئة ومستقرّة ويعكس عزلة تركيا في محيطها حيث لم تتوخّ الوسطية والاعتدال وجنحت إلى الانحياز عوض أن تلعب دور الوسيط. وحتّى محاولة المصالحة مع روسيا وإيران فإنّها تبدو بمثابة الإكراه...»

خــاتمــــة

ما يمكن استخلاصه ممّا سبق ينحصــــر في الاستنتاجات التالية:

1 - قيام ثورة ثقافية في تركيا مضادّة لإرث أتاتورك.

أشير هنا إلى تصريح لياشار ياكيش أوّل وزير خارجية لتركيا بعد انتخابات 2002 يقول فيه «كنّا حذرين جدّا عند إعداد برنامج الحزب قبل الانتخابات حتّى لا نذكــر في مـــرجعيتنا ما يرمز إلى الدّيـــن. لكنّني ألاحــظ اليوم أنّ الرّموز الدينية حاضرة بكثافة في مجتمعنا (من ذلك إعادة فتح مدارس الأئمّة والخطباء وإضافة عدّة حصص دينية اختيارية في البرامج التعليمية والسماح للفتيات بارتياد المدارس وهنّ محجّبات بعد سنّ العاشرة وتنشيط دور رئاسة الشؤون الدينية والأئمّة في تأطير المجتمع، وتقدّم عملية التفريق بين الإناث والذّكور في المؤسّسات التعليمية وتفاقم مظاهر نشاط شرطة الأخلاق خاصّة في الأوساط الطلابية والفضاءات الثقافية وقد نادى أردوغان عدّة مرات بداية من 2012 بضرورة تكوين الشباب دينيا لوقايته من خطر الضياع والتسكّع)
كذلك صرّح القيادي في حزب العدالة والتنمية دنكير فرات في أكتوبر 2014 بأنّ «الديمقراطية في مفهوم أردوغان لا تعني سوى نهاية الضغط المسلّط على المسلمين»

هناك أجندة واضحة سعى أردوغان إلى تنفيذها منذ حلول المرحلة الثانية من الحكم تهدف إلى تفكيك الإرث العلماني (إرث آتاتورك) وإحلال ثقافة إسلامية محلّه تستند إلى الموروث العثماني.

2 - تجاوز أردوغان في الحكم 15 عاما وهي الفترة التي قضاها آتاتورك على رأس الدولة التركية وفي ذلك رمزية كبيرة وهو يسعى إلى الفوز في الانتخابات المقبلة التي ستقام في 2019 (انتخابات مبكّرة في 24 جوان 2018) لكي يكـــون على رأس الدولة في 2023 تاريخ مائوية تأسيس الجمهورية التركية. ويذكر أنّ الزعيم التركي يخطّط عبر الإصلاحات والمشاريع الكبرى والثورة الثقافية السارية حاليا لطمس إرث آتاتورك وحشره كهامش قصير في المسيرة التركية العثمانية الطويلة. هناك اليوم في تركيا تبادل للأدوار فبعد استهداف الطبقات المتديّنة وكذلك الجماعات والطرق مــــن نقشبندية ونورسية وغيرها وتحقيرها من قبل النخب العلمانية، أصبحت هذه الشريحة في موقع القوّة في عهد أردوغان.

3 - توجّـــه السيــاسة التركية نحو الاستقلالية عن الغرب دون إحداث قطيعة معه وذلك بالانفتاح على القوى والمجموعات الصاعدة في الشرق والتعامل معها بحريّة، يدلّ على أنّ تركيا أصبحت تمتلك القدرة السياسية والاقتصادية والعسكرية لتكون قوّة إقليمية.

4 - السياسة التركية إزاء العالم العربي قد تكون فشلت في تحقيق أهدافها الكبرى عبر التنظير لعودة العثمانية في بعدها الجغرافي والحضاري إلا أنّها أسّست لبروز رؤية جديدة لمصالح تركيا في المنطقة والعالم تمزج بين الإيدولوجيا وما يفرضه الواقع.

السفير محمّد لسير

رئيس المنتدى الدبلوماسي

قراءة المزيد:

محمّد لسير: تركيا قبل حكم الإسلاميين وبعده

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.