احميده النيفر: »سـؤال المـرأة« فــــي الــــزمــــــــن المُعـَـــــوْلــم
1 - نقرأ بكثير من الاستغراب في كتـاب البيــان والتبيين للـــجـــاحظ (تـ 255هـ/ 868م) قولَه «لا تَدَعْ أُمَ صبيّكَ تضربْهُ فإنّه أعقلُ منها وإن كانت أَسنَّ منه». أَنْ تصدرَ هذه العبارات من مفكّر وأديب في مثل مقام الجاحظ أمر يستدعي النظر، فكيف يمكن أن نفهم حديثه هذا؟ هل يتعلّق بالجارية التي يعاشرها سيِّدُها فتنجبَ منه ومع ذلك فهــو لا يرى لها من قيمة تُذكر مقارنةً بابنه الصغير؟ أم أنّ المقصـــود هو ضرورة تجنّب ضرب الأبناء لأنّ عواقبه وخيمة كما قال ابن خلدون «من كان مُربّاه بالعسف والقهر من المتعلّمـــين، حملــه على الكذب والخبث؟»
2- قد لا يكون المعنى سوى ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ أي أنّ الجاحظ ينتقص عموم النساء ولا يرى لهنّ من فضل في التربية؛ كما أنّه يمكن أن نحمل عبارة مؤلف كتاب «البخلاء» على غير محمل الجِدّ وأنّه من قبيل الهزل الذي يستعمله، هو وبعض الكتّاب، عند معالجة القضايا الهامة قصد إبراز ما خفيّ من التناقضات وما دقّ من التباينات ليكون الهزل سبيلا للجِدّ قصدَ تحفيز العقلية النقدية وإذكائها؟
3- الذي لا شكّ فيه أنّ الجاحظ الذي وضع رسالة في «المعلمين» وأخرى في «المُغنِّين» وثالثة في «القِيان» قد خصّ النساء برسالة تأكيدا على أهمية الموضوع وضرورة الإجابة عن سؤاله. هو وإن لم يتعرّض صراحة إلى قضية المكانة العقلية للمرأة فإنّ سكوته كان مرجِّحا لدلالات تجعله أفصح من الكلام. نجده في مواضع يلمّح إلى مكانة المرأة فيستبعد عنها العقل وفي مواضع أخرى لا يتردد في التبخيس من أهمية رأيها وفي تفضيل الرجل عليها. وإذا كانت المرأة، عند الجاحظ تَفْضُلُ الرجلَ في أمور فهي لا تعدو أن تكون أمورا متّصلة بالأنوثة والضعف، فهي التي : «تُخْطَب وتُراد وتُعْشَق وتُطْلَب» وهي التي « تُفْدَى وتُحْمى». نجده أيضا يورد بعض النوادر التي وإن كــان لا يتبناها صراحة فهي تبقى معبّرة كقوله «ومــن أقوال العــامّة: «أحمقُ من معلّم كُـتّاب...وكيف يُرْجى الرأيُ والعقل عند مَن يروح على أنثى ويغدو على طفل».
4- ما ينبغي أن نذكره من جهة أخرى أنّ الجاحظ كان من المعتزلة بل ومن رجالهم المتميّزين وأنّ هذه الفرقة، خلافا لما يمكن أن يُظَنّ، لم تكن مذهبا للخاصة دون العامّة. يقول صلاح الصفدي المؤرخ ( تــ 764هـ/1362م) : «ومن وقف على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبّار علم ما كانوا عليه من العدد والعدّة». كما نجد عند القاضي أبي علي التنوخي(تـ 384هـ /994م) صاحب نشوار المحاضرة: «أنّ نساء المعتزلة لم يكنّ يخشين الجنّ والأرواح وكذلك صبيانهم لأنهم لم يكونوا يسمعون أحاديث الجنّ من آبائهم بل كانوا يسمعون إنكار رؤيتهم». أما ياقوت الحمــــوي ( تـ 626هـ /1129م) صاحب معجم البلدان فيقول في حديثه عن مدينة «تاهرت» في المغرب قرب « تلمسان» أنّ مجمــــع «الواصلية»- أصحاب «واصل بن عطاء»، أحد مؤسّسي الاعتـــزال، كان هناك وأنّ عددهم بلغ ثلاثين ألفا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها».
ما نستفيده من هذه التفاصيل هو التوسّع العمودي لفرقة الاعتزال وأنّه يعسر أن نتصوّر إمكان تحقّق ذلك مع أنّ أحد رجالها كان يعتمد آراء إطلاقية وتحقيرية للمرأة.
لكن مع ذلك فما ذكرناه من بعض أقوال الجاحظ في خصوص مسألة المرأة يظل حاملا لدلالة ثقافية متّصلة بما تحمله ثقافة المسلمين، ككلّ ثقافة، من دلالات الالتباس والغموض بما تعبّر عنه من أقوال مرتبطة بخطاب قائم في أوساط تجعل عموم المرأة أقلّ قيمة إزاء عموم الرجال. مثل هذا الخطاب يعتمد تراتبية تكشف عن علاقة استتباع يتبناها قســـم رجالي مـــن المجتمـــع في تصوّره وممارسته إزاء النساء وفي تموقعه العــام سياسيا واجتماعيا.
ما يتأكد بناءً على ذلك أنّ القول بوجود بنية عامّة تصوّرية تعمل على أساس دونية المرأة وأفضلية الرجل لا يعني أنّنا أمام بناء ثقافي مُوحَّد صَمٍّ وقاعدة مطّردة يشملان جميع الفئات الاجتماعية بمختلف أنماط حياتها المادية وتنوّع مستوياتها الحضارية. ذلك ما تثبته البحوث المتصلة بعلم الاجتماع الثقافي حين تقرّر أنّ الذات الثقافية تكون حتى في حالات «الاستقرار» الحضاري خاضعة لحقل تباينٍ والتباس يبلغ أحيانا أخرى حدَّ التناقض والصدام الداخليين بين المفاهيم والرؤى التي تنتظم المجتمع.
5 - بحثُ «سؤال المرأة» في هذا السياق لا يكون بالاعتبار البيولوجي وما ينجرُّ عنه من وظائف اجتماعية ولا هو تناول للمرأة بصفتها رمزا يوحِّد طاقات المجتمع في سياق إبداعي أو دفاعي. إنه بحثٌ في مسألة المرأة لكونها « مفهوما» (Concept) أي عُنصرًا معرفيا يتضمّن كشفا عن التعدّد والاختلاف الثاويين في المجتمعات والمُحَركَيْن لها.
في هذا المجال نجد نصا آخر من «زمن التأسيس» يكشف لنا تنوّع الزوايا التي يمكن أن تعرض من خلالها قضية المرأة. ذلك أنّ هناك فرقا بين النظر إلى المرأة باعتبارها رمزا موحِّدا وبين تناولها على أنّها مفهوم يتضمّن تراتبية وتفريقا يقوم على معرفةٍ أي على سلطة وسيادة. عالج هذا الموضوع أكثر من مفسر للقرآن الكريم عند شرح قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(الممتحنة/12)». ذكروا عندئذ بَيعة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان فقالوا إنّ «النبي عليه الصلاة والسلام بايعهنّ وكان على الصفا، وهند بنت عتبة مُتنقّبة متنكّرة خوفاً من أن يعرفها رسول الله، فقال أُبايعكن على أن لا تُشركن بالله شيئاً، فقالت هند: انّك لتأخذ علينا أمراً ما أخذتَه على الرجال وذلك أنّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال رسول الله: ولا تَسْرِقْنَ. فقالت هند: إنّ أبا سفيان مُمْسِكٌ(بخيلٌ) وانّي أصبتُ من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبتِ من مالي فيما مضى فهو لك حلال .. فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: وإنّكِ هندٌ بنت عتبة، فقالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: ولا تزنين. قالت هند: أَوَ تزني الحُرّةُ؟! فقال الرسول: ولا تَقتلنْ أولادكن، قالت هند: ربّيناهم صغاراً وقتلوهم كباراً وأنتم وهم أعلم. وقال النبيّ: ولا تأتين ببهتان قالت هند: والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق، ولمّا قال: ولا يَعْصينكَ في معروف قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء».
6- ما يلاحظ في هذا النص أنّ الحوار فيه كان يجرى على مقتضى رُؤيتين: رؤية الداعي إلى بيعة النساء على أساس رساليّ يريد أن يوحّد ويؤسس أي أنّها رؤية تنظر إلى المرأة باعتبارها معنى جامعا ورمزا موحِّدا بينما كانت تعليقات هند بنت عتبة القرشية العبشميه صاحبة الشهرة العالية قبل الإسلام وبعده مُعبِّرةً عن موقعها الاجتماعي والسيادي أي عن الفئة المالكة للقوّة والسلطة ولرؤية خاصّة للذات ضمن ذلك الموقع.
7- لكن، مع هذا وذاك، فإن هذه النصوص التراثية إذ تكشف عن أن «سؤال المرأة» قديمٌ ومُعادٌ، بل إنه ليس خاصّا بالثقافة والاجتماع الإسلاميين، وأنّ المهمّ فيه هو تعلُّقُه بتركيب الذات الثقافية وتنوّع ردودها حسب كلّ زمن وكلّ سياق. خطورة السؤال فيما يتجه إليه من إرساء لتعايشِ العناصر المتباينة داخلَ الهوية الثقافية أو تصادُمِها وفيما يفضي إليه من نتائج خاصة يزيد من تعقيدها السياق الاجتماعي والحضاري المواكب لها بما يجعل أنّ أهمّ ما في «سؤال المرأة» اليوم أنّه يأتي في سياق معولم.
ذلك أنّ ظاهرة العولمة التي تفرض نفسها على الجميع في المجالات الاقتصادية والمالية والسياسيــــة لن تقــــف دون اختراق المجالين الاجتماعي والثقافي. هـــــي ستواجه بالضرورة طبيعةَ البناء الثقـــافي المرَكَّب للمجتمعات بما يشتمــــل عليه ذلك البناء من تنــــوّع واختـــــلافات تضعها أمام تحديّات أكبر ستُضاعف من حـــــدّة تمزّقاتها وخطــــورة سيرورتها إن لم تُعالـــــج المعالجة الأنجــع والأشمل.
لهذا يتعذّر النظر إلى قضية المرأة اليوم على أنّها مسألة اجتماعية حقوقية مستقلة وأنّها تختزل بمفردها أزمة العالم العربي المعاصر برُمّته. السياق المعولم يجعل الأمر مختلفا كليًّا عن ذلك إذ يجعل من السؤال قضيةً إشكاليةً مُركَّبة لا تقبل التبسيط والعزل والاستنساخ. هو سياق يتطلب رؤية بديلة تتجاوز المنظومات الإيديولوجية الجاهزة والمعالجات الظرفية والإصلاحات المبسّطة. إنّه يقتضي في المستوى الثقافي الاجتماعي والسياسي رسم معالم فكر وسياسات تُمكّن من تقدّم حقيقي شـامل لا يخصّ سؤال المرأة بأولوية مميّزة لها وحدها بل يحرص على أهمية تنزيلهاً ضمن مشروع وطني اشتمالي تصنعه المجتمعات العربية الأكثر تحررا وإنسانية..
احميده النيفر
- اكتب تعليق
- تعليق