محمد الهادي زعيّم: تونس وصندوق النقد الدولي
الهدف من هذا المقال هو إعطاء فكرة واضحة ومبسّطة وموضوعية عن صندوق النقد الدولي، هذه المؤسّسة الدولية التي التصقت بها في مخيّلة أغلبية الناس صورة المارد الذي يرهب الدول النامية بإلزامها اتّباع سياسات تنتهي في آخر المطاف بتجويع الطبقات المتواضعة وتعميق التبعية.
الصندوق
صندوق النقد الدولي وكالة متخصّصة من منظومة تابعة للأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهدة دولية في عام 1944 تعرف بمعاهدة «بريتون وودز» نسبة إلى المكان الذي تمّت فيه، وذلك للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. ويقع مقرّ الصندوق في واشنطن العاصمة، وله مكاتب في أنحاء العالم ممّا يعكس اتّساع نطاق تواصله على المستوى العالمي. ويديره أعضاؤه من جميع بلدان العالم (189 بلدًا). وجميع البلدان الأعضاء في الصندوق ممثّلة في مجلسه التنفيذي، الذي يناقش آثار السياسات الاقتصادية لكل بلد على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي ويوافق على القروض التي يقدّمها الصندوق لمساعدة البلدان الأعضاء على معالجة المشاكل المؤقّتة التي تواجهها في ميزان المدفوعات، وكذلك لمعاضدة جهود بناء القدرات. وتتأتّى الموارد المالية للصندوق أساسا من مساهمة البلدان الأعضاء. ويشارك كل بلد في موارد الصندوق بحصّة كلّ بحصّة محدّدة في الأساس على مركزه النسبي في الاقتصاد العالمي، بحيث بقدر ما يكون البلد غنيّا تكون حصّته مرتفعة. وحصّة كلّ بلد عضو هي التي تتحدّد على أساسها ثلاثة أشياء هامة:
الحد الأقصى لالتزاماته المالية تجاه الصندوق، وحجم التمويل الذي يمكنه الحصول عليه من الصندوق، وأخيرا قوته التصويتية. وهذا الجانب الأخير يعطي للدول الغنيّة مجالا واسعا للتحكّم في قرارات الصندوق وسياسته. وتتصدّر الولايات المتحدة قائمة البلدان المساهمة بحوالي 58 مليار دولار (2016)، أي حوالي 16.5 بالمائة من الموارد وما يعادلها من الأصوات بينما تبلغ حصّة الصين 6.1 وألمانيا 5.1. والدول المتقدمة 55.2 منها 44.8 بالمائة لمجموعة الدول السبع الكبرى. ويمتلك الصندوق وحدة حساب (وهي عبارة عن عملة) خاصّة به تسمّى «حقوق السحب الخاصّة». هي نوع من أنواع الأصول التي يقوم بإصدارها صندوق النقد الدولي وهى عبارة عن نقد احتياطي دولي يستخدم لدعم أصول السيولة الدولية كالذهب والدولارات والعملة الأجنبية، وقد قام الصندوق نتيجة للأزمات التى تعرّض لها أعضاؤه بزيادة حصص أعضائه وجعلهم يحدّدون كميّة السحب الخاصّة المطلوبة للدول الأعضاء وفقاً لحصصهم، وقام بتحديد شروط الاستفادة منها في حالة وجود عجز في ميزان المدفوعات أو حدوث تطوّرات في احتياطيات البلد النقدية.
مهام الصندوق
حسب ما جاء في نصّ الاتفاقية المؤسّسة له، يتكفّل الصندوق بثلاثة أدوار أساسية: دور مراقبة، ودور تقني تكويني، وأخيرا دور تمويلي.
فيما يخصّ المراقبة، صندوق النقد الدولي هوالمؤسّسة المركزية في النظام النقدي الدولي أي نظام المدفوعات وأسعار صرف العملات الذي يعتمد في المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة .ويستهدف الصندوق منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة.
ويهدف حسبما جاء في النصّ الاتفاقية المؤسّسة له الى تعزيز التعاون النقدي العالمي وضمانا للاستقرار المالي وتيسير حركة التجارة الدولية، لذلك يمكن دون مجازفة أن نعتبر انّ صندوق النقد الدولي يلعب دور البوليس الـدولي على المستوى المالي والنقدي.
ويتمثّل دوره التقني والتكويني في بناء قدرات البلدان عن طريق تقديم المساعدة الفنية والتدريب بناء على طلبها، لمساعــدتها في بناء وتعزيز الخبرات والمؤسّسات اللازمة لتنفيذ السياسات الاقتصـــادية السليمة. وخلافا لما هو معلن فإنّ هذا الدور ليــس تقنيا بحـــتا. فهو يرمي إلى ترويج المــواقف والنظـــريات الاقتصــادية المهيمنة.
أمّا الدور التمويلي ومنه تأتي تسميته كصندوق فيتمثّل في إتاحة التمويل بصفة مؤقّتة للبلدان الأعضاء لمعالجة المشاكل المتعلّقة بميزان المدفوعات، وذلك مثلا في ظروف معيّنة، عندما لا تجد لديها ما يكفي من النقد الأجنبي بسبب تجاوز مدفوعاتها الخارجية إيراداتها من النقد الأجنبي. وميزان المدفوعات هو الموازنة بين الموارد المتأتية من الخارج (التصدير، تحويلات العمال بالخارج،موارد السياحة...) والمدفوعات التي تتمّ نحو الخارج (التوريد، خلاص الديون الخارجية...) ويرفق الإقراض بجملة من الشروط في خصوص سياساته التصحيـــح والاصلاح الراميـة الي حلّ مشكلاتها الأساسية. وهذه الشروط تكوّن ما هو معروف ببرامج الإصلاح الهيكلي.
ويتعاون الصندوق في قيامه بهذه المهام مع القطاع الخاصّ في عمليات منع الأزمات وحلّها، ومع المنظمات والمؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وبنك التسويات الدولي والمنظمات الإقليمية الأخرى.
نحن والصندوق
التصقت بهذه المؤسّسة الدولية «في مخيّلة أغلبية الناس» صورة المارد الذي يرهب الدول النامية بإلزامها إتّباع سياسات تنتهي في آخر المطاف بتجويع الطبقات المتواضعة و تعميق التبعيّة.
ولسائل أن يتساءل عن مدى وجاهة هذه الصورة.ولكي نمكنكم من الإجابة عن ذلك سنسوق جملة من الملاحظات:
1 - يتمّ اللجوء إلى الصندوق في الحالات القصوى أي عندما تعجز البلدان عن مجابهة انخرام ميزانها للمدفوعات وتصبح غير قادرة على دفع مستلزماتها من النقد الخارجي (العملة الصعبة). على المستوى النظري يبقى اللجوء للصندوق أمرا اختياريا. أي أنّ الصندوق لا يجبر أيّ بلد على الاقتراض منه. غير أنّ ذلك يبقى كما قلنا نظريا ولعدّة أسباب. يمكن مقارنة اللجوء إلى الصندوق كاللجوء إلى القسم الاستعجالي في المستشفى بالنسبة إلى الإنسان المريض أي عندما تبلغ المعاناة مستويات لا تطاق، وبعد أن تستوفى كلّ الإمكانيات المتاحة «بالمنزل».
ولقائل أن يقول: لماذا لا نبحث عن موارد محلية بديلة، عبر رفع مستويات الجباية أو «افتكاك» أملاك الفاسدين، وإيجاد الحلول الملائمة للاقتصاد الموازي...؟ والمهتمّون بالشؤون الاقتصادية يدركون أنّ هذه الأمور حتميّة لكنّها ليست بالهيّنة، وهي تنطوي على تأثيرات جانبية تستدعي الكثير من الحنكة. وفي كل الحالات، فإن توفير موارد بالعملة المحليّة - ولو بمستويات كافية - لا يمنع من اللجوء إلى الاقتراض الخارجي عندما تكون الحاجة للعملة الصعبة. أي أنّ الموارد الداخلية لا تعوّض دائما الموارد بالعملة الصّعبة.
ولآخر أن يقول: لماذا لا نبحث إذن عن موارد بديلة بالعملة الصعبة عبر اللجوء إلى الاقتراض من السوق العالمية؟ زيادة على أنّ كلفة الاقتراض من تلك السوق هي في الواقع أرفع من الاقتراض من المؤسّسات الدولية، فإنّ المؤسّسات المالية في السوق لن تمكّن أي بلد من قروض بكلفة معقولة إلاّ إذا كان ذلك البلد يحظى بثقة المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. لذلك فإنّ المرور عبر الصندوق والدخول تحت مظلّته يبقى قدر أي بلد في حالة احتياج.
2 - عادة ما يرفق الاقتراض من صندوق النقد الدولي بجملة من الشروط في خصوص سياسات التصحيح والإصلاح الرامية الى حلّ مشاكلها الأساسية. هذه الشروط تكوّن ما هو معروف ببرامج الإصلاح الهيكلي. ويمكن مقارنة هذه البرامج بتوصيات الطبيب بعد أن يعطيك الدواء. وتكون هذه التوصيات في أغلب الأحيان مؤلمة لأنّها تتمثل في أغلب الأحيان في الحرمان من عّدة أشياء مستحبّة (الكفّ عن بعض الأكلات الشهية، الكفّ عن التدخين، ترك السيارة والسير على القدمين...).
وتتمثّل المكونات العادية لبرامج الإصلاح الهيكلي في الإجراءات التالية:
- الضغط على النفقات العمومية من خلال تخفيف الإنفاق العمومي الاستهلاكي والاستثماري،وتقليص دعم المواد الاستهلاكية وتقليص المساعدات الموجّهة إلى المؤسّسات العمومية وتجميد الأجور والحدّ من التوظيف في القطاع العام.
- الزيادة في الموارد العمومية من خلال الترفيع في سلع القطاع العامّ وخدماته وتوسيع قاعدة الضرائب ومكافحة التهرّب الضريبي، وخوصصة المؤسّسات العمومية.
- اعتماد سياسة نقدية غير توسّعية أساسا من خلال الترفيع في نسبة الفائدة.
- تخفيض سعر العملة وتحرير المعاملات الخارجية من كلّ العوائق الإدارية والجباية.
والملاحظ أنّ برامج الإصلاح تشكّل في أغلب الأحيان إجراءات قصيرة المدى ولا يمكن اعتبارها برنامجا للتنمية، بل جملة من الإجراءات التي ترمي أساسا إلى إعادة التوازن الى ميزان المدفوعات وتقليص العجز على مستوى الميزانية العامة للدولة. وعلى هذا المستوى يعاب على صندوق النقد الدولي أنّ وصفته الاعتيادية لم تتغيّر منذ عقود مع تعديلات صغيرة هنا وهناك تشمل فقط مستوى
فقط مستوى الجرعة ووتيرة العلاج، اعتبارا للحالة الخاصّة لكلّ بلد. ويمكن تلخيصها في صورة بسيطة: «لقد أفلستم. سأقرضكم لكي تتمكنوا من مجابهة المستعجل من حاجياتكم.عليكم بالمقابل أن تتخذوا الإجراءات اللازمة لتقليص مصاريفكم بتغيير نمط عيشكم. وإن ثارت عليكم العيال فذلك شأنكم.» والملاحظ أنّ هذه الوصفة تشكل في الواقع جوهر وأساس ما تسمّيه الحكومة «الاصلاحات الكبرى». ولا غرابة أن يتم تمويل الحملة الدعائية للترويج لهذه الإصلاحات من طرف أطراف أجنبية مشبوهة.
3 - من الغلط أن نعتبر صندوق النقد الدولي كائنا معاديا يريد بنا شرّا. كما أنّه من السذاجة أن نعتبره مؤسّسة خيرية غايتها السعي لرفاهنا. فهي مؤسّسة دولية بعثتها وتتحكم فيها الدول المهيمنة على المنظومة الاقتصادية العالمية، غايتها حماية المنظومة ككّل وتطويع الاقتصاديات العالمية بما يسمح من ضمان النمّو المتواصل في إطار يحافظ على التوازنات القائمة وإعادة إنتاج العلاقات الدولية السائدة. وإن توافق رفاهنا مع ذلك فمرحبا به، وإن تعارض معه فعلينا أن نتأقلم، وأن ندفع الثمن. ومن مهامّ الصندوق تطوير منظومة فكرية تروّج لتلكم التوجهات وتشّكل القاعدة الإيديولوجية للسياسات المعتمدة. ومن ركائز ذلك الفكر، الإيمان بجدوى التوجّه الليبرالي على مستوى العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية. غير أنّ التحوّلات العميقة التي عرفتها العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة بدأت تدخل رجّة كبيرة في وجاهة هذه القاعدة الفكرية، كما يعترف بذلك الصندوق نفسه في تقريره السنوي الأخير: «التجارة وثيقة الارتباط بالنموّ. وأسهم ارتفاع مستويات المعيشة الذي صاحب نموّ التجارة، في مختلف أنحاء العالم، في دعم وجهة النظر التي تذهب إلى أنّ التجارة هي أحد المحرّكات الرئيسية للنموّ... لكن الشكوك حول منافع التجارة تنامت... ويتزايد قلق البعض في كثير من الاقتصاديات المتقدمة بشأن تأثير التجارة. وانعكس هذا التحوّل في مسوح الرأي العام وفي بعض الانتخابات. «( تقرير 2017، ص 8).
4 - يجب على التونسيين أن يفهموا أنّ البلد أصبح أكثر فقراً ومعه التونسيون ككّل وأنّ القدرة الشرائية لجميع التونسيين تقريباً تتدهور باستمرار بشكل دراماتيكي مع ما يواكبها من تقلّص «الطبقة المتوسطة» يوماً بعد يوم وازدياد الفوارق الاجتماعية عمقا وحدّة. كما عليهم إن يدركوا أنّه لن يكون بالإمكان الحفاظ على مستوى المعيشة الذي عشنا من قبل دون المرور بفترة تعديل، أي مجموعة إصلاحات تهدف إلى تطهير المالية العمومية، واستعادة التوازنات الاقتصادية الرئيسية وترشيد تدّخلات الحكومة وإرجاع البلاد إلى العمل. وبما أنّه ليس هنالك إصلاح بدون كلفة اجتماعية، فإنّه لن يكون دون توفّر شرط أساسي يمكن أن نجزم أنّه غائب تماما في ظلّ هذه الحكومة، ألا وهو توفّر انخراط حقيقي واسع من المواطنين والمجتمع المدني في محتو ذلك الإصلاح ومنهاجه.
والشرط الأوّل لذلك الانخراط هو أن لا يتمّ تحميل تبعات الأزمة وكلفة تجاوزها لـ«المغلوبين على أمرهم» مثلما هو الحال الآن، لأنّ أولئك الذين يحتلّون موقعا من مواقع «القوة»، فقد بقي لهم إمكانية الدفاع عن مواقعهم، وحتّى اكتساب مواقع جديدة، في ظلّ الفوضى السائدة. والكل يعرف ان فترات الأزمات الكبرى هي الأكثر مواتية للتراكم غير الطبيعي للثروةوظهور طبقة من «الأغنياء الجدد». عندما ينزف الجسم، فإنّ المستعجل هو إيقاف النزيف. ،أمّا تشخيص المرض العميق الجذورالذي يقف وراء النزيف والذي يجعله مزمنًا، واستنباط الإجراءات«الهيكلية» للقضاء عليه يمكن أن ينتظر بالنسبة إلى السّلطة الحاكمة.
إنّ عبقرية الحاكم هي التأكّد من أنّ معالجة النزيف لا تجعلك تنسى الداء العميق، وأنّها لن تساهم في جعله أعمق. فإنّ دوام السلطة السياسية يعتمد لسوء الحظ على وقف النزيف أكثر من اعتماده على إنشاء علاج طويل الأمد. والمؤلم حقّا هو أنّ هذه الحكومة لا تمتلك أي رؤية لمستقبل البلاد، أي أنّه ليس لديها استراتيجية للتنمية ولاخطة حقيقية لإصلاح القطاعات حتّى تستطيع الخروج من أزمتها. ودون رؤية لا يمكن ضمان الانخراط الشعبي العريض، لأنّ الناس لا يقبلون التضحية إن لم يدركوا أنّ ذلك سيؤدي إلى وضع أفضل بالنسبة إليهم، ولو بعد سنوات. وهذا يشكّل الشرط الثاني. بحيث يتبيّن أنّ المشكلة أساسا، مشكلة سياسية. وهذا مربط الفرس.
يجب التفريق بين ضرورة توفّر انخراط شعبي عريض في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وما يسمّى بالحزام السياسي للحكومة. فما يسمّى بالحزام السياسي يتمثّل في توفّر أغلبية بالبرلمان. والمشكل يكمن في نظرنا في أنّ هذه الأغلبية لم تعد تمثّل من انتخبها، مع إقرارنا بشرعيتها واحترامنا للمؤسّسة ولأعضائها. وهذا ليس نداء لحلّ البرلمان ولإجراء انتخابات سابقة لأوانها في ظلّ النظام الانتخابي الحالي أو بعد تعديله كما يدعو البعض إلى ذلك. ما الفائدة من الانتخابات وكلّ القوى السياسية لا تتوفّر على أيّ رؤية للمستقبل، ما عدى من اختار الشعبويّة الفجّة وسيلة سهلة ومجدية؟ ربّما يكون هذا هو التحدّي الرئيسي الذي يواجه تونس اليوم، ونحن نفهم أولئك الذين يناضلون، في بعض الأحيان غريزيًا، لكي تتغيّر الأشياء. يجب أن يساهم هؤلاءاليوم في وقف النزيف وفي نفس الوقت يقترحون ويعملون من أجل مشروع تقدم. ما عدى ذلك، فإنني أعدكم بأنّها ستترك المجال فسيحا في الانتخابات المقبلة لمزيج من الشعوبيين من جميع الأنواع. هؤلاء ليس لديهم برنامج، باستثناء إدانة التجاوزات الحقيقية للآخرين ومكافحة مفترضة للفساد والسعي إلى «تنظيف» خادع للطبقة السياسية.وسيلقى هذا الخطاب آذانا صاغية لدى الأغلبية الساحقة من التونسيين، تزيده جاذبية و«لذّة» الجرأة اللفظية المتطرّفة، التي غالباً ما تقترب من الجلد والإعدام بلا محاكمة. وسيكون ذلك مدخلا لفترة جديدة من الضياع والتشرّد، ستكون هذه المرّة، قاتلة.
كفّوا عن تحميل صندوق النقد الدولي مسؤولية فساد بعض حكّامنا وعقمنا وعجزنا كلّنا. فالصندوق يلعب دورا بيّنّاه أعلاه، ولسنا في وضع ولا في حجم يسمحان لنا بأن نتحدّاه وحتى نتجاهله. أمّا أن نصبح كما هو حال من يتفاوض معه باسمنا اليوم- ذيلا له، ونجعل من الانسياق الأعمى لكلّ أحكامه مكوّنا من مكوّنات الدعم الذي يبحثون عنه في حربهم على الكراسي ضدّ خصومهم، فذلك أمر آخر. أعطوني رؤية تحرّك سواكن هذا الشعب العظيم ومن مات فيه، واتركوني أتعامل حتّى مع الشيطان، لأجلها.
5 - أريد أخيرا أن أشير إلى شيء هامّ. وهو أنّ هناك تنسيقا كبيرا رفيع المستوى بين صندوق النقد الدولي وكبار الممّولين وعلى رأسهم البنك الدولي ومنظومة الاتحاد الأوربي.زارنا يوم 12 جويلية الماضي وفد “مالي عالمي”، ضمّ ممثّلين عن الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الدولي والبنك الألماني للتنمية والبنك الإفريقي للتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار والوكالة الفرنسية للتنمية والشركة المالية العالمية. وعقدت سلسلة من اللقاءات مع كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب، وكذلك رئيس الحكومة وعدد من أعضائها ومحافظ البنك المركزي. ويبدو لي أنّه إثر تلك الزيارة عدّل صندوق النقد الدولي موقفه نحو أكثر ليونة وأعطى الضوء الأخضر للحكومة للزيادة في الأجور في إطار المفاوضات مع اتحاد الشغل.
والمعلوم هو أنّ المؤسّسات الدولية -رغم تصّلبها الظاهري- تحسن التعامل مع الواقع وتقوم بـ«تنازلات» عند الاقتضاء وتجيد «فن التراجع الوقتي إلى الوراء». غير أنّ هذا التراجع جاء في رأينا في إطار عملية تنسيقية بين الصندوق من جهة ومنظومة الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى. ومهمّ أن نعرف أنّ البرنامج الذي يربط تونس بصندوق النقد الدولي لا يكتسي بالنسبة إليه أولوية كبرى باعتبار وزن تونس على مستوى المعاملات المالية والاقتصادية الدولية. وبالمقابل، فإنّ انخراط تونس في «اتفاقية التبادل الحرّ الشامل والمعمّق» يكتسي بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي أهميّة قصوى لسبب واضح هو أنّ كل بلدان جنوب المتوسّط غير متحمّسة للانخراط فيها، بما يجعل تونس المنفذ الهام الذي يمكن الدخول منه. وقد التزم يوسف الشاهد، كرئيس للحكومة، وبصفة شخصيّة، وبوضوح خلال المحادثات رفيعة المستوى التي تمّت ببروكسال يوم 24 أفريل الماضي، بأنّه سيتّم التوقيع على هذا الاتفاقية خلال 2019 لذلك فإنّ الاتحاد الأوروبي ينزل بكلّ ثقله و بدعم من كلّ الأطراف المانحة لإنقاذ حكومة الشاهد، ويتراجع الصندوق إلى الصفّ الثّاني لفسح المجال لمنظومة الاتحاد الأوروبي لتدفع ببيادقها للتقدّم نحو إنجاز هذه الاتفاقية.
ومن هنا نفهم مغزى نزول الاتحاد الأوروبي بكل ثقله وبدعم من كلّ الأطراف المانحة لإنقاذ حكومة الشاهد ولو كلّف ذلك غضّ النظر على تباطئها في إنجاز الإصلاحات المضمّنة في الاتفاق مع صندوق النقد، وحتّى منحها متنفّسا هامّا عبر ضخّ موارد إضافية عن طريق المؤسسات المالية الدولية والإقليمية التي تمّ تجنيدها للغرض.
محمد الهادي زعيّم
أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية
- اكتب تعليق
- تعليق