المختار اللواتي: حصاد الفوضى
سررت يوم الإثنين 10 سبتمبر بتلبية دعوة فرع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بصفاقس وسيدي بوزيد، وحضور جانب من اللقاء الذي انتظم في صفاقس ضمن فعاليات الندوات الحوارية التي أطلقتها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في شكل قافلة تجوب عددا من ولايات الجمهورية، تحت عنوان كبير هو"قافلة الصحفيين التونسيين من أجل تعزيز وحماية النقاش العام حول الحقوق والحريات".
وقد تمثل الجانب من الندوة الذي حضرته، في عرض نماذج مما تمت عنونته “الانزلاق /التضليل الاعلامي حول توصيات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة"، وكذلك في مداخلة تحت عنوان "مسؤولية الصحفي في التصدي لخطاب الكراهية". وقد عقب ذلك نقاش شارك فيه عدد من الصحافيات والصحفيين في جهة صفاقس، مع وجوب الإشارة إلى أنّ الندوة اشتملت أيضا على محاور أخرى تناولت بالأساس عرض ومناقشة توصيات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة.
هذه البادرة من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ليست غريبة عليها، وهي التي منذ أن كانت مجرد جمعية تلم شتات الصحفيين التونسيين، قد خاضت معارك عديدة دفاعا عن كرامة الصحفيين من ناحية، وعن حرية الإعلام والتعبير بصورة عامة. هذه القافلة انطلقت يوم 6 سبتمبر وكانت محطتها الأولى مدينة الكاف. ثم شملت تباعا أيام 8 و 10 و11 مدن سوسة وصفاقس وقفصة لتختتم يوم الخميس 13 سبتمبر من مدينة نابل. وقد اشتركت في تأثيث جلساتها مع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، هيئات وجمعيات أممية ودولية، ووطنية من المجتمع المدني، وشخصيات حقوقية وجامعية، وبعض نواب مجلس نواب الشعب، مما أعطى لهذه البادرة عمقها وعظيم أهميتها، خاصّة وهي تتجه إلى الصحافيات والصحافيين رأسا !!
غير أنّ ما لفت نظري في العرض/ المدخل لإطلاق الحوار، هو تركيزه على نماذج مما وُصف "الإنزلاق أو التضليل الإعلامي حول توصيات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة". وهو انزلاق، مثلما ظهر من خلال العرض، إما جاء على لسان ضيوف في برامج إذاعية أو تلفزيونية. وغاب فيها دور الصحفي أو الصحفية في التعديل والتصحيح، أو جاء من عدم اعتماد مبدإ الرأي والرأي المخالف، في استدعاء الضيوف لعرض وجهات نظرهم ورؤاهم، وفي توزيع الكلمة بينهم بالتساوي، حتى لايتم توجيه الرأي العام إلى وجهة نظر واحدة من الموضوع بتغييب وجهة نظر أخرى معارضة لها، هذا فضلا عن عدم دراسة الصحفي أو الصحفية، في بعض الأحيان، الملفات المتصلة بالموضوع وعدم الإستئناس بآراء المختصين بشأنها، قبل المجازفة بفتح النقاش حولها. هذا إلى جانب، ماتمت الإشارة إليه من أمثلة على تعمد عدد من المواقع الإلكترونية توخي أسلوب التشويه والثلب والحث على الكراهية، سواء إزاء أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة. أو إزاء عدد من الصحفيين أو المعلقين الذين عبروا عن مناصرتهم لمحتوى ماجاء به التقرير من توصيات واقتراحات، ولمبدإ المساواة التامة بصورة عامة بين المواطنين والمواطنات.
ما استخلصته شخصيا من هذا التمشي في عرض الموضوع، أنه اقتصر على الصحفي، الذي يمثل الحلقة الضعيفة في سلسلة متشابكة ومعقدة وخطيرة، ظل وحده دائما من يتحمل وزر أخطائها أو مخططاتها.. فإبراز مايظهر من أخطاء في بعض أوجه التعاطي الإعلامي مع القضايا الحارقة،سياسية كانت أوإجتماعية وحقوقية، هو تمشٍّ وجيه ويستند إلى معايير نظرية وعملية مهنية أكيدة، ويتطلب مزيدا من الإحاطة والرسكلة سواء في إطار النقابة أو المركز الإفريقي لتدريب الصحفيين والاتصاليين الذي كان له أثر إيجابي في هذا الإتجاه، في سنوات خلت. ولكنه لايجب أن يقف عند ذلك الحد. ولابد لكي يؤتي أكله في عملية الإصلاح أن يقع التعمق في الأسباب الحقيقية التي هيأت وتهيئ الظروف والعوامل لانحراف ليس فقط الأداء الصحفي، في بعض الأحيان، عن المسار الذي من المفروض أن يسير عليه، بل كذلك انحراف عديد الأسلاك، من القضاء إلى الطب والتعليم والعمل في مواقعه المختلفة، عن مساراته الأصلية بشكل من الأشكال. إنها تمظهرات حصاد أخطاءٍ وانحرافاتٍ كثيرة ارتكبت ووقع غض الطرف عنها طيلة السنوات الماضية. وهذا كان فحوى مداخلتي في النقاش الذي جرى عقب العرض الذي أشرت إليه..
إنّ الثغرات التي طبعت النظام الديمقراطي الذي اخترناه سبيلا للحكم وإدارة الشأن العام في بلدنا، هي المتسببة في الفوضى التي طبعت الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية عندنا. فانعكست بأشكال مختلفة في المشهد الإعلامي بصورة عامة، وفي غيره من القطاعات الأخرى أيضا، إما بقصد أو بغير قصد ، لتضع الصحفيين أو بعض المسؤولين،على غرار وزير الطاقة وكامل فريق قيادة الوزارة، أكباش فداء في الواجهة، ويختفي وراءهم المتسببون الحقيقيون في ما يحصل من زيغ أو انحراف! وهذه الثغرات أكتفي في هذا السياق بإيجازها في النقاط التالية:
- إطلاق العنان، من دون ضوابط قانونية دقيقة، في تأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات، لكل الراغبين في ذلك. مما وصل بأعداد الأحزاب إلى 214 لحد الآن ولحد علمي، وبأعداد الجمعيات إلى عشرات الآلاف، تحت مسميات مختلفة. في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 12 مليون نسمة!ومن بين هذه الأحزاب الحاصلة على الترخيص القانوني بالنشاط، من يعلن صراحة عدم اعترافه بمدنية الدولة، وبدستور البلاد، وبالانتخابات، وبالنظام الديمقراطي إجمالا. ويرفع راية لدولته المنشودة، وهي دولة الخلافة، غير راية الدولة التونسية. بل ويملك جريدة أسبوعية تنشر أفكاره وبرامجه بكل حرية بين الناس، والقائمة على تقسيم التونسيين إلى "مسلمين حقيقيين"، هم من يمثلونهم، وإلى "علمانيين"، في معنى كافرين أوخارجين عن الملة، باختيارهم "بدعة" الدولة المدنية، "التي هي في الأصل دولة الكفار زرعها المستعمر على أرض الإسلام".
- إبقاء دستور البلاد على التناقض القائم بين فصليه الأول والثاني، أصبغ الشرعية على تأويل كل طرف سياسي لكل فصل منهما على هواه، وإقامة تصوره لطبيعة الدولة وفق ما يوحي إليه به الفصل الذي يعتبره المفتاح لفك رموز بقية الفصول اللاحقة في الدستور، حتى وإن كانت واضحة جلية ولا تستدعي أي تأويل!
- سابقة التوافق التاريخي في الأنظمة الديمقراطية في العالم، على أساس إدعاء تجنيب البلاد خطر العمليات الإرهابية أو الحرب الأهلية. وهذا لعمري تشويه خطير للنظم الديمقراطية. فأن يفاجيء زعيم حركة نداء تونس ناخباته وناخبيه الذين أهدوه فوزه وحركته بشقي الانتخابات التشريعية والرئاسية، كليهما، بالإعلان أنه مضطر للتوافق مع خصمه اللدود الداعي إلى نمط مجتمعي يقف على نقيض النمط الحداثي الذي ظل يردد شعاراته طيلة حملته الانتخابية، لهو أخطر طعنة للمبدإ والأصل اللذيْن انبنت عليهما فلسفة الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية، من أجل أن يتقدم الفائز فيها إلى تحمل مسؤولية الحكم، فتتم مراقبة مردوده فيه لمحاسبته في الانتخابات القادمة، أو حتى قبلها إن دعت الحاجة لذلك! ويرابط الخاسر في صف المعارضة ليراجع حساباته ويتحين الفرص لكسب ثقة الناخبين من جديد. وحتى إدعاء تجنيب البلاد مخاطر عمليات إرهابية، قد ظهر بطلانه سريعا مع عمليات متحف باردو، ونزل الأمبريال، وتفجير حافلة الأمن الرئاسي، وواقعة بنقردان التي كانت تهدف إلى إعلان المنطقة إمارة لتيارات التشدد والتطرف الدينيين، لولا يقظة قوات الجيش والحرس الوطنيين والأمن والمواطنين، هذا علاوة على جرائم الذبح والتقتيل التي طالت أبناء أسلاك الجيش والحرس والأمن على تخوم جبال الشمال الغربي وفي مناطق متفرقة من البلاد. وقد بلغت مجمل تلك العمليات الإرهابية من الفداحة والخطورة عشرات المرات ما سُجل قبل إعلان التوافق سيء الذكر!
- سابقة إنشاء جهاز حكم مواز للحكومة وخارج مضمون ومنطوق الدستور، أطلق عليه إسم "وثيقة قرطاج". وقد جمع أحزابا ومنظمات اجتماعية، لبعضها حضور متفاوت النسبة في مجلس نواب الشعب، أو منعدم تماما فيه، فيما وجدت المنظمات الاجتماعية والمهنية، مثل الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة،وغيرهما فجأة، على أجنحة السلطة والحكم، بعكس ما يقتضيه دورهما. فتداخلت بذلك المهام والأدوار. وزادت من ضبابية الرؤية وتشويه مقومات النظم الديمقراطية..
- كل ذلك شجع على حَبْك المؤامرات بين مختلف الفرقاء السياسيين في غياب الوضوح الكامل عمن يقف وراءها وعن الأهداف الحقيقية المراد تحقيقها من حَبْكِها..وهو ما انعكس بالسلب على أداء أجهزة الدولة ومؤسساتها، وأصابها بالهوان والخور في كثير من الأحيان. الأمر الذي خلق وأنعش مناخ الخروج عن القانون وتناسل لوبيات الفساد، وتعاظمها من وراء عمليات التهريب والتهرب الجبائي وغسيل الأموال في عقارات وفي مشاريع إعلامية وغيرها. وخاصة في شراء الذمم، سواء بالترغيب أو بالتهديد.
- تعطل استكمال الهيئات الدستورية، وفي طليعتها المحكمة الدستورية، وسائر الهيئات الدستورية التي لم يتم انتخاب أعضائها وتركيزها لحد الآن، أو سد ماحصل بها من شغور، مثل انتخاب رئيس للهيئة العليا المستقلة للإنتخابات. بسبب ذلك تداخل المواقع وطغيان أسلوب الشد والجذب بين مكونات هذا الكوكتيل الحاكم بالقوة وغير الحاكم بالفعل..حيث أصبحت اللوبيات منتفخة الإمكانيات المالية في دولة مفلسة هي الماسكة بخيوط اللعبة، مدعومة بقوى خارجية لاهم لها إلا منفعتها المباشرة، حتى على خراب البلد.
إن عدم الإسراع بعلاج هذه الإخلالات الجوهرية سيزيد في تفاقم الأوضاع وتعفنها بما يعجل باندلاع حركات احتجاجية يطغى عليها الغضب وتفتقر إلى القيادة وإلى البرنامج، يسهل سقوطها مرة أخرى في فخاخ قوى ليست بالضرورة تريد الخير للوطن وتروم الإصلاح!.. غير إن هذا العلاج لا يمكن أن يأتي من الأطراف التي هي أساس الداء والتي يجب كشف ما اقترفته في حق الشعب طيلة السنوات ليس الأربع الماضية فحسب، بل التي سبقتها كذلك. إذ قد تبين أنها كلها وجوه متعددة، وليست وجهين فحسب، لعملة واحدة!
- اكتب تعليق
- تعليق