روايـة «عام الفـزوع 1864» أحداث دامية هزّت الدولة التونسية
كــما يدلّ عليها عنوانها «عام الفزوع 1864»، تسرد رواية حسنين بن عمو أحداث هذا العام الفارق في تاريخ تونس الذي شهد «ثورة العربان» ضد الباي، نتيجة التعسف الجبائي الذي فرضه على أهالي المملكة، ثم قمع هذه الثورة وما تلا ذلك من نتائج كارثية كان لها تأثير فيما بعد على احتلال تونس من قبل الفرنسيين. يعود الكاتب إلى أحداث هذا العام محاولا أن يرصد بدقّة كبيرة جميع المراحل التي مهّدت لحصول الثورة، بداية من الترفيع في المجبى في عام 1863 وتعميميه على كافة الرعايا التونسيين على اختلاف معتقداتهم الدينية وطبقاتهم الاجتماعية إلى أن انطلقت أولى شرارات الثورة في الشمال الغربي بقيادة علي بن غذاهم وتوسّعها شيئا فشيئا لتشمل الوسط والجنوب ثمّ الساحل. ثم يتطرّق بعد ذلك إلى أسباب فشلها والدهاء السياسي لمصطفى خزندار وقدرته على إجهاضها وتفريق شمل الثوار، قبل أن يستعرض فنون التشفّي والانتقام التي سلّطها الباي على الثوار المستسلمين الذين طلبوا منه الأمان. ولم يفت الكاتب أن يعرّج على الدور الذي لعبه القناصل الأجانب خلال هذه الفترة عبر التدخّل المباشر في شؤون البلاد والتأثير على الصادق باي وحكومته.
يراوح أسلوب الرواية بين السرد التاريخي للأحداث وبين الحبكة القصصية التي استدعت من الروائي استحضار شخصيات مختلقة تعاصر الشخصيات الحقيقية التي لعبت دورا محوريا خلال الثورة، فتتمازج معها لتسلّط الضّوء على الطابع الإنساني لأبطال الثورة. فنكتشف مثلا من خلال الثنائي «العاتي» وأخته «هنية» وهما من أصيلي تالة هربا منها إلى تونس بعد تعسّف «قايد ماجر» عليهما، شخصيتين محوريتين خلال الأحداث وهما علي بن غذاهم ومصطفى خزندار. من خلال هذه الشخصيات المختلقة التي تدور في فلك الشخصيات الحقيقية، يعطي حسنين بن عمو بعدا آخر لأحداث سنة 1864، بُعدا قد يغيب عن الرواية التي أعطاها المؤرّخون لهذه الأحداث. بٌعدا يُأنسن ما جرى ويُقرّب للقارئ صورة هول ما حصل في تلك الحقبة من قتل وسلب ونهب وتفقير للأهالي وقمع لهم من طرف قوّات الباي المصّر على سدّ آذانه عن شكواهم وتمسّكه بمعاملتهم كحيوانات وليس كرعايا لمملكته، رغم أنّه في عهده، صدر عهد الأمان (1859) الذي ينصّ على تحقيق العدل بين الرعيّة، إلى جانب أوّل دستور تونسي (1861) يفصل بين السلطات السياسية ويقرّ بالمساواة في الحقوق والواجبات بين كلّ التونسيين، أيّا كانت دياناتهم وأعراقهم.
تعدّد الثنائيات
تقوم الرواية على مجموعة من الثنائيات تشكّل عمودها الفقري، حيث نجد أولا ثنائية: «باي تونس» الصادق باي، ممثّل السلطة الحسينية، الغارق في الملذات والمحيط نفسه بحاشية فاسدة من المماليك الغرباء عن الأرض، المنقطع عن الشعب وحاجياته ورمز التعسّف والتسلّط والظّلم. ويقابله «باي العربان» وهو علي بن غذاهم، رجل تقي وورع، متعلّم، من قبيلة ماجر، مؤمن بقضيّته وقضيّة السكان المحليين، ثائر ضدّ السياسة التعسّفية للدولة وراغب في تحقيق العدل. ثنائية أخرى نجدها أيضا وهي بين الباي ووزيره، ففي حين يمثّل الأوّل، رمز الخمول وضيق الأفق وغياب النظرة السياسية، يرمز الثاني إلى الدهاء السياسي للمماليك الذين عرفوا كيف يتحكّمون في كلّ دواليب الدولة ويستعملونها للإثراء الفاحش على حساب السكان الأصليين وذلك من خلال بسط نفوذهم الكامل على البايات والتلاعب بهم، مستعينين في ذلك بالقناصل الأجانب المترصدين للإيقاع بتونس في شباك الاستعمار. الثنائية الثالثة التي تظهر في الرواية هي ثنائية الحضر والبدو، حيث تُبرز التناقض بين الفئتين في البيئة والتفكير والطباع والنظرة إلى الحياة والعلاقات الاجتماعية والقيم، بما لا يسمح أبدا بتلاقيهما، وهو ما يفسّر العلاقة التصادمية الدائمة بين الفئتين، التي شكّلت الثورة ذروة تمثُّلها. فمن جهة، نجد الحضر أو ما يعبّر عنهم «بالبلدية» الغارقين في رغد العيش والمستمتعين بالملذّات المحرّمة، لهم أسلوبهم الراقي في العيش، وتربط بينهم أساسا علاقات تقوم على المصالح والنفعية ويستنكفون من الآخر البدوي المختلف عنهم وينظرون إليه بنظرة فوقية تحجّمه وتحوّله إلى خادم أبدي لهم. ومن جهة أخرى، نجد البدو بطباعهم الخشنة الناتجة عن بيئتهم القاسية وطريقة عيشهم الصّعبة والصّلفة، وعلاقاتهم الاجتماعية التي تحكمها قيم مثل الشجاعة والشهامة والتضامن والنأي بالنفس عن الخيانة ولكنّ ذلك لا يمنع غزوهم لبعضهم البعض من أجل البقاء، إلّا أنّ ما يوحّدهم هو الإحساس بالضيم من حاكم متسلّط وفاسد يمتصّ دماءهم ومن طبقة من الحضر تعيش حوله ولا تكنّ لهم سوى الاحتقار.
ثنائية الحضر والبدو تظهر أيضا في أسلوب إدارة الثورة. ففي حين، يختار البدو القوّة والمواجهة، يعمد الحضر إلى المهادنة والحيلة والرشوة والدسائس لتنقلب الكفّة في الأخير لصالحهم، حيث تلعب السلطة على النزاعات المستمرّة بين القبائل وإذكاء النعرات واستغلال عامل الحاجة والفقر لقلب الموازين والحثّ على الخيانة. وهنا يدخل عامل السذاجة البدوية في مقابل الخبث والحنكة السياسية «للبلديّة». على هذه القاعدة من التناقضات الاجتماعية والاقتصادية، قامت ثورة 1864 في محاولة لتعديل هذا الواقع المختّل، لتحقيق القليل من العدالة والحدّ من تغوّل طرف على حساب الاخر. رغم هزيمة «العربان» وتشتّتهم وضعف حيلتهم أمام السلطة، يرسم الكاتب لهم بورتريه مؤثّرا وجميلا، فيحاول أن يركّز على بساطتهم وطيبتهم التي تصل إلى حدّ السذاجة أحيانا وعلى شجاعتهم أمام الموت وعدم استكانتهم للظلم والتعسّف. وكأنّه يحاول أن ينصفهم، كما لم ينصفهم التاريخ الذي يكتبه دائما المنتصرون والأقوياء. بذلك لا يستطيع القارئ إلّا التعاطف معهم أمام الماكينة القمعية للسلطة التي تجرّدهم من إنسانيتهم.
المؤسّسة الدينية والنساء حلفاء السلطة
تطرح الرواية أيضا دور المؤسّسة الدينية، المتمثّلة في الطرق الصوفية، في معاضدة السلطة في سعيها للتحكّم في الرعية. فمشايخ الطرق يصطفّون طوعا إلى جانب الحاكم ولو كان ظالما، بل ولا يستنكفون من استغلال الدين لخداع السكان واثباط عزائمهم وإخماد نار الثورة في قلوبهم وإقناعهم بالاستسلام للحاكم رغم تسلّطه وفساده، حيث تُبرز الرواية كيف كانوا سببا في تفريق كلمة القبائل أثناء توسّطهم بينها وبين السلطة مثل وساطة، «الشيخ مصطفى بن عزوز»، وتسليم رقاب الثوار إليها، وعلى رأسهم علي بن غذاهم.
وعلى غرار رجال الدين، لعبت النساء أيضا دورا كبيرا في لعبة السلطة لإخضاع الثّوار والتحايل عليهم، حيث تم استعمالهن كخليلات أو جاسوسات من طرف الخزندار لالتقاط الأخبار والإيقاع بالأعداء، ليشكلن شبكة لابأس بها من الدعم والإسناد للوزير الأكبر حتى يُحكم سيطرته على الثورة ويجهضها. وهنا تم استغلال ضعف النساء وحاجتهن الدائمة إلى حام، لجعلهن يقمن بالمهام القذرة، ثمّ يتمّ التخلي عنهنّ وتركهن لمصير مجهول.
تدخّل القناصل في السياسية الداخلية للدولة
ولم يفت الكاتب إلقاء الضوء على دور القناصل الأجـــانب في إدارة السياسة التونسية وتدخّلهم السافر في الشؤون الداخلية للدولة، حتّى وصل الأمر بالقنصل الفرنسي «دبوفال» حدّ التهديد المباشر للباي، إذا لم يتخلّى عن وزيــره الأكبــر ويغيّر حكومتــه، لا بل زاد على ذلك، بالتواطئ مع رؤوس الثورة للتخلص من غريمه مصطفى خزندار. في المقابل، نجد القنصل البريطاني «وودورد» يخطط مع هذا الأخير (الوزير الأكبر) لقطع الطريق أمام فرنسا لإلحاق تونس بالجزائر ووضعها تحت السيطرة الفرنسية، من خلال دفع الوزير الأكبر للضغط على الباي من أجل إعادة الإيالة التونسية تحت سيطرة السلطان العثماني. يبرز التدخّل الأجنبي أيضا من خلال قدوم الأساطيل الفرنسية والبريطانية والإيطالية والعثمانية للمرابطة في السواحل التونسية، أثناء الثورة، في استعداد للانقضاض على دولة ضعيفة ومشتّتة على حافة الإفلاس والاندثار، بحجّة حماية الرعايا الأجانب أو تقديم يد المساعدة للقضاء على انتفاضة «العربان».
ورغم تعدّد الأحداث وتشابكها، فإنّ نسق السّرد بقي سلسا ومرنا، تارة يتصاعد، وتارة يخفّ، ولكنّ القارئ لا يضجر أبدا. على مدى قرابة 600 صفحة، نجح الكاتب في جعله مشدودا للأحداث وللشخصيات، راغبا دائما في معرفة المزيد. كما أنّ تقنية المشهدية التي استعملها، بحيث يمرّ من مشهد إلى آخر ومن سياق مكاني وزماني إلى سياق مغاير تماما، أعطت بعدا سينماتوغرافيا للكتابة، فكأنّك تنتقل من مشهد مصوّر إلى مشهد آخر. كما أن هناك تكثيفا كبيرا للمشاهد عبر الوصف الدقيق لأدقّ تفاصيل الأماكن والشخصيات. رواية «عام الفزوع 1864» تأتي لتضيئ حقبة تاريخية كانت فيها الدولة التونسية في أشدّ حالات الضعف والوهن وعلى حافة الإفلاس، تتدخّل في شؤونها القوى الأجنبية لتعدّها ثمرة جاهزة للقطاف. وما أشبه الأمس باليوم، حيث تعيش الدولة حاليا وضعا مشابها إلى حدّ ما. أفلا نعتبر؟.
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق