في أهمية الخطاب السياسي التركي المُوَجَّه إلى القارة الإفريقية
الكلمة التي ألقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في افتتاح أشغال منتدى الاقتصاد والأعمال التركي الإفريقي الثاني صباح يوم الأربعاء 10 أكتوبر الجاري، نموذج بليغ للخطاب الذي تحرص تركيا على توجيهه إلى القارة السمراء لـ"دغدغة" مشاعر الأفارقة، ولحفز هممهم على المضيّ قدما على طريق تعزيز الشراكة التركية الإفريقية وتوسيعها.
ففي هذه الكلمة، أعاد الرئيس التركي التأكيد من جديد على ما تعتبره أنقرة المبادئ الأساسية التي تبني عليها نظرتها إلى إفريقيا وإلى العلاقات مع بلدانها.
ويأتي في مقدمة هذه المبادئ أنها لا تعتبر القارة الإفريقية مجرد سوق لبضائعها،أو مصدرا للموارد الطبيعية، وإنما تعتبرها شريكة، وتتعامل معها على أساس التكامل والنمو المشترك، وهي من هذا المنطلق تريد أن يكون عماد شراكاتها مع البلدان الإفريقية التكافؤوالاحترام المتبادل، بما يساعد على تأمين ديمومتها واستمرارها...
ويستتبع هذا النهج الأخذ بمبدإ ما يصطلح عليه بعبارة "أَرْبَحُ وَتَرْبَحُ"، وما أسمّيه شخصيامبدأ "النفع العميم" أي النفع الذي يعمّ المُتَعَاوِن والمُتَعَاوَنَ معه.
وكلّما أتيحت له الفرصة، يحرص الرئيس رجب طيب أردوغان على التأكيد بكل وضوح وصراحة: "إن نظرتنا تجاه إفريقيا لم تكن بتاتا مثل نظرة المستعمرين الذين قدموا إلى هذه المنطقة، ولن تكون بهذا الشكل بتاتا. إن أساس علاقاتنا مع القارة الإفريقية مبنيّ على الثقة والاحترام ومبدإ الربح المتبادل. نحن نعمل على تطوير علاقاتنا بمفهوم الإدارة المشتركة والتطوير المشترك"...
وفي هذا الصدد،يحبّ الاتراك أن يردّدوا على مسامع الأفارقة "أنهم يمتلكون 150 ألف وثيقة عن القارة الإفريقية تؤكد على أن تركيا ليس لديها ماض استعماريّ في القارة".
كما يحبّون، لا سيما في هذه المرحلة التي تعاني فيها بلادهم من توتر علاقاتها مع الولايات المتحدةبسبب قضية القس أندرو برانسون، ومن الضغوط الأمريكية التي أدت إلى تهاوي عملتهم الوطنية بأكثر من 40 في المائة من قيمتها،التأكيد على أنهم يريدون التحرّر ومساعدة أصدقائهم الأفارقةعلى التحرر من الهيمنة الاقتصادية الغربية الجائرة.
وفي هذا السياق يتنزل ما جاء في كلمة الرئيس التركي عنأن "الأتراك والأفارقة نالوا حريتهم بأرواح ودماء أجدادهم وآبائهم وليس بإحسان قوى معينة. فنحن بلغنا وضعنا الراهن بدفع الأثمان وليس عبر مساومات قذرة. ولم يُقدِّم لنا أحد حريتنا على طبق من ذهب. فقد سرنا نحو حريتنا بعد أن هَزَمنا القوى التي كان يقال إنها لن تُهزم، وليّ الأذرع التي كان يقال إنها لن تُلوى، وحققنا النصر في الكثير من الكفاحات التي كان النصر يبدو فيها مُحالا. وما الكفاح الذي خضناه في سبيل استقلالنا السياسي، إلاّ نفس الكفاح الذي نخوضه اليوم من أجل استقلالنا الاقتصادي".
كما يتنزل فيه انتقاده اللاذع للسياسات الغربية الراهنة وأسلوب تعاطيها مع الأزمات التي تهز عدة أرجاء من العالم، حيث نبّه الرئيس التركيإلى "أنه خلافاً للمعتقد فإن أعباء الحروب والنزاعات والهجرات في العالم لا تتحملها الدول الغربية بل تتحملها الدول الأقل نمواً والبلدان النامية".
وأوضح "أن الدول الغربية الغنية تترك اللاجئين يواجهون الموت والجوع والفقر، بينما تستضيف الدول الإفريقية ذات الإمكانات المحدودة ملايين اللاجئين"، وهي بذلك تظهر، على غرار تركيا التي قال انها تؤوي 3.5 ملايين سوري منذ 7 سنوات، "للعالم أجمع أن التقاسم هو عبارة عن إيمان ووعي وضمير أكثر من كونه إمكانات مادية".
وفكرة التحرر الاقتصادي فكرة تتردد على ألسنة السياسيين والاقتصاديين الاتراك على حد سواء، فهم يؤكدون باستمرار أن تركيا بما تملكه من خبرات ومن مهارات ستكون في عونهم على تحقيق أهدافهم التنموية وعلى الاستفادة من ثروات بلدانهم ومواردها الطبيعية في تحسين ظروف عيش شعوبهم.
ومن بين الوسائل التي يبدو أن أنقرة تتجه إلى استخدامها مستقبلا، في هذا المجال، الوسيلة التي دعا الرئيس التركي جميع أصدقائه وأشقائه الأفارقة إلى اعتمادها من خلال "القيام بأعمال مشتركة بالعملات الوطنية".
وقد وجدت هذه الدعوة ترحابا من الوفود الافريقية التي تعاني بلدانها، مثل تركيا، من تقلبات أسعار العملات الأجنبية وخاصة سعر الدولار الأمريكي، لأسباب، في أحيان كثيرة، لا علاقة لها بالاقتصاد.
وللتدليل على صدقية النهج التركي، يستشهد الاتراك بما يبذلونه من أموال وما تقوم به المؤسسات التركية ذات الطابع التنموي والإنساني او الخيريفي القارة الإفريقية من أنشطة تنموية، خاصة على صعيد إنشاء البنى التحتية، وتوفير فرص العمل، ودعم الشباب والنساء، إلى جانب استقبال آلاف الطلبة من مختلف الدول الإفريقية في جامعاتهم.
وواضح أن هذا الخطاب نجح في تسويق الصورة الإيجابية التي تريد تركيا ترويجها عن نفسها في القارة السمراء وأن الدول الإفريقية، على العموم،باتت تنظر إليها نظرة مشبعة بالرضا والاعجاب للدور الإنساني والانمائي الذي تضطلع به في العديد منها.
وهذا ما عبر عنه الرئيس الاثيوبي الذي حضر افتتاح المنتدى الى جانب نظيره التركي حيث أعرب في الكلمة التي ألقاها بالمناسبة عن تقديره للاهتمام الذي توليه تركيا لإفريقيا، معتبرا أن "تركيا وإفريقيا ستحققان شراكة متينة فيما بينهما" خاصة وأنّ جذور العلاقات الأفريقية التركية تعود إلى زمن قديم، وأن "إفريقيا اليوم هي قارة ديناميكية قابلة للتنمية".
وتحدث الرئيس الاثيوبي عن العلاقات بين بلاده وبين تركيا فأكد أنّ تركيا تحتل المرتبة الأولى من حيث الاستثمارات الأجنبية في أثيوبيا، كما تطرق إلى نمو حجم التبادل التجاري بين البلدين، لكنه أبرز بشكل خاص أنّ الشركات التركية العاملة في بلاده أتاحت فرص عمل للآلاف من الأثيوبيين...
على أن كل ما تقدم لا ينبغي أن يحجب عن الأنظار أن لتركيا جملة من المصالح الاستراتيجية التي تسعى الى تحقيقها من خلال عملها على تنمية علاقاتها مع افريقيا، وتوسيع نطاقها لتشمل كافة المجالات بما فيها المجالان الأمني والعسكري.
فتركيا التي ما يزال الاتحاد الأوروبي يغلق الباب في وجه انضمامها اليه، والتي ما انفك جوارها الشرق أوسطي يعاني من الصراعات والحروب، والتي تفاقمت الخلافات بينها وبين عدد من الدول الخليجية حول العديد من الملفات، يبدو أنها وجدت، ولو جزئيا، البديل في القارة الافريقية التي تمثل بالنسبة الى اقتصادها الصاعد والذي يزداد صعودا باستمرار، سوقا واسعة وتزداد اتساعا باستمرار...
وهي إلى ذلك بحاجة إلى اكتساب التأييد الإفريقي للقضايا التركية في المحافل الدولية، ومواجهة الخطر الذي تمثله منظمة غولن التي يتهمها النظام التركي بالإرهاب وبأنها وقفت وراء محاولة الانقلاب الفاشل ضد الرئيس رجب طيب اردوغان في 15 جويلية 2016.
ثم إن تركيا كقوة إقليمية صاعدة باتت اليوم تطمح الى الاضطلاع بدور أكثر فعالية على المستويين الإقليمي والدولي،حتى توازن به أدوار القوى الإقليمية الأخرى في افريقيا وفي غيرها من مناطق محيطها الحيوي.
ويبدو حسب ما يراه الملاحظون أن تركيا التي تعمل على تلبية مجمل هذه الحاجات الاقتصادية والجيو-استراتيجية، طورت مقاربتها لعلاقاتها مع القارة السمراء، حيث دعمت الجهود التي تبذلها بواسطة "قوتها الناعمة أو اللينة" بتحركات "قوتها الخشنة أو الصلبة"، حتى ترسّخ تموقعها على الساحة الافريقية،وحتى تحمي المصالح التي أنشأتها ونمَّتْها على امتداد العقدين الماضين.
وقد تجلّى هذا التطور بالخصوص في افتتاح تركيا،سنة 2017،أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في الصومال الذي يحتل موقعا استراتيجيا في القرن الإفريقي، إذ يشرف على خليج عدن، والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد واحدًا من أهم طرق التجارة العالمية (تقع هذه القاعدة بالقرب من مطار مقديشيو وقد وضع حجرها الأساسي في مارس 2015، وهي تشتمل على ثلاث مدارس عسكرية، ومخازن للأسلحة والذخيرة، وأبنيه للإقامة، وذلك على مساحة تبلغ 400 ألف متر مربع، بتكلفة 50 مليون دولار).
وقد ثنّت على هذا التحرك، بتحرك آخر لتعزيز وجودها في منطقة البحر الأحمر، حيث اتفقت مع الخرطوم خلال زيارة الرئيس رجب طيب اردوغان إلى السودان في ديسمبر 2017، على تمكينها، من جديد، من جزيرة "سواكن"التي كانت تابعة للدولة العثمانية حتى القرن التاسع عشر، وكانت مركزا لأسطولها في البحر الأحمر، وكان ميناؤها مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821 و1885، وذلك لكي تحوّلها، كما تعلن، إلى "مركز للسياحة الثقافية" في المنطقة من خلال مشاريع مشتركة بين المؤسسات التركية والسودانية.
وبالتوازي مع ذلك فإن تركيا قامت بتوقيع اتفاقياتأمنية مع عدة دول إفريقية على غرار كينيا وإثيوبيا وتنزانيا وأوغندا، تمكنها من إجراء مناورات مشتركة مع جيوش هذه الدول، ومنتدريب قوات الأمن فيها على مكافحة الإرهاب...
ومجمل هذه التحركات تثير مخاوف دول المنطقة وحتى بعض الدول الكبرى، غير أن تركيا تصرّ على التأكيد، فيما يتعلق بوجودها العسكري في الصومال، أن هذا الوجود محل ترحيب من الشعب الصومالي، وأنها ليست قوة استعمارية، ولا تنوي نهب الموارد الصومالية، وأن هدفها الوحيد هو إعادة بناء الأمة الصومالية، وتوحيد أراضيها، بما في ذلك "جمهورية أرض الصومال" المنفصلة حاليًّا، والعمل على إقرار الأمن في البلاد، وقطع الطريق أمام نشر قوات دولية فيها، ومن جانبها، فإن الحكومة الصومالية ترفض إطلاق اسم "قاعدة" على القاعدة العسكرية التركية في موقديشو، مؤكدة أن الأمر لا يتجاوز إنشاء مدارس تركية عسكرية لتدريب القوات الصومالية.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق