خديجة معلَّى: إنما الدولة وَهمٌ كبير!
وأنا أمشي في شوارع قربة بعد الفيضانات التي اجتاحت هذه البلدة ، كنت أبحث عن الدولة، فلم أجدها. وأنا أزور بيوت جيراني وبيتي الذي غرق في الوحل، بحثت أيضا عن الدولة، فلم أجدها! دمار شامل حلَّ بكل أهالي البلدة في صمت رهيب من اللامسؤولين الذين أوهموا شعبا أنه تحت حمايتهم، وبرهن الواقع على كذبهم ونفاقهم وفشلهم الذريع.
كنت في زيارة لتونس العاصمة أنا وأفراد عائلتي حين اتصلت بي إحدى قريباتي مفزوعة: "إننا نغرق"، وكان سؤالي الطبيعي كيف؟ "لقد فاضت مياه الأودية من حولنا وغرق كل شئ"! ألهذه الدرجة كانت الأمطارغزيرة، سألتها؟ أجابت لا بالطبع، الأمطار كانت عادية وتوقفت ولكن الأودية أغرقتنا.. وارتفع مستوى المياه إلى حوالى المتر.. حاولت الاتصال بجيراني وأصدقائي وبعد محاولات للوصول إلى منزلي لم أفلح لأنّ الطرق كانت مغلقة، غرقى بالماء وعدت إلى تونس لأقضي ليلتي في دار أختي.. ولو لم يكن هناك بيت أقضي فيه ليلتي في تونس لكنت قضيتها في الشارع، مثل العديدين الذين لم يجدوا من يأويهم، فقضوا ليلتهم في العراء، بين الخوف والرعب والترقب.
في الصباح الباكر، غادرنا جميعاً إلى قربة وفي الطريق كانت الفاجعة،أشبه بأفلام الرعب...طرق مهشمة وجسور محطَّمة ،وفي أماكن أخرى سيارات النقل العمومي معطّلة وسيارات نقل البضائع مقلوبة على حافتى الطريق وفوضى عارمة لا توصف! والافت للنظرعلى الفورهوعدم وجود أعوان الشرطة والحرس الوطني والحماية المدنية والجيش على الطريق لمساعدة الناس في كارثتهم، اختفى الجميع تماماً ولا أثر لهم على الإطلاق، على مدى المسافة التي تفصل تونس وقربة!!!
الناس فقط يحاولون مساعدة بعضهم البعض للمرور ..هذا كان المشهد الأولي وهذه كانت ملاحظاتي الأولية .. الأولية فقط!!
وصلت إلى منزلي بعد معاناة كبيرة على وقع صوت والية نابل على راديو السيارة تقول :"إن كل شئ تحت السيطرة"!! كيف ذلك ولا يوجد أي أثر للسلط المختلفة على الطريق؟!أجاب عقلي، إنّهم ربما منشغلون بإنقاذ الناس ومساعدتهم داخل المدن وفي القرى وفي الأحياء!!
وصلت إلى منزلي والوحل يملأ الشوارع ودخلت بصعوبة بالغة، بعد أن غرقت في الماء والوحل، ووجدت جيراني كلاً منهم منشغل بإخراج الأثاث والأجهزة إلى الشارع وملابسهم كلّها ملطخة بالطين.
ولما فتحت الباب، وجدت بيتي غارقا بالكامل في الوحل وكل الأجهزة الكهربائية والثلاجة عائمة على ظهرها وقد نزلت المياه وتركت أثرها على حيطان المنزل بارتفاع يناهز المتر، ثم وصل باقي أفراد عائلتي وصديق للعائلة من مصر وفجع الجميع وبدأنا في العمل.
والآن مرَّت خمس أيام ونحن نعمل ولم ننته بعد، ما بين إخراج الأثاث والأجهزة الكهربائية، بين المنزل والشارع نخرج الأثاث ونزيح الطين في البيت ثم في الشارع تباعا ونحاول تنظيف كل شئ وغسل كل شئ في المنزل ثم نخرج للشارع نحن والجيران ساعين إلى تصريف الطين والمياه حتي نجد مكاناً لطين ومياه أخرى ونعاود الكرة تلوى الأخرى بمعدل إثني عشرة ساعة في اليوم، كل هذا والاتصالات مقطوعة والكهرباء مقطوعة والإنترنت مقطوع ولا وسيلة تتصال على الإطلاق بالعالم الخارجي إلا مرات قليلة يستطيع التليفون المحمول أن يلتقط اتصالاً لنحاول الاطمئنان علي باقي أفراد عائلاتنا والقاسم المشترك أننا جميعا غارقون في الوحل حتي رؤسنا.
فقدت وفقد كل جيراني جل ممتلكاتهم ...سيارات جرفتها المياه إلى البحر، وحكايات وحكايات من كل صوب وحدب إن تطرقت إليها فلن لتسعها عشرات المقالات.كل هذا المشهد والدولة ومؤسساتها غائبة ومختفية تماماً وكأن الدولة صارت وهما كبيرا وشبح نراه فقط في التلفاز، لاأثر ولاوجود له على الإطلاق وأدركت وقتها فعليا أنّ الدولة في تونس إنما هي وهم كبير وأكذوبة بذيئة وقذرة قذارة الوحل الذي غرقنا فيه.
الأهم من ذلك تصريحات والية نابل الفاشلة التي ادّعت عت أنّ كل شئ تحت السيطرة!! ههههههه فعلاً كان كل شئ تحت السيطرة، وكل السلط تعاوننا في أحلامنا وتوهمنا أنّ لدينا دولة تحمينا!!كذب ونفاق وهذا أقل مايقال حرصا على أدب الكلام!!
أما القصة الأخرى الحقيقية، هي أن رموز هذه الدولة جاءتها فكرة طارئة عبقرية الملامح، نفذتها في الحال رغم أنها لاتنفذ أي شئ آخر، والتي تمثلت في أنّ السدود امتلأت، فقام رموز هذه الدولة العظماء بتصريفها مياهها في الأودية التي بدورها قامت بإغراق قربة وغيرها من مدن الوطن القبلي دون القيام بتحذيرالأهالي ليأخذوا احتياطاتهم كما يحصل في الدول المحترمة. لكن هذه الرموز غيرالمحترمة والفاشلة تقوم بتصريف المياه لإغراق مواطنيها وقتل بعضهم وتكبيد الأخرين خسائر بملايين الدنانير، دون تحذير مسبق وكأن هؤلاء المواطنين هم أعداؤها، وكأنّ السلط في معركة حربية مجيدة للقضاء على مواطنيها رغم كل معاناتهم وآلامهم.
الدولة العظيمة منشغلة داخل أروقتها بالاقتتال السياسي، والتكالب على السلطة وتقاسمها والاستحواذ عليها عوض أن تهتم بخدمة الشعب الذي ئتمنها على مصالحه. السلط لم تهتم بحفر مسارات لتوجيه المياه وتصريفها كما يفعلون في الدول المحترمة، بتخزينها في تجمعات لإعادة استغلالها في وقت تندر فيه المياه وتتحارب الدول للحصول على قطرة ماء واحدة. الدولة العظيمة تركت المواطنين لمواجهة مصيرهم دون وسيلة اتصال دون كهرباء وسحبت كل مؤسساتها، وجلست تشاهد مسرحية سوداء، مسرحية غرق وموت ودمار مواطنيها.
الغالب أن الحكومة تترقب رواجاً تجارياً عندما يخرج الناس لشراء أثاث ومعدات وأجهزة عوضاً عن تلك التي أتلفت ولكن هذا لن يحدث فالناس لم يعد لديهم مال لشراء سيارات وأجهزة وأثاث، لأنّ معظمهم اقترضوا من البنوك ولم يسددوا قروضهم بعد.
كفى مهزلة وعبثا بحياة هذا الشعب ومصالحه! ولتستقيل الدولة بأكملها فالذي أؤتمن وخان لا مكان له بيننا!
- اكتب تعليق
- تعليق
ملاحظات موضوعية: * الدولة ليست وهم لا كبير و لا صغير و إلا لبقيت الإنسنية تعيش في أطر بدائية: هي إطار متحضر لعيش المجموعة سويا. * ما ذكرتيه في جزء كبير منه يفسر بوهم إدعاء المسؤولية و الكفاءة و القدرة على القيادة. * ماحدث في تونس مؤخرا يفسر في جزء منه، إضافة لمسؤولية الدولة، بمسؤولية المواطن. كما يفسر بأن الظروف المناخية التي حصلت هي إستثنائية بكل المقاييس خاصة بالنسبة لبعض الجهات. إذا على الدولة تحمل مسؤولياتها بكفاءة و نجاعة و على المواطن أن يعي أنه مسؤول في إطار الدولة إضافة لكنه صاحب حقوق.