هـل يمــثّــل تـحـــريــر درنــة انعـطافة في الأزمة الليبية ؟
حين كانت وحدات الجيش العربي الليبي تقارع مقاتلي مجلس شورى مجاهدي درنة المرتبط عضويا وتنظيميا وعقائديا بالقاعدة في المدينة الساحلية، كانت بقايا ما يسمّى بجهاز الحماية للمنشآت النفطية المنحلّ متحالفة مع فلول داعش وسرايا الدفاع عن بنغازي المصنّفة كحركة إرهابية، تحشد عناصرها في الصحراء تأهّبًا للهجوم على الهلال النفطي. وقد كان هذا التحالف المدعوم سرّا من بعض أبرز القيادات الرسمية في طرابلس وعلى رأسها خالد المشري رئيس مجلس الدولة يعتقد أنّ الجيش سيعجز عن القتال على جبهتين في نفس الوقت. إِلَّا أنّ الوحدات التابعة إلى قوّات النخبة من ألوية الصاعقة مدعومة من مقاتلي قبيلة المغاربة صاحبة المجال الترابي حيث تنتشر كبريات المنشآت النفطية نفّذت عملية خاطفة لطرد المليشيات التي دخلت موانئ التصدير وخاصّة راس لانوف والبرينة وفيها اندلعت حرائق هائلة أتت على عديد الخزّانات وخلّفت أسى وحزنا في صفوف الليبيين الذين رأوا بأمّ العين كيف تعبث مليشيات إرهابية وإجرامية بثروة البلاد ومقدّراتها دون رادع.
يمثّل تحرير درنة مرحلة مفصليّة في الحرب التي يخوضها الجيش العربي الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر ضدّ التنظيمات الإرهابيّة التي انتشرت في عديــد مناطق البلاد مستغلّة حالة الفوضى التي استشرت في عموم ليبيا منذ انهيار النظام الجماهيري على إثر التدخّل الأطلسي في سنة 2011. فالمدينة التي كانت تعتبر من حواضر الثقافة والفنّ في البلاد، علاوة على موقعها الساحلي وتواصلها مع الجبل الأخضر، تحوّلت إلى أهمّ مواقع الإرهاب حين استوطنتها تنظيمات الإسلام المسلّح ككتيبة البتار وأنصار الشريعة والجماعة الإسلامية المقاتلة وبعض فلول داعش. وقد حالت التعقيدات المجتمعيّة التي تحكمها الأعراف القبلية دون اقتحام المدينة ولجمت تحرّك الجيش نحو مركزها اعتبارا لمطالب الوجهاء المحليين الداعية إلى حقن الدماء وتجنيب النسيج المجتمعي آفة الثأر والمدينة مخاطر القصف والدمار.
وإن لم تحظ عملية تحرير درنة منذ انطلاقها في 7 ماي 2018 باهتمام الإعلام العالمي، فإنّ مآلاتها لا تقلّ أهميّة عن معارك الموصل وحلب نظرا لما تمثّله من انعطافة استراتيجية في مقارعة المجاميع الإرهابيّة. بتحرير درنة تكون آخر معاقل تنظيم القاعدة وحلفائه من الإرهابيين قد انهارت ولم يعد بإمكان العناصر المسلّحة اللجوء إلى ملاذ آمن ومحصّن. فالمدينة كانت تدرّ على الفصائل الإرهابيّة أموالا طائلة متأتية من الضرائب الثقيلة المفروضة على كاهل تجّار وبحّارة المنطقة وفلاحيها. وقد استغلَّت الفصائل الإرهابيّة ميناء المدينة الحديث لتكثيف التهريب وعبور السلاح إلى الداخل الليبي وتجارة البشر نحو جزر المتوسط وتسرّب العناصر المطاردة - من المصريين خاصّة - نحو تركيا وبقيّة المهاجر. ومن التكتيكات العسكرية التي اعتمدها الجيش في عملياته داخل درنة محاصرة الأحياء بشكل تامّ وفرض الاستسلام أو القتال حتّى الإفناء مع تجنّب الاصطدام بالمركبات المفخّخة والألغام المستحدثة، مستفيدا في ذلك ممّا راكمته قوات الصاعقة من تجربة حرب العصابات الحضرية التي خاضتها في عاصمة الشرق الليبي بنغازي على امتداد سنتين. وقد اعتمدت هذه التكتيكات للحيلولة دون إعادة تمركز المجاميع الإرهابيّة على مشارف المدينة ولملمة صفوفها.. وإن كان بعض المراقبين المرتبطين بالدوائر الاستخباراتية الغربية قد تنبّؤوا بحرب استنزاف طويلة وبغرق الجيش الليبي في وحل المدينة فإنّ سير المعارك وسرعة حسمها كذّبا التكهّنات وأشّرا إلى تحوّل نوعي استراتيجي لموازين القوى في المنطقة الشرقية عنوانها انهيار المنظومة الإرهابيّة مقابل بروز المؤسّسة العسكرية الليبية ككيان موحّد ذي عقيدة قتالية وطنية وخبرة عملياتية عالية.أمّا على المستوى المجالي فقد بسط الجيش الليبي ومن ورائه البرلمان والحكومة المؤقتة المنتصبة بالبيضاء النّفوذ الكامل على المساحة الممتدّة من الحدود المصرية شرقا إلى مشارف سرت غربا ومن الساحل إلى الحدود المشتركة ومع التشاد والسودان جنوبا. وهذا المجال الذي يقطنه ثلث الليبيين فقط يحوي في باطنه ما يناهز الثمانين بالمائة من مخزون النفط والغاز والمياه العذبة، أي ثروة البلاد في جزئها الأعظم.
معارك الهلال النفطي وصراع المصالح الدولية
لم يكن هجوم المجموعات الإرهابيّة والإجرامية التي استقدمها إبراهيم الجضران قائد ما كان يعرف بوحدات حماية المنشآت النفطية مجرّد محاولة معزولة لاستعادة التموقع داخل الهلال النفطي بل حلقة من مسلسل الصراع الدائم على مقدّرات البلاد بين اللاعبين الأساسيين. فبعيد انطلاق عملية احتلال الموانئ النفطية التي نفذتها قطاعات محسوبة على المجاميع الإرهابيّة والمرتبطة بالقاعدة تدعمها مليشيات من المرتزقة قادمة من التشاد وأساسا من قبائل القرعان، وعلى الرغم من رفع هذا التحالف ذي المنحى الإرهابي رايات سوداء، فإنّ العديد من المسؤولين الرسميين في المؤسّسات الحكومية المعترف بها دوليّا في طرابلس، سارعوا باستقبال ممثلين عن إبراهيم الجضران مؤكّدين وقوفهم إلى جانب «الثوّار» في حملتهم لاسترجاع النفـــوذ في المنطقة الغنية بالنفط...وقد يكون من السذاجة الإقرار بأنّ هزيمة مجاميع الجضران وانحدارها هي نهاية الصراع على الهلال النفطي . بل من المؤكّد أنّ العملية مجرّد جسّ نبض لقدرات الجيش الليبي ومدى صمود تحالفاته القبلية في منطقة أجدابيا وجوارها وتحضيرا دمويّا لعملية أوسع قد لا تقتصر على الكتائب المحلية القادمة من سرت ومصراطة وبعض مدن الغرب الليبي الأخرى. بل قد تكون القوّة الرئيسية ورأس الحربة مزيجا من ألوية النخبة لجيوش إقليمية ودوليّة ووحدات من شركات أمنية كالتي سادت لسنوات في المناطق النفطية العراقية إبّان الاحتلال الأمريكي. وما يعزّز هذا السناريو هو التدخّل غير المسبوق للدول الغربية وفِي مقدّمتها المملكة المتحدة في النقاش الدائر حاليا بين الفرقاء حول شرعية إلحاق الموانئ النفطية وعوائد التصدير من طرف حكومة المنطقة الشرقية بالفرع المحلي لمؤسسة النفط الوطنية.
وقد لوحــظت في خضــمّ إعــادة ترتيب الملف النفطي في ليبيا حالة من التماهي بين الحكومة المنتصبة بطرابلس والقوى الغربية المتربّصة بالثروة الوطنية إلى حدّ دعوة بعض المسؤولين في حكومة السرّاج إلى وضع الهلال النفطي تحت سيطرة تحالف عسكري أوروبي لضمان تدفّق النفط وتحويل حصّة السلطة القائمة عبر المصارف الغربية..
خرائط المعارك المنتظرة ومجالات الحلّ
إنّ عمليات التحشيد التي انطلقت في بعض أحياء مصراتة وطرابلس والساحل الغربي وجبل نفوسة رفعت شعار «استعادة الثروة» والإجهاز على الجيش ورسمت هدفا استراتيجيا يتمثّل في وضع اليد على كلّ مجال الهلال النفطي، بدءا من الآبار جنوبا وصولا إلى المواني شمالا. وسيكون لهذا الهدف الاستراتيجي جملة من التداعيات أبرزها إضعاف الجيش الليبي بقطع التمويلات عنه، وإرباك العملية السياسية التي تؤشّر كل مناحيها إلى انهيار أحزاب الإسلام السياسي واندثار مليشياتها عندما يحين زمن توحيد المؤسّسات العسكرية وأخيرا ستفتح حملة الهلال النفطي الأبواب مشرّعة أمام التدخّل الخارجي الذي صار حتميّا بالنسبة إلى القوى الغربية في ظلّ احتكام الصراع المعلن بين اللاعبين الأساسيين ونعني بذلك فرنسا وإيطاليا.
ومقابل هذا التحشيد تشهد الخارطة المحلية للتحالفات القبلية في الشرق والجنوب والوسط تحوّلات جذرية تنبئ بتشكيل كيان قوي ومتعدّد المجالات يضمّ الأحلاف التاريخية لليبيا كالحرابي في برقة وخوت الجد في الوسط و«الكتاب» في الجنوب ضمن جبهة تكون نواتها الجيش الليبي وأذرعها من مقاتلي الجحافل التي أسّسها القذافي زمن الجماهيرية من القبائل ولائها لعقود، لذلك تختلف خرائط الأولويات الاستراتيجية لدى الجيش العربي الليبي عن نظيراتها في طرابلس. فوحدات الجيش تجهّز عتادها للتوجّه جنوبا إلى مثلث الحدود التشادية النيجيرية الليبية حيث وجدت فلول داعش مناطق للاختباء والإسهام في تمويل أنشطتها عبر التهــريب والتشبيك مع مجاميع الإرهاب الممتدّة عبر الساحل والصحراء إلى مشارف نيجيريا حيث تسيطر عصابات «بوكوحرام» على مجالات شاسعة. ويعتمد المخططون الاستراتيجيون في الرجمة - مقرّ القيادة العامة للجيش الليبي- في رسم الأولويات على فرضية تفكّك التحالف بين كتائب المنطقة الغربية جرّاء الأزمة المالية التي ضربت حكومة السرّاج بعد قطع تحويلات الصادرات النفطية. كما تعوّل قيادة الجيش على المضي قدما للاستحقاق الانتخابي بما يقطع الطريق أمام المليشيات المعارضة للحل السياسي للتقدّم نحو الهلال النفطي مجدّدا.
وعلاوة على التحرّك على الجبهات العسكرية، لم تغفل نخب الجيش في المنطقة الشرقية ومصراتة وبعض مدن الغرب عن ضرورة الإسراع باستكمال خطوات توحيد المؤسّسة الأهمّ في البلاد كمدخل لإعادة البناء المؤسّساتي لليبيا. وهنا تكمن المفارقة في المشهد الليبي الحالي. فمن جهة تشتعل بؤر عديدة وتشهد صراعات دموية مدمّرة ومن جهة أخرى، يتوجّه أوسع طيف شعبي نحو الحلّ السياسي وبناء الشرعيات عبر الاحتكام إلى الصندوق.فقد انخرطت قبائل ومدن وازنة في المدّة، في مسارات المصالحات المجمعية عبر إبرام اتّفاقات لعودة المهاجرين وتبادل الأسرى وفتح الطرقات ورفع السواتر وتبرئة قيادات النظام الجماهيري. ومكّنت هذه المسارات من توضيح الاصطفافات الوطنية وبروز تيّار مدني يؤمن بوحدة الدولة وضرورة الالتفاف حول الجيش مقابل قطب إسلامي يستند إلى عديد المؤسّسات الإدارية والميليشاوية وله حضور شعبي وازن في المدن الغربية. إنّ الفرز الحاصل إذا ما نجح قطباه في الانعتاق من الـتأثيرات المباشرة للقوى الاقليمية ومشـــاريع التقسيم، قـد يؤشّر لإعادة رسم المشهد السياسي على أسس وطنية واستقلالية فعلية ووحدة للتراب عبر انتخابات ديمقراطية لا تقصي أحدا ولا تفتح الباب أمام العودة إلى الاحتكام إلى السلاح.
حراك السفراء ومشاريع إعادة الإعمار
استباقا لمرحلة السلم، كثّف العــديد من السفراء زياراتهم للمسؤولين في الشــرق والغرب وحتّى للقيادات القبلية في المدن والبلدات النائية كجزء من عمليــة الرصد لمتطلبات إعادة الإعمار وتقديم حاجيات الليبيين، سلطة ومجتمعا. وقد برز نشاط سفراء كوريا الجنوبية وهولاندا وتركيا وفرنسا عبر اتّصالهم بكل الوفاء وخاصّة الفاعليين الاقتصاديين. السفيرة الفرنسية بريجيت كورمي أدّت زيارة مطولة للمنطقة الشرقية حيث عاينت على الأرض وبشكل مباشر مدى أهميّة مشاريع إعادة الإعمار في بنغازي وخاصّة في مجال البنية التحتية والتجهيزات الاجتماعية.ولم يفت السفيرة التأكيد على قدرة الخبرة الفرنسية على تقديم الدراسات الاستراتيجية حول سياسات إعادة الإعمار وتحمّس المستثمرين الفرنسيين للولوج إلى السوق لليبية. وتتنزّل زيارة السفيرة الفرنسية في إطار التنسيق المحلّي بين باريس والقاهرة في الملّف الليبي وتعاون البلدين في المجال الطاقي والدفاعي ممّا سمح باستقرار أكثر من ثلاثين شركة عملاقة فرنسية في المدينة اللوجيستية التي يزمع افتتاحها في مدينة السلّوم على الحدود المصرية الليبية والمدينة اللوجيستية هي قاعدة رئيسية في منظومة إعادة الإعمار وتضمّ كبريات شركات المقاولين التي تنوي الإسهام بشكل مكثف في المشاريع الإنشائية. كما شهدت العاصمة طرابلس في الأشهر القليلة الماضية إعـــادة فتح العــديد من السفارات وتسلّم فائز السراج وأراق اعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية لدول هـامّة.وفي خضمّ هذا النشاط المحموم للقوى الإقليمية على الساحة الليبية، كانت حركة الجانب التونسي تفتقد إلى الإطار الجامع وال<رؤية الاستراتيجية.
وقد نجح وفد رجال ونساء أعمال تونسيين في تنظيم اللقاء الاقتصادي الأوّل بين الفاعلين الاقتصاديين في البلدين وتعدّدت لقاءات وزيرالشؤون الخارجية التونسي بالمسؤولين في طرابلس وطبرق ولكنّ الحضور المتواصل على الأرض وتشبيك العلاقات اليومي من طرف بعثة دبلوماسية قوية وذات ارتباطات متشعبّة لا يعطي للحراك التونسي القدرة على التأثير وخاصّة إذا ما علمنا أنّ الدراسات التقييمية للبنى التحتية والمؤسّسات قد انطلقت في الجزء الأهمّ منها وأنّ الدول الغربية ومصر أيضا تحصّلت على الحصّة الأوفر مما يجعلها في مـركز أفضــل إذا ما انطلقت المناقصات الإنشائية.
إنّ الأوضاع الصّعبة التي تمرّ بها تونس وعمق الانقسام والاختلاف حيال الملف الليبي بين قطبي السلطة وارتباطات الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي تحدّ بشكل كبير من قدرة بلادنا على الإسهام المكثف في عمليات إعادة الإعمار التي قدّرها خبراء البنك الدولي بحوالي الثمانين مليار دولار. وقد تمثّل مواقف الحكومات السابقة من بعض أطراف الحرب الأهلية في ليبيا حاجزا أمام الفاعلين الاقتصاديين من تونس، نظرا لوقوف الترويكا سابقا إلى جانب الحكام المدعومين من المليشيات المهزومة حاليا وما صاحب هذا الموقف من تسليم للوزير الأؤّل السابق البغدادي المحمودي الذي أنصفته المحاكم في طرابلس وأصبح إطلاق سراحه مسألة وقت وتأمين فحسب. إنّ الاسهام في إعادة إعمار ليبيا يستلزم ترتيب البيت الداخلي في تونس وتوحيد أصوات المتحدّثين باسم الدولة واعتماد سياسة تعلي مصلحة الاقتصاد الوطني على أي مقاربة إيديولوجية أو إقليمية. وانطلاق العملية الإنشائية وإعادة بناء المؤسسات التعليمية والصحية والخدماتية في ليبيا يمكن أن يخلق مئات آلاف فرص العمل لا فقط للعمّال والشغّالين بالساعد بل لحاملي الشهادات الجامعية والكفاءات العلمية والهندسية. وإذا تمعنّا جيّدا في آفاق الاستثمار الخارجي ومدى قدرة الوصفات «الإصلاحية» للمؤسّسات العالمية لإخراج الاقتصاد التونسي من أزمته الحالية، فإنّ الفرصة التاريخية التي ترتسم ملامحها على حدودنا الجنوبية قد تكون أفضل السبل لحلّ معضلة التشغيل وندرة الاستثمار.
د. رافع الطبيب
- اكتب تعليق
- تعليق