أخبار - 2018.06.26

»وصف إيالة تونس« للقنصل بيليسيي, هل كان تمهيدا للاحتلال الفرنسي؟

«وصف إيالة تونس» للقنصل بيليسيي, هل كان تمهيدا للاحتلال الفرنسي؟

لئن بات انتصاب الحماية الفرنسيّة على البلاد التّونسيّة واقعا سياسيّا و عسكريّا بعد إمضاء معاهدة باردو في 12 ماي 1881 فإنّ نوايا احتلال تونس قد برزت قبل ذلك بزمن بعيد ، وتدلّ مؤشّرات كثيرة على أنّ فرنسا التّي احتلت الجزائر منذ 1830 كانت تخطّط لبسط هيمنتها على تونس منذ أربعينات القرن التّاسع عشر.

لقد تمكّنت فرنسا من إبرام معاهدات تعفي بضائعها من جلّ الرّسوم الجمركيّة ومن المكوس الدّاخليّة، وتحصّل القنصل روسطان على امتيازات لفائدة رجال الأعمال الفرنسيين وأتاح لبلاده الفوز بصفقة مدّ الخطّ الحديدي بين الجزائر وتونس ثم مدّ كلّ السّكك الحديديّة بالبلاد التونسية وحفر ميناء بمدينة تونس، وتسابقت الشّركات الفرنسيّة على شراء الأراضي الفلاحيّة التّونسية. وفضلا عن ذلك كلّه فإنّ عملا استخباراتيّا كان يتمّ بالتّوازي مع التّغلغل الاقتصادي والمالي لتسهيل عملية الدّخول الى البلاد التّونسية.

لعلّ الكتاب الذي حرّره قنصل فرنسا بسوسـة «ارنست بيليسيي دي راينو» وصدر عن المطبعة الملكيّة بباريس سنة 1853 ضمن سلسلة «الاستطلاعات العلميــة للجزائر» وحمل عنوان «وصف إيالة تونس» يتنزّل في هذا الإطار، فهو عند التّأمّل أقرب إلى التّقرير الاستراتيجي الاستعلامي منه إلى أيّ شيء آخر. يبدو الكتاب في ظاهره من جنس أدب الرّحلة فهو يتكوّن من ثلاثة أجزاء: خُصّص أوّلها لعرض المعطيات الجغرافية والطبيعية لمعظم مناطق الإيالة واهتم ثانيها بتقديم الجغرافيا التّاريخية للبلاد التّونسية من خلال تعقّب التقسيم الاداري للإيالة وما تحويه من آثار ونقائش قديمة، وتضمّن الجزء الثّالث وصفا لتنظيمات البلاد ومؤسّساتها ومعلومات عن القضاء ورجال الدّين والعسكر ومصادر الثّروة.
إلاّ أنّ القارئ يمكن أن يلاحظ بيسر أنّ الكتاب ليس عملا علميّا خالصا مُنزَّها عن كلّ غائيّة سياسيّة واستعماريّة، فإلى جانــب ما تضمّنه من معطيات دقيقة عن مختلف مناطق البلاد وسكّانها ممّا لا يتاح عادة للرحّالة وعموم الزّائرين فإنه ينطوي على محاولة لفهم خصوصيّات بلد تُعتَزَم السّيطرة عليه واستقصاء مقوّماته الطّبيعيّة والبشريّة ورصد إمكانيّاته العسكريّة والدفاعيّة وتقييمها، وهي مقاصد ترجّح أنّ الكتاب وُضع في الأصل لتسهيل اجتياح عسكريّ محتمل.
وربما أمكن لقارئ الكتاب أن يقف على أربع قرائن كبرى تكشف أهداف المؤلّف الخفية المُضمرة:

تمجيد الفترة الرّومانيّة 

لا يُفوّت بيليسيي أيّة مناسبة تُـتاح له للإشادة بالعهود التّي حكم فيها الرّومان البلاد التونسية، فهو يتحدّث عنها باعتبارها مرحلة ازدهار ماديّ ونهضة اقتصاديّة وحضاريّة ويسمّيها فترة «أناقة وثراء»، إذ يُذكّر دائما بأنّ تونس كانت مقاطعة مزدهرة للامبراطوريّة الرّومانية الشّاسعة، ولا يتوانى عن إطراء ما أضافه الرّومان في مستوى المعمار والأبنية وفي مستوى العادات والتّقاليد وفي مستوى الصّنائع وخلق الثّروة وتحقيق الرّخاء. ولا خفاء أنّ بيليسيي يلمّح من خلال ذلك كلّه إلى أنّ البلاد محتاجة، للخروج من حال البؤس والفقر والتّأخر التّي لاحظها في جلّ مناطق الإيالة، إلى «رومان جدد» – ليسوا سوى أحفاد الأسلاف القدامى – يجلبون إلى هذه الأرض أسباب التّمدّن والتّحضّر والنّماء فيغيّروا تخلّفها نهضةً وتقهقرها تقدّما وضعفها قوّة، وهو لا يتردّد في القول: «وعموما يمكننا في الشّمال الإفريقي الرّجوع بكل ثقة إلى الرّومان في اختياراتهم، واعتقد أنّ ذلك هو الشّأن في كلّ مكان وضع فيه هذا الشّعب العظيم أقدامه».

رصد الطّرق المؤدّية الى تونس

كان اهتمام بيليسيي متّجها – على امتداد فصول كتابه – إلى تتّبع الطّرق والمسالك المؤدّية الى قتحام تونس برّا وبحرا سواء من الجهة الغربيّة حيث الجزائر، وهي آنذاك مستعمرة فرنسيّة، أو من الجهة الجنوبيّة حيث طرابلس الولاية العثمانيّة المستضعَفة. لقد رصد بيليسيي أهمّ الطّرقات والمنافذ التّي يمكن التّسلّل منها إلى الأراضي التّونسيّة ونبّه إلى الحواجز الطّبيعيّة على الحدود الغربيّة مع الجزائر وأشار إلى السّبل الكفيلة بتجاوزها. فهو يصف السّلسلة الجبليّة الفاصلة بين تونس والجزائر ويذكّر بأنّ الدّخول إلى منطقة أو أخرى لا يتأتّى إلّا بتخطّي الجبال التّي تفصل بين البلدين، إلّا أنّه يقترح بعض المعابر التّي لا تعترض فيها تلك الحواجز ، من ذلك طريق وادي سرّاط وطريق فوسانة: «ويمكن للطّريقين الآخرين – طريق وادي سرّاط وطريق فوسانة – أن تؤدّيا بجيوشنا مباشرة إلى وسط البلاد، فالأولى من هذين الطّريقين هي ممرّ سهل العبور، والثّانية قد تمثّل بعض الصّعوبات غير أنّها ليس بالجديّة كثيرا، ويمكن أن تكون مدينة تبسّة الجزائريّة قاعدة عمليّات للقوّة التّي يمكن أن تتحرّك عبر أحد هذين المسلكين».
وتفطّن بيليسيي إلى معبر قديم كان موجودا في سفح جبل الجريصة وهو يقع على خطوط طبيعيّة للمواصلات بين الجزائر وإيّالة تونس، إلاّ أنّه يعتبر أن أفضل المداخل الغربية يكون عبر سهل وادي مجردة: «وقد يكون تقدُّم الجيش مخطَّطا له بصفة طبيعيّة عبر سهل مجردة الذّي يقوده حتّى مجاز الباب وتكون المسافة من هذه القرية إلى تونس قصيرة ويسيرة».
أمّا من الجهة الجنوبيّة فقد رسم بيليسيي مسارين اثنين يمرّان عبر منطقة الأعراض: أوّلهما طريق السّاحل الشّرقيّ وثانيهما طريق غربي بحيرة البيبان، وقدّر المسيرة بين طرابلس ومنطقة البيبان بثلاثة أيّام واعتبر المسلك الثّاني أقصر المسلكين وأضمنهما.

الاستخبار عن العسكر ومقدّراته

ولعلّ ما يؤكّد الصّبغة الاستخباراتيّة لهذا الكتاب ويعزّز فرضيّة أن يكون قد وُضع تمهيدا لتدخّل عسكريّ فرنسيّ محتملٍ ما يتضمّنه من معطيات دقيقة عن القوّات العسكريّة في تونس وفرق الجيش النّظاميّة وغير النّظاميّة وفــرق حماية الحدود، وما ورد فيه من احصائيّات مفصّلة تتّصل بالجند والأسلحة والذّخيرة والتّجهيزات الحربيّة, وهي معطيات ترتقي إلى مرتبة أسرار الدّولة التّي لا يمكن لغير كبار قادة العسكر وأمرائه معرفتها، إلاّ أنّ بيليسيي تمكّن من الوصول إليها بما يقيم الدّليل على أنّه وجد تسهيلات من كبار مسؤولي الدّولة آنذاك وفي مقدّمتهم المشير أحمد باشا باي نفسه، ذلك أنّ شروع بيليسيي في جولته عبر أنحاء البلاد وتسجيل تقييداته بشأن إيالة تونس جاء مباشرة بعد عودة الباي من فرنسا حيث حظي بحفاوة بالغة أواخر سنة 1846. وعلى هذا النّحو سنجد في هذا الكتاب أنّ الجيش النّظاميّ في تونس يتكوّن من سبعة فيالق من المشاة وفيلق من الخيّالة وفيلقين من المدفعيّة، ويمثّل مجموعهم ما بين ستّة عشر إلى سبعة عشر ألف رجل «بأزياء أوروبية مضحكة».
وينقسم كلّ فيلق من المشاة إلى ثلاث كتائب من ثماني فرق، ويضمّ فيلق الخيّالة ستّ سرايا، ويضمّ فيلقا المدفعية معا أربعة وعشرين مدفعا مجهّزة نسبيّا، اثنان منها بخيول وفرقتين من الطّبجيّة وفرقتين من العملة. أمّا الأسلحة فقد علم بيليسيي أنّها في وضعية سيّئة، وتتكوّن أساسا من بنادق من الفئات المستجلبة من أوروبا، ولكنّ الباي يمتلك في مخازنه ذخيرة من البنادق الجديدة.
وأما عن جيش البحر، فقد توصّل إلى معرفة أنّ تونس لا تملك إلاّ «فرقاطة «واحدة مازالت في التّرسانة و«كرواطتين» وسفينة بخاريّة منحتها فرنسا مقابل تزويدها بالخيول، وأنّ عدد العاملين في البحريّة لا يبلغ اكثر من ألف ومائتي شخص.
وخلُص بيليسي في النّهاية إلى أنّ الجيش النّظامي التّونسي جيش بسيط يفتقد إلى التّماسك، بل ذهب الى القول: «وأنا مقتنع بأنّه لا يستطيع الصّمود أمام ستّة أفواج من جيشنا الإفريقي سواء من المسيحيّين أو من المسلمين».

الإغراء بمحاصيل الأرض وثرواتها 

شمل وصف بيليسيي لإيالة تونس تقريرا ضافيا عن مصادر الدّخل والمحاصيل الزّراعيّة والثّروات الباطنيّة، وهو محور هامّ ولا شكّ بالنّسبة إلى بلد له نوايا استعماريّة. وقد دوّن في كتابه معطيات هامّة عن الإنتاج الفلاحي والمدّخرات المنجميّة والثّروتين الغابيّة والبحريّة. لم يَفُت بيليسيي أن يذكّر بأنّ تونس كانت مطمورة روما وأنّها وفّرت لأوروبّا في عصور غير بعيدة كميّات كبيرة من الحبوب، ثم تحدّث عن المقاطعات الخصبة مثل منطقة «فريقا» وحوض مجردة وأراضي الشّمال الغربي ومنطقة زغوان- الفحص التّي قال عنها: «إنّ هذه المقاطعة الخصبة بإمكانها عند زراعتها بإحكام أن تُطعم أكثر من خمسين ألف ساكن».
وأولى اهتمـــاما خاصّا بغراسة الزّياتين وتجارة الزّيت فلاحظ أنّ الجزء من السّاحل المكوّن لقيادة سوسة من أثرى مناطق الإيالة زيتا: «ويمكن لنا القول بأنّ نصف هذه المقاطعة تقريبا ليس سوى غابة من الزّياتين حيث لا يُزاحم أيّ نبات آخر هذه الشّجرة الضّروريّة والثّمينة».
أمّا غراسات الوطن القبلي فقال بشأنها: «لم أشاهد في أيّ مكان من إفريقيا محاصيل أكثر منها نضارة».
واستوقفته الثّروة الغابيّة الهائلة في منطقة خمير ومقعد فلفت الانتباه إلى إمكان استغلالها في صناعة السّفن: «والغابات يمكن أن تُستغَلَّ بطريقة أكثر نفعا لو كانت إدارة البلاد غير التّي هي عليه ويكون الأمر كذلك بالنّسبة إلى الغابات البديعة لطبرقة وهي التّي من الممكن أن توفّر ثروات طائلة لصناعة السّفن».
وقبل اكتشـــاف الفسفاط في الجنوب الغربي بسنوات عديدة توقّع بيليسيي وجود مناجم للحديد في عدّة مواقع خاصّة في القلعة الجرداء وجبل الجريصة وفي كلّ الجبال الحدودية مع الجزائر. وبذلك يتبيّن أنّ كتاب «وصف إيالة تونس» وُضع في إطار تقصّي حال البلاد التّونسية اقتصاديّا وعسكريّا ودراسة مسالكها وخصائصها الطّبيعيّة والبشريّة تحيُّنا للظّروف المساعدة على احتلالها، ذلك أنّ الأطماع الفرنسيّة في قطف الثّمرة التّونسية كانت جليّة واضحة.ألم يقل المستشار الألماني «بيسمارك» لسفير فرنسا ببرلين «الكونت دي سانت  فاليي»: «إني أعتقد بأنّ الإجّاصة التّونسية قد نضجت وآن لكم أن تقطفوها»؟
الحبيب الدّريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.