عــزّوز الرباعي مناضل ضحّى بـشبـــابـه في سبــيـل الوطـن
الواجب يدعونا أن نَذْكر، بالترحّم والتّقدير، مناضلا من الأوائل، من الذين ضَحَّوا بشبابهم، في سبيل الوطن، زمنَ المحنة الاستعماريّة، حين كان يتحكّم الأجنبي في أمور شعبنا، وفي تقرير مصيرنا. كان إذّاك المناضل عزّوز الرباعي، في مستهلّ شبابه، بالأقسام العليا من المدرسة الصادقيّة. وكان من بين أساتذته التونسيّين رجل شجاع، سيكون له شأن في الكفاح الوطني، لاسيما بتَنْشِئَة جيلٍ من الشباب الصادقي، زرع فيهم روحَ الكفاح، مِن أجل كرامة تونس: هذا الرجل هو علاّلة البلهوان. وكان له تأثير عميق في تلاميذه بالصادقيّة، وفي أتباعه من الزيتونيّين.
على خُـطَى أستـــاذه، مـــشَى الشــاب عزّوزالرباعي، مـــوجِّها مَــن يلتقي مِن شُبّان المدارس، ومِن طلبــة الزيتــونة، يَخْطُب فيهم، ويُثير لديهــــم مشاعر الغَيــرة على الوطن، والذّود عن ثقافة الأهل، فيجعلهم يلتحقون بحضيرة الحزب الذي يتكلـّم باسمه. رأيتُه لأوّل مرّة، في أحد اجتمـــاعات «الشبيبة المدرسيّة»، في نـاديها بالحيّ المعروف بـ»حوانت عاشور»، حيثُ منزلُ عائلتي. فخطب فينا المسؤول عن الشبيبة المدرسيّة، ثمّ تناول الكلمة شابّ لم نكن نعرفه.
فكان خطابه، لنا، يبدو جديدا، بالمقارنة بما كنّا نسمعه. كان يراوح بين الفصحى والدارجة. وفي كِلـْتيهما، كان فصيحا في بساطة، بليغا دون تكلّف، يُمازج الجدَّ بالدُّعابة. ويأخذ بمجامع نفوس الحاضرين، ونحن في يَفَعةٍ من نشأتنا، نتطلـّع،بشَوق وطموح، إلى مبالغ الرجال.
كان، مـــن أثــر ذلك الاجتماع، أَنْ تأكّد لديّ الميلُ إلى «الحـــزب الجديد» الذي ينتمي إليه عزّوز. وفي تثبيت هذا الميل، لاشكّ أنَّ لرفاق المدرسة الصادقيّة تأثيرًا قويّا ومتواصلا؛ خاصّة أنّ أغلبهم من مِنطقة الساحل، حيث أخذت، إذّاك، دعايةُ الحزب الجديد تعمّ المـــدن والأريـــاف، بعد المؤتمر التأسيسي المنعقد بقصر هلال. ومنذ ذلك العهد، مِلتُ تدريجيّا إلى حزب عزّوز الرباعي؛ والحال أنّني من عائلة تعتزّ بأنّ أحد أعضائها يُعدّ من كبار زعماء اللجنة التنفيذيّة. ولم أفكّر مليّا في الأمر؛ ولم أقدّر له انعكاساته العائليّة، إذ كان الحِزبان، إذّاك، في خِصام دائم، وتراشق بالتهم والشتائم. كان محي الدين القليبي مُتفرّغا لإدارة الحزب، يقوم بنشاط متواصل، في العاصمة وفي داخل البلاد؛ لا يتوقّف عن القيام بالرحلات إلى المدن والقرى، وإلى أقاصي البادية، ليُبلّغَ كلمة الحزب، وليستنهض طاقات المناضلين. ولكن هذا العمل، لم يكن يساعده فيه أحدٌ من زملائه. كان، في نشاطه، شَبَهٌ بينه وبين هذا الشابّ العائد من فرنسا – الحبيب بورڨيبة – والذي يُؤمن هو أيضا بالاتّصال المباشر. وكثيرا ما سوف يقول لي الرئيس، فيما بعْد، في خلواتنا بالقصر الرئاسي، إنّ «محي الدين» هو الوحيد الذي كان يقف في وجهه، لأنّه يطوف البلاد ولا يَني؛ ويَرضى، مثله، بشظف المُقام، في تنقلاته عبر البوادي، يتحمّل الأتعاب، ولا يشكو الكلل.
وكـان يقـول بورڨيبة – عمّـــن كـــان يُسمّيه باسمـــه لا بلقبه : «محــــي الدين هو الذي أتعبني، في العمل الميداني الذي كنت أقوم به، لأنّه مثلي، كان لا يبقى وراء مكتبه؛ فكان مؤمنا مثلي بجدوى الاتّصال المباشر بالقاعدة، في كلّ أنحاء البلاد». فـي الخصومة القائمة، إذّاك، بين الحزبيـن –اللجنة التنفيذيّة والديوان السياسي، كان لعزّوز الرباعي، ولأستاذه البلهوان، دور مُتميّز في فوز الحزب الجديد بالزّعامة لدى جماهير الشباب، في العاصمة: زعامة افتكّها هذا الحزب الناشئ من أيدي حزب عتيد، معروف برجــــالاته، ومتجذّر في كبريات المدن، وفي الرأي العام – كما سيقول بورقيبة في خُطَبه بعد الاستقلال. ذلك أنّ الحماس العارم، الذي اختصت به أيضا دعاية «الديوان السياسي»، كان له أثر عميق في شباب المدارس، وفي طلبة الزيتونة: يحضرون الاجتماعات الكثيرة، هنا وهناك، ويطالعون ما ينشره الحزب من مقالات، بالعربيّة وبالفرنسيّة، نبراتها جديدة، وجرأتها غير مسبوقة. ولعزّوز الرباعي فضل أخصّ، إذ كـــان يحضر اجتماعات الحـــزب الشيوعي، ويفتكّ الكلمة من أصحابها، بالعربيّة أو بالفرنسيّة، حسب الظروف. فيُفسد عليهم دعايتَهم، لدى الشبان الحاضرين.
وكان الحزب الشيوعي، إذّاك، قد بدأ يتغلغل في المدارس، بتأثير أساتذة فرنسيّين، وأساتذة يهود، كانوا يَدْعُون إلى النِضال الاجتماعي، باعتباره أهمّ من الكفاح السياسي – في نظرهم. ومرّت الأيّام، ودخل عزّوز الرباعي السّجن. وغابت عنّا أخباره لمدّة. ثمّ علمتُ أنّه توجّه إلى دراسة الحقوق؛ ولعل الدفاع عن الوطن شَغَفَهُ حُبّا وحماسةً، فدَفعَه إلى اختيار المحاماة مهنةً.
ولم يَعُد اتصالي به إلاّ بعد الاستقلال، وقيام الدولة، إذ عُيّن على رأس كتابة الدولة للشباب والرياضة. بينما عُيّن أستاذه علاّلة البلهوان شيخا لمدينة تونس – وكان الكثيرون يتوقّعون له وزارة التعليم. ورغم أنّ اضطلاعه بهذه المسؤوليّة لم يكن لمدّة طويلة، فإنّ «سي عزّوز» أرسى قواعد في مجالات عديدة، يَذكُر منها أهلُ الذّكر النواة لِمشروع أطفال بورڨيبة، للمّ شتات المشرَّدين في كلّ مكان؛ وتوحيدِ الحركة الكشفيّة. ثمّ لمّا تولّى الأخ أحمد بن صالح وزارة الإقتصاد، أنْشِئت مجموعة من الشركات التابعة للدولة؛ ومنها الشـــركة التونسيّة للتوزيع، المعروفة بـ«STD». وعُيّن لقيادتها عزّوز الرباعي.
قامت هذه الشركة بعمل حثيث، في خــدمة الثقافة، من خلال توزيع الكتاب، في مختلف أنحاء البلاد، وفي الخارج. بل إنّ الشركة اهتمّت أيضا – ولو بصورة جانبيّة – بإنتاج الاسطوانات، وبعض التقنيات والمرافق الإداريّة. ويُمكن أن نعتبرَ أنّ ما قامت به هذه الشركة، بإدارة سي عزّوز، كان إذّاك لَبـِنة هامّة في بناء الثقافة التونسيّة. لكن، والحقّ يُقال، كانت مواهب عــزّوز الرباعي متّجهة دوما إلى العمل الحزبي : إذ كان الرجل داعية لا يُشقّ له غبار، مسكونا بالشّأن الشعبي. وكان الحزب في حــاجة إلى مناضل من نوع سي عزّوز، وفي اتّقاد حماسه الذي لم ينطفئ بعد الاستقلال. ولكنّه لم يَنلْ من المسؤوليات ما كان يتطلّع إليه.ربّما «لطول لِسانه»، فجعَل له الخصوم في الأوساط القريبة من الرئيس.
ولقد وُسّم في وقت ما. لكن ليس على الدرجة التي يراها مُحبّوه أنّه لها أهل، بحكم سَبْقِه في الكفاح، وتضحياته. والحقّ يُقال أيضا، لم يدفعه هــذا الحرمان إلى الابتعاد عن الحزب، ولا عن النظام البورڨيبي، عند اندلاع الثورة اليوسفيّة. وحتّى، بعد السابع من نوفمبر، كان هَمَّه الأوّل إنقاذُ الحزب من التلاشي: كان يغار عليه، ولا يرضى له بزوال رسالته. ذلك أنّ الحزب، في نظر عزّوز الرباعي، مؤسّسة وطنيّة، ذات رسالة دائمة: قيادة الكفاح زمن الاستعمار؛ وفي عهد الدولة المستقلّة، قيادة الجماهير الشعبيّة، في معركة الخروج من التخلّف. كما أنّ سي عزّوز كان يرى أنّ الحفاظ على استقلال تونس لا يكون إلاّ بتقوية لحمة الشعب؛ ولحامه، في نظره، إنّما هــو الحزب. وكان كثيرا ما يُحدّثني عن هاجس القاعدة الحزبيّة، لديه، وحرصه على وقايتها من الضَيَاع، باعتبارها رصيدا نفيسا في قلب التاريخ الوطني، وحِصنا حصينا للوطن وللدولة.
فلمّا أُنشىء حزب التجمّع، كان سي عزّوز يعتقد أنّه اسم جديد لحزب الأمّة الذي أنشأه بورڨيبة: الحزب الذي قاد كلّ المعارك بقوّة وامتياز. وخلاصة القول، في بيان الدور الذي اضطلع به الأخ عزّوز الرباعي، في الكفاح الوطني، إنّ اسمه بقي رمزا حيّا من أبرز رموز الكفاح الوطني، ومَرْجعا نضاليّا في مسيرة الشباب التونسي
أعطى سي عزّوز الحزب الكثير من طاقاته، لكنّه لم يُعْرَفْ له انتماءٌ خاصّ إلى زعيم من كبار الزعماء. وربّما كان ذلك، أيضا، من أسباب بُطء صعوده في سلّم المسؤوليات الحزبيّة. لكن، ممّا عَوّض عنه الكثير من الغَبْن، وأكسب حياته ألَقًا خاصّا، أَنْ قاسَمَتْه، جُزءا هامّا من مسيرته النضاليّة، إمرأةٌ ذاتُ خصال لامعة، من فصاحة لسان، وجســـارة قول، ورباطة جأش،وقوّة حضـــور. ولئن كانت تنتمي إلى أسرة مِن قلب «بلْـديّة» العاصمة، فقد كانت مشغوفة بالنضال، تفيض طموحـا، وتتّقد حماسا.
كانت أسماء بلخوجة في طليعة وجوه النضال النسائي. هي أيضا لم يكن يهدأ لها بـــال، إلاّ بالقيام بتبليغ رسالات الاتحاد النسائي، تحت راية الحزب.تحضر المظاهرات، في الصفّ الأوّل، وتُواجه الصّعاب ببسالة وعزيمة. عزّوز وأسماء، ربط بينهما الزواج، لكن أيضا وحّد بينهما النضال، والغيرة على الوطن، والتعلّق بحزب الأمّة، مهما كانت الظروف.
الشاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق