كلمة المناضل الدستوري المنصف الهرقلي في تأبين المرحوم المنجي الكعلي
بكلمة جدّ مؤثّرة أبّن المناضل الدستوري والمدير الأسبق لإذاعة المنستير السيد المنصف الهرقلي المرحوم المنجي الكعلي وزير بورقيبة الأسبق الذي شيّعه جمع حاشد من الدستوريين من مختلف الأجيال وشخصيات وطنية وأهالي قصر هلال إلى مثواه
واستعرض السيد المنصف الهرقلي مسيرة الفقيد والمسؤليات التي تحمّلها، كاتبا عاما للاتحاد العام لطلبة تونس وواليا ومديرا عامّا للأمن الوطني وسفيرا ووزيرا ومديرا للحزب الاشتراكي الدستوري، معدّدا خصاله ومناقبه إبان اضطلاعه بهذه المسؤوليات، ومنها بالخصوص الثبات على المبدإ والنزاهة ونظافة اليد والوفاء.
وذكّر برفض الفقيد للمواجهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل عشية أحداث 26 جانفي 1978 الدامية حيث فضّل الاستقالة من الحكومة وكذلك رفضه لكل محاولات استقطابه من النظام السابق، عقب "الانقلاب الطبي" ضدّ الرئيس الحبيب بورقيبة في 7 نوفمبر 1987.
وفيما يلي نصّ الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
الله أكبر...الله أكبر...الله أكبر، إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليخشع وإنّا بفراقك يا أخانا المنجي لمحزونون! ولا نقول إلاّ ما يرضي الربّ:
إنّا لله وإنّا إليه راجعون قال تعالى: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا".
أيّها الراحل العزيز
منذ 88 سنة خلت انبلج فجر عمرك في عروس المدائن قصر هلال التي شهدت بعد مولدك بأربع سنوات مؤتمر البعث للحزب الحرّ الدستوري الجديد لتدخل التاريخ من بابه الواسع حيث أضحت قلعة للنّضال من أجل الحرية والاستقلال فاغتنيت بلبانها الوطنية ونشأت في ربوعها الفيحاء يحدوك تحقيق آمال والدك المرحوم علي الذي فقدته يافعا ولم تبلغ بعد عشر سنوات في التحصيل العلمي والرقيّ الاجتماعي حتّى تخرّجت من جامعة باريس محاميا جهبذا لتحمل بين جبينك فيضا من الوطنية زرعته فيك الشعبة الدستورية التي انتخبت فيها عضوا مكلّفا بالشباب إلى أن شاءت الأقدار أن قابلت الزعيم المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة ضمن وفد الشعبة بعد عودته سنة 1949 من المشرق العربي فكانت لحظة فارقة في حياتك بعد أن خصّك بعطفه عندما علم أنّك ابن زميله المرحوم علي حيث درسا سويّا بالصادقية ودعا إلى مرافقته في جولته بربوع الساحل كلّه فنشأت بينكما قصّة عشق، عشق الأب لابنه والابن لأبيه بعد أن آمنت به كزعيم فذّ لِما شهدت منه من تواضع مع شعبه حيث كان، كما أسررت لي، يجلس على الحصير معهم ليأكل ممّا يأكلون بيده كما يفعلون ويشرب ممّا يشربون ويعانق هذا وذاك وشفاههم لم تجفّ من مرق طعامهم- فانصهرت مع والدك الروحي في ملحمة لا انفصام لها حتّى أصبحت إطارا يعوّل عليك. فدفع بك إلى عديد المسؤوليّات يتابع نشاطك ويستمع إلى خطبك فيشكرك على بعضها وينتقدك في البعض الآخر تماما كما بفعل المربّي الحاذق مع تلميذه النبيه. فكنت بذلك عن جدارة أحد خرّيجي المدرسة البورقيبية بامتياز فتقلبت في عديد المناصب وارتقيت في سلّمها بعد أن أثبتت في كلّ مرّة جدارتك بها فدخلت مجلس النوّاب فترتين من 1974 إلى 1977 ومن 1981 إلى 1986. وولّيت مرتين بكلّ من جندوبة فيما بين 1964-1967 وبنزرت 1967- 1969 ثمّ عُيّنت مديراعاما للأمن الوطني فكاتب دولة للخارجية فسفيرا لتونس بإسبانيا ثمّ وزيرا للصحة العمومية في حكومة المرحوم الهادي نويرة ثمّ وزيرا معتمدا لدى الوزير الأول في حكومة المرحوم محمد مزالي ومديرا للحزب الاشتراكي الدستوري ثمّ دُعيت للعمل كوزير ممثّل شخصي لرئيس الجمهورية وأخيرا سفيرا لتونس بتشيكوسلوفاكيا فكانت نهاية المطاف في صيرورة المسؤوليات التي أُسندت إليك.
أيّها الراحل العزيز
لم يكن تعدّد المسؤوليات، وتنوّعها - على ثرائها وأهميّتها- مصدر فخرك ومنبع مجدك وطيّب ذكرك بقدر الخاصيات المميّزة التي اتصفت بها طيلة ممارستك لتلك المسؤوليّات، لقد كنت جمعا في فرد وأيقونة متميّزة جعلتك أنت بما حباك الله به من جمّ الخصال الرفيعة والسجايا النبيلة، لقد كنت صادق في قولك مخلصا في عملك تصل الليل بالنهار لتضطلع بالأمانة التي حُمّلتها حتّى أُصبت بداء السكرّي الذي لم تكن تعبأ به ممّا أثّر على صحّتك التي وهبتها لوطنك: رأيتك، والله شاهد على ما أقول، تنزع جبّتك بعد أن تخصّبت بالعرق في اجتماع دعوتك إليه بلجنة التنسيق بالمنستير فتعصرها ليخرج منها ما يملأ "طاسة ربعية" من العرق لتضعها من جديد وتشدّ الرحال إثرها ليلا إلى تونس. رأيتك تجوب الولايات وأنت مديرا للحزب صيفا وشتاء لتهيئة القواعد في كل المناسبات وخاصّة بمناسبة الانتخابات التشريعية التعددية دون كلل أو ملل.
لقد كنت أمينا في معشرك إلى حدّ الإيثار بمصالحك وصحّتك مثلما تشهد بذلك رسالتك إلى بورقيبة وأنت مبعد عن كل مسؤولية والتي كتبتها بلغة Molière التي تحذقها كأحد أبنائها العارفين مفاخرا بقولك " إنّ خير إرث أتركه لأبنائي هو خدمة نظام بورقيبة مع بورقيبة وبإشراف بورقيبة بصدق وأمان".
لقد ساررتني يوما إثر حوادث الخبز بتحريض البعض من دائرة بورقيبة على الابتعاد عن محمد مزالي حتّى تحافظ على موقعك بالدولة فرفضت ذلك في إباء الشامخين وكبرياء المخلصين ودفعت الثمن بإعفائك من مهامّك كمدير للحزب وكوزير.
أيّها الراحل العزيز
كنت صريحا في ممارستك لأمانة مسؤوليتك فكنت تجاهر بورقيبة والوزير الأول بما لا يجرأ عليه أحد لأنّك تؤمن بالحديث الشريف " الساكت عن الحق شيطان أخرس"
كنت تصدع بالحقّ ولو كان مرّا وتقارع خصومك كما يحلو لك قوله دائما، بقوّة الحجّة لا بحجّة القوة فانتزعت إعجاب منافسيك وحتى أعدائك قبل أصدقائك وأقربائك.
كنت أيّها الراحل العزيز صارما في المبادئ مناورا في الوسائل.
قد عاينتُ عن كثب مكابدتك لتحقيق المصالحة بين الحزب الاشتراكي الدستوري والاتحاد العام التونسي للشغل واستطعت بصدق نيتك وحصافة رأيك وبلاغة خطابك تحقيق تلك المصالحة وطيّ صفحة حوادث 26 جانفي 1978 وجعلت الاتحاد يدخل في الجبهة الوطنية التي استحدثتها للدخول في الانتخابات التشريعية التعددية التي جدّت في نوفمبر 1981 وقد كانت رفقة المرحوم محمّد مزالي عرّابا الديمقراطية التي آمنتها بها باعتبارها صمام الأمان للبلاد والعباد لولا أنّها أُجهضت في المهد لأسباب لا يتسع المجال لذكرها.
أيّها الراحل العزيز
لقد كنت شفّافا في إدارتك لكلّ المسؤوليات التي ارتبطت بعهدك فلم تكسب منفعة خاصّة ولا راكمت ثروة من حرام فكنت قاسيا مع نفسك أكثر من قسوتك على غيرك في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل.
لقد بلغ بك حرصك على المال العام أنّك حاسبت وزارة الداخلية بالوثائق المؤيدة لكلّ ما صرفته من الصندوق الأسود على خلاف المعتاد ممّن سبقوك في مسؤولية الإدارة العامة للأمن الوطني خالقا بذلك سابقة أثارت عجب القاضي والدّاني.
أيّها الراحل العزيز
دعني أشيد ذكرا لا حصرا بذلك الموقف الوطني الرائع الذي أخذته صونا لحرمة تونس وذودا عن سيادتها عندما ألغيت زيارة للرئيس الراحل المرحوم الحبيب بورقيبة كان يعتزم القيام بها لأوّل مرة إلى موسكو لأنّ السلطات آنذاك لم تتعهّد بأن يقوم Brejnev رئيس المجلس السوفياتي الأعلى باستقبال بورقيبة بنفسه في المطار وقد شكرك بورقيبة على هذا الموقف الشجاع لأنّك كنت مثل بورقيبة، وأنت تلميذه الوفيّ، تضع سمعة تونس فوق كلّ اعتبار.
أيّها الراحل العزيز
كنت صلبا في اختياراتك حاسما في قراراتك خاصّة مع كلّ ما يخدش كرامتك أو يعيق عملك لذلك سارعت إلى تقديم استقالتك من وزارة الصحّة في حكومة المرحوم الهادي نويرة عندما شعرت بالأيادي الخفية التي أرادت أن تعاملك بنقيض مقصودك خاصة في قضية احداث قصر هلال التي كانت إرهاصا لحوادث 26 جانفي 1978 ففضّلت التضحية بمنصبك على التضحية بقناعاتك إيمانا منك بأنّ المبادئ باقية والمصالح زائلة.
أيّها الراحل العزيز
مؤمنا كنت صادق الإيمان مخلصا لمبادئ دينك قولا وعملا -لقد رأيتك تبكي بكاء الأطفال في صعيد عرفات وأنت تتلو الذكر الحكيم عندما أدّينا سويّا مناسك الحجّ ضمن البعثة الرسمية في خريف 1983 وقد شرّفت تونس التي أسندت لها ولأوّل مرّة مهمّة إلقاء الكلمة الرسمية للوفود الإسلامية أمام خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل فهد بن عبد العزيز فاستحسن خطابك الذي أثلج صدره وقبّلك ستّ مرّات امتنانا منه لك ولبلدك تونس.
أيّها الراحل العزيز
هذا فيض من غيض من آثارك تنمّ عن قوّة شخصيتك ورفيع معدنك وصادق وطنيتك وعالي كفاءتك.
وقديما قيل:
تلك آثارنا تدلّ علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
أيّها الراحل العزيز
من الصعب أن نختزل عمرك المديد وجهدك المضني ومآثرك الجمّة في كلمة مهما طالت تبقى مخلّة في حقّك، مقصّرة في فضلك ولكن أردنا من ذلك إنارة للسبل الناشئة حتّى تنسج على منوال أسلافها في رفعة الوطن وخدمة الناس عملا بقوله صلّى الله عليه وسلّم " خير الناس أنفعهم للناس" ووفاء لمن ضحّوا في سبيل البلاد وخدمة العباد حتّى يبقوا منارات تهتدي بهديها الأجيال فتكرّمهم بما يستحقون تأسيسا لثقافة الوفاء التي يجب أن تسود في بلادنا عملا بقول الشاعر: وإذا كرّم الأوطان بنوها -بوّأتهم مراتب الأسياد
فنم قرير العين أخانا المنجي بما أنجزت وعملت وليجازك الله عن ذلك خير الجزاء وليتقبلك بواسع مغفرته ويكلأك بشآبيب رحمته وليدخلك فسيح جنته مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين وليرزق أهلك وذويك وكلّ من عرفك جميل الصبر والسلوان وليبارك في خلفك الطيبين .
"يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربّك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وادخلي جنّتي" صد ق الله العظيم
قراءة المزيد
قصر هلال تودّع ابنها البارّ المرحوم المنجي الكعلي وزير بورقيبة الأسبق
المنجي الكعلي وزير بورقيبة الأسبق في ذمة الله
- اكتب تعليق
- تعليق