أخبار - 2018.10.22

عـــمّـار فــرحـات: رسّـــام الفــطرة الإنســانـيّــة العـــاشقة للجمـــال والرّفعة

عـــمّـار فــرحـات: رسّـــام الفــطرة الإنســانـيّــة العـــاشقة للجمـــال والرّفعة

قد نتمثّل الوحدة أو التّفرّد كوجودٍ منقطعٍ تعيشه الذّات وسط خواء داخليّ أو خارجيّ؛ غير أنّ الوحدة في أعمق معانيها النّفسيّة والرّوحيّة لا تعني بالضّرورة العزلة عن الآخرين، بل لعلّها تزداد عمقا بحضورهم في عالم يضنيه التّدافع والتّجاذب والضّجيج؛ والواضح أنّ للرّسّام التّونسي المرحوم عمّار فرحات (1911ـــ1987) الكثير من ذلك التّفرّد الهادئ في رؤيته وفي سلوكه مثلما تشهد بذلك سيرته ومنجزه الفنّي الذي أكسبه  تميّزا لافتا في سياق الحركة الفنيّة بتونس. ولئن كان ذاك الرّجل الصّموت ذو البنيّة الصّلبة والقامة الفارعة  يجتذب النّاس إليه بما جُبِلَ عليه من دماثة خلق ولين جانب، إلّا أنّه يصعب  النّفاذ إلى خفايا شخصيته التي غالبا ما تحتمي من العالم الخارجي بالصّمت. ولا غرو أنّ المسافة جدُّ بعيدة بين وضعه في البدايات كشابّ غايته الظّفر بقوت يومه وبين موقعه لاحقا ضمن أبرز روّاد الحركة الفنيّة الحديثة؛ وقد أمكنه قطع تلك المسافة بصبر وإصرار ناسجًا لنفسه قصّة نجاح نادرة تشي بشخصيّة فذّة اتّخذت من الفنّ تعبيرا عن ثرائها وأصالتها.

استنادا إلى صـــداقة جمعتني به على مدى عقدين من الزّمن وإلى ما عرفته من أعماله، رأيت أن أشيرَ، وإن باختصار، إلى ما اتّصفت به شخصيته من فرادة في تشكّلها إنسانيّا، وبأثرها في لوحاته التي باتت تمثّل معلما بارزا في الرّسم التّونسي الحديث.

من هدوء الرّيف إلى صـخب المدينة

انتقلت أسرة عمّار فرحات في سنوات طفولته من ريف مدينة باجة إلى تونس، شأنها شأن الكثيرين من الأهالي الذين اقتلعتهم سلطات الحماية  من بيئتهم وأرضهم الأصليّة خلال فترة العشرينات من القرن لِتُحِلَّ محلّهم المستوطنين الفرنسيين. لم يحظ الطّفل، آنذاك، إلاّ بالقليل من التّعليم في «الكتّاب» ولم تسعفه الظّروف بدخول المدارس العموميّة أو الخاصّة، فاضطرّ، وقد بلغ أشدّه، إلى مواجهة الحياة متقلّبا في شتّى المهن الصّغيرة مثل بيع الثّمار بالتّفصيل أو العمل في مؤسسة التّبغ الحكوميّة أو في المخابز. غير أنّ شظف العيش والسّعي الشّاق من أجل الرّزق لم يُمِتْ فيه رهافة الإحساس بما يحفل به محيطُه من مظاهر الجمال وقيم الثّقافة الشّعبيّة وقد كانت  لِتلك المظاهر والقيم آثار في لوحاته  وفي نظام حياته ؛ ولعلّ الاستماع إلى أغاني الفونوغراف التي كانت تبثّها المقاهي في الأحياء الشّعبيّة كانت وسيلته الأولى لاكتشاف عالم الإبداع. وجد عمّار فرحات في فنّ كبار المطربين الشّرقيين ما يسرّي به عن نفسه كما اتّخذ البعض منهم نماذِجَ لرسومه لأولى، وشَغُفَ أيّما شغفٍ بأغاني أمّ كلثوم وكان يحلو له الاستشهاد بأبيات منها كما لو أنّها عِبَرٌ أو دروسٌ يستلهمها لدعم رؤيته وتجربته في الحياة؛ وقد صاحبه ذاك الولع بالموسيقى حتّى نهاية حياته حيث اعتاد العمل في مرسمه مستمعا إلى أساطين الموسيقى الكلاسيكيّة من أمثال موزارت وبيتهوفن.

رسّام عصاميّ في مواجهة الواقع

سلك عمّار فرحات مسارا متدرّجا في اكتشاف عوالم الفنّ فكان في طفولته يلهو بالتّصوير على الجدران بالفحم ثمّ اتّجه إلى رسم الفنّانين المشارقة من أمثال عبد الحيّ حلمي وسلامة حجازي نقلا عن صورهم الفوتوغرافيّة، وكان يطوف بأعماله تلك على المقاهي لبيعها وهي طريقة تسويق مُبْتَدَعة لم يمارسها أحد غيره من الفنّانين. وعندما قادته بصيرته إلى الوعي بالأوضاع المأساويّة للطبقة الفقيرة في تلك الفترة بدأ بإنجاز رسوم للكادحين كالحمّالين وباعة الرّصيف وغيرهم مخالفا بذلك منحى غيره من الرّسّامين التّونسيين الذين انصرفوا في الغالب إلى تسجيل المظاهر الجميلة والإيجابيّة في المجتمع التّقليدي. كان يرصد  في البداية أحوال أفراد تلك الفئة المعوزة في سعيهم اليوميّ من أجل لقمة العيش، بخطوط أو لمسات  صريحة حادّة تحتفظ لهم بواقعيّة خلوة من أيّ محسّنات، إذ لم يكن قد اكتشف آنذاك تقنيات الرّسم واتّجاهاته الرّائجة، ولم يتعرّف بعد على أجواء الفنّ السّائدة في أوساط الرّسّامين الأجانب ومن نحا نحوهم من التّونسيين المنتمين في الغالب إلى طبقة لها بعض الحظوة في المجتمع. وعندما أُتيحَ له الامتزاج لاحقا بتلك الأجواء، ظلّ محتفظا بالرّؤية الواقعيّة في تصوير الشّخوص والمشاهد الشّعبيّة المُستلهمة من محيطه  وقد عكست أعماله في معظمها تلك الرّؤية فتراه يتحاشى تصوير الدّور الفخمة بتزاويقها  ونقوشها ولا يُعْنَى بحياة المترفين من ذوي اليسار أو النّفوذ. أمّا في مستوى المعالجة التّشكيليّة والاختيارات الجماليّة، فهو لم يبحث كغيره عن صيغ معقّدة ومفاهيم تجريبيّة للتّعبير عن الواقع، بل اختار مواجهته كخصم يصارعه ويروّضه اتّقاءً لقسوته.

المعرض الشّخصيّ الأوّل وبداية النّجاح

في أواسط الثّلاثينات من القرن الماضي، بدأ عمّار فرحات يمارس تقنيات الرّسم الزّيتي في مواضيعه الشّعبيّة وأضحى أسلوبه على قدر من النّضج والتّمكّن ممّا دلّ على سرعة استيعابه لأسرار ذلك الفنّ دون تلقّي تأهيلا في أيّ مؤسّسة تعليميّة مختصّة. ولِإنماء تجربته اكتفى بارتياد قاعات العروض الفنيّة وبملاحظة عمل غيره من الفنّانين الأجانب والتّونسيين في تجوالهم عبر أزقّة المدينة العتيقة ؛ وإنّنا لنلمس في أعماله المبكّرة تأثّرا بالبعض منهم، خاصّة بالرّسّام المالطي الشّهير موزس ليفي في تعامله مع مادّة كثيفة نابضة ذات درجات لونيّة صريحة وقويّة تشكّل مباشرةً عناصر الموضوع دون اللّجوء إلى إبراز الخطوط المحدّدة للأشكال.  كان عمّار فرحات لا يزال في مرحلة التّأثر والبحث عن شخصيّة خاصّة عندما تمكّن في العام 1938 من المشاركة لأوّل مرّة في معرض «الصّالون التّونسي»السّنوي بلوحتين هما:»المستحمّة»و «مشهد بدويّ»؛ وفي السّنة الموالية عاد ليشارك فيه بلوحتين أخريين :»بدويّة» و«رقصة عربيّة». كانت تلك تجربة هامّة جذبت إليه انتباه كبار الرّسّامين أمثال موزس ليفي (Mosès-Levy) وبيير بوشيرل (Pierre Boucherle) ، كما لقي تشجيعا من رئيس «الصّالون» أليكسندر فيشي (Alexandre Fichet) الاشتراكي الاتّجاه والمعروف بمعاداته للذّهنيّة الاستعماريّة؛ وهو الذي  سعى في إعداد معرض خاصّ له في بهو صحيفة «لو بيتي ماتان» (Le Petit Matin) سنة 1940.

نال معرض عمّار فرحات نجاحا باهرا جعل أنظار السّاحة الفنيّة تتّجه نحوه بإعجاب لعلّه أربك الفنّان نفسه؛ وكان من نتائجه أن انتُخِبَ محافِظا (commissaire) لمعرض «الصّالون التّونسيّ لدورات عديدة. وقد مثّل ذاك النّجاح منعطفا في مسيرة فنّيّة ما فتئت تزداد ثراءً  وتعزّز موقعه ضمن الحركة الفنيّة التّونسيّة عامّة وفي إطار جماعة «مدرسة تونس» التي أسّسها الرّسّام الفرنسي بيير بوشارل في سنوات ما بعد الحرب العالميّة الثّانية. وفي خلال تلك المسيرة، اكتملت خصائص أسلوب عمّار فرحات الذي عُرِفَ به إلى آخر حياته من ميزاته إحكام تكوين اللّوحة ووضوح التّخطيط واستعمال تشكيلة ألوان رصينة بعيدة عن الصّخب الذي طبع أعماله الأولى.  يعكس  مُنجز عمّار فرحات الفنّي في مجمله الأجواء الاجتماعية التي عاشها خلال حياته ويحظى الرّيف وأهله بقسط هام من أعماله رغم مغادرته إيّاه صغيرا. أمّا الحياة الحضريّة فقد صوّر منها ما يتعلّق بالفئات المتواضعة في أفراحها ومآسيها بأسلوب رصين خال من البهرج والمبالغة، مع التّركيز على ملامح الوجوه التي تعلوها أحيانا مسحة أسى وتبعث في المشاهد إحساسا بالمهابة. وتحتلّ مهن الفقراء من النّاس حيّزا واسعا من أعماله إضافة إلى تصويــــره للموسيقيين الشّعبيين وخاصّة منهم عناصر فرق الصّطمبالي ذوي الأصول الإفريقيّة.

عمّار فرحات في نظر أصدقائه ومُريديه

في نهــــاية الأربعينــات وبداية الخمسينات، التفّ حول عمّار فرحـات جمع من الرّسّامين الشّباب مــــن الجيــــل الثّاني للحركة الفنيّة التّونسيّة أمثال الهــادي التــّركي وعبد العزيز ڤــرجــي وعلي بن الآغا والزّبير التّركي وكان بعضهم من أوائل المنتمين في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية إلى جماعة مدرسة تونس. وقـــد جـــدّدوا بعد الاستقلال تلك المدرسة التي شكّلت طيلة عقود اتّجاها قائما بذاته يبشّر بفنّ وطنيّ في مواجهة تيّارات أخرى تسعى إلى التّخلّص من المحلّية والانفتاح على التّجارب العالميّة. كانوا يحيطونه بهالة من التّقدير ويروون عنه أقواله ودعاباته التي يطلقها بين فترة صمت وأخرى. ولم يكن الاحتفاء به مقتصرا على هؤلاء، فقد اجتذب إليه مريدين من شباب جيل السّبعينات يجتمعون به في «مقهى باريس» للاستماع في انبهار إلى تجربته في الفنّ وفلسفته في الحياة.

ذاك هو عمّار فرحات الذي آمن دوما بـأنّ الفنّ طريقٌ إلى الرّفعة والرّقي الأخلاقي. إنّهُ الرّسّام الذي انعقد حول شخصه وفنّه إجماعٌ لم يحظ به رسّام سواه من قبل، لِما قدّمه للفنّ التّونسي من إبداعٍ حمل مع همومه وأحلامه الخاصّة همومَ مواطنيه وأفراحهم البسيطة في صياغة أصيلة وروح متأمّلة؛ رجلٌ نسيج وحده، فلا الاحتفاء به وما لَقيهُ من التّكريم أذهلَهُ عن نسق حياته البسيطة ولا ثناء كبار الفنّانين عليه حوَّلَهُ عن تواضعه الأسطوري ولا الصّيتُ الذّائعُ أَسْقَطَهُ في فخّ الكِبْرِ والصّلف؛ ومهما اجتهد الباحـــث في ســـبر شخصيّته الفــذّة فلا يظفر بغير القليل من حقيقة فنّان وهبه الله مع التميّز الفنّي أجمل ما يهبه لِإنسان: الفطـــرة الطيّبة وذكاء الفؤاد.

 علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.