منجي الزيدي: قيمة النّجاح والمصعد المُعطّل
مازال التّعليم يحتّل مكانة هامّة في المجتمع التونسي رغم التحّولات العميقة التي تشهدها المنظومة التربوية. ومافتئت الأسر التونسية تبذل الغالي والنفيس من أجل نجاح أبنائها وبناتها وحصولهم على مراتب مُشرِّفة في الامتحانات على اختلاف درجاتها. وما زال عدد كبير من ناشئتنا يُبهرنا ويسعدنا بتألّقه وتفوُّقه في مدارج العرفان داخل تونس وخارجها. غير أنّ هنالك شبه إجماع في أوساط الخبراء والباحثين على تراجع المستوى العام للتحصيل المعرفي مقارنة بما كان عليه الحال في العقود الأولى للاستقلال؛ وذلك رغم انتشار المدارس والمعاهد والجامعات وتطّور وسائل التّدريس ومناهجه و اتّساع نطاق التّثقيف والنفاذ إلى المعلومات بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. وقد أفرز هذا الواقع تحوّلا في التّمثل الاجتماعي للنجاح المدرسي ثُمّ النجاح الاجتماعي. لقد انتشرت اليوم ثقافة «الجهد الأدنى» وانتهاج المسالك المختصرة لبلوغ الأهداف، وذلك أمر مرتبط بسرعة إيقاع الحياة وتزايد ضغوطاتها وتعڌد الاختيارات وتطّور الإمكانيات التقنية والعلمية. و قد انتهى عصر التأنّي والتّأمل والتّعمق. وأصبح قطاع واسع من تلاميذنا وطلبتنا لا يشعر بالحاجة للتحليل ويعتبره مجرّد تفاصيل. ما يعنيه هو النتيجة. لذلك نجده يتعامل مع المعارف والمعلومات كوسيلة لبلوغ هدف وحيد هو الحصول على تقييم يُمكِّنه من النّجاح. لم يعد بعض التلاميذ يبذل حتّى جهد تسجيل المعلومات التي يتلقّاها، كثيرون يصّورون بهواتفهم الجوالة ما يكتبه الأستاذ أو ما يدوّنه بعض زملائهم فقط عند اقتراب موعد الاختبارات. كما تجد البعض الآخر يحفظ ملخصّات الدروس عن ظهر قلب أيّاما قبل الامتحان وإذا سألته بعد ذلك تراه قد نسي ما حفظه مباشرة بعد خروجه من قاعة الامتحانات، أكثر من ذلك كثيرون يمزّقون كراساتهم وكتبهم ويلقون بها في الشّارع أمام المعاهد وحتّى الجامعات عند انتهاء العام الدراسي...تماما كالقمامة.
يبلغ هذا السلوك «النفعي» مداه فيتحوّل إلى سلوك منحرف عندما يصبح «الغش» ظاهرة متّفشية في مدارسنا وجامعاتنا. والأدهى والأمرّ هو تواطؤ بعض الأسر مع أبنائها ومساعدتهم على ذلك، هنالك ضروب من التحايل الالكتروني يتفنّن فيها البعض وتعجز أجهزة الرقابة عن إيقافها. وهنالك تطبيع مع الظاهرة حتّى أنّ بعض التلاميذ والطلبة لا يتورّعون عن الغشّ عنوة وبالقوة أحيانا. وتكتمل الصورة العبثية عندما يحتفل هؤلاء «بنجاحهم المسروق» ويتباهون به. هؤلاء التلاميذ والطلبة لم يولدوا بهذه العقلية ولكن التنشئة الاجتماعية والثقافة السائدة هي التي جعلتهم كذلك. الواقع الاجتماعي المعقّد والمليء بعوامل الإحباط والخيبة هو الذي رسّخ هذه اللامبالاة وهذا الشعور بعدم الجدوى وبالتالي انعدام المسؤولية.
سلّم القيم يشهد تحوّلات جذرية فقد تراجعت قيم الجدارة والكفاءة أمام انتشار نزعة الالتفاف و«الفهلوة» والحيلة. وتغيّرت الرموز والنماذج والقدوة فأصبح نجوم الرياضة المثال الذي يحتذى، كيف لا وهم قد نجحوا في جمع الثروة في وقت قصير ودون تجشّم معاناة التحصيل العلمي.
فَقَدَ الاجتهاد قيمته الرمزية. وانتشرت ثقافة جماهيرية واتصالية تروّج للربح السّريع والسّهل وضربة الحظ والرسالة الالكترونية التي قد تغيّر الحياة وتدرّ الملايين والسيارات وحتّى تذاكر الحج والعمرة... أضف إلى ذلك مضامين «إنتاجات فنية» شبابية تتغنّى بالحرقة كمفتاح لباب الجنّة على الأرض...
لقد كـان التّعليــم في الســابق عاملا من عوامل الحراك الاجتمــاعي (Mobilité sociale) وكان بمثابة المصعد الذي يساعد الفئات الضعيفة على «الارتقاء الطبقي». ولكن التحوّلات الاجتماعية وتنامي نسب البطالة في أوساط حاملي الشهادات الجامعية أفقد هذه الشهادات قيمتها الاجتماعية ومفعولها في الإدماج المهني والاقتصادي وجلب معها شعورا بالإحباط والخيبة. ونتج عن ذلك تغيّر كبير في قيمة المجهود وقيمة النجاح وتعطّل بذلك مصعد الجدارة والكفاءة والاستحقاق...وأضحت الأجيال الصاعدة تدخل إلى معترك الحياة دون مهارات معرفية وخبرات عملية وتتحوّل بذلك إلى عبء وخزّان من الإحباط قابل للانفجار في كلّ حين...
إنّ التعليم مرتبط بالبناء الاجتماعي لذلك ينعكس التفاوت الاجتماعي والاقتصادي على خارطة التحصيل العلمي ومستوياته، وهذا ما يبيّنه على سبيل المثال توزيع نسب النجاح في امتحانات الباكلوريا في بلادنا حيث تحتّل المناطق الداخلية الأقّل حظّا في التنمية المراتب الأخيرة. ولا عجب في ذلك فالتعليم جزء من المنوال التنموي يتأثّر بباقي مكوّناته، ولا يمكن تحقيق ديموقراطية التعليم في ظلّ اختلال موازين العدالة الاجتماعية. لذلك أضحى الإصلاح التربوي ضرورة قصوى بالنسبة الى مجتمعنا. إصلاح يبني الإنسان ويعلي قيمة الاجتهاد والجد والعمل. إصلاح يوقف نزيف تضخم الشهادات، ويضع حدّا للنجاح الوهمي ونزعة تبرير الفشل والبحث عن الانتصارات الزائفة.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق