احميده النيفر: فــي الحـُبّ زمـنَ الحـروب
1 - افتتح ابن حزم الأندلسي (تــ 456 هـ/ 1064م) رسالة «طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف» وهي الفريدة في أدب العشق والألفة بعبارة شهيرة : الحبُّ أعزّك الله... «أهمّ ما يميّز هذا الافتتاح إضافة إلى تركيبه الإيقاعي هو إبرازه لجدلية التصوّر العربي الإسلامي للحبّ. هو في ذات الوقت صادر عن ابن حزم الأندلسي سليل الأسرة القرطبية الماجدة والفقيه الظاهري المتميّز والسياسي المنافح عن الحزب الأموي ودولته. قال ذلك في مطلع رسالته «طوق الحمامة»: الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزلٌ وآخره جِدٌّ، دَقّتْ معانيه لجلالتها على أن توصف فلا تُدرَك إلاّ بالمعاناة. وليس بمُنكَر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عزّ وجلّ».
2 - ما اختصّت به هذه الرسالة هي أنّها أشهر تنظير للحبّ عند العرب قدّم فيه ابن حزم هذه العاطفة على أنّها تعبير وجداني يصدر من أعماق الذّات الإنسانية بأبعادها المختلفة. موضوع الحبّ في طوق الحمامة إضافة إلى فَرديّة طابعه الخاصّ هو في الآن ذاته تجسيد لثقافة المجتمع الأندلسي بما يجعل الحبَ تركيبا لحركتين متفاعلتين: بحثٌ عن الأنا في الآخر وتفاعل الذّات مع حركة المجتمع الخفيّة. من هذه الرؤية الجدلية التي انتهى إليها الفقيه القرطبي ابن القرن الخامس الهجري تتّضح إحدى خصائص الحضارة العربية الإسلامية وهي أنّها حضارة جدل العقل والقلب وأنّها من هذا التكامل تبرز طابعها الرّوحي المميّز. هو ذلك الطابع الذي ظلّ حاضرا، رغم التّضييق عليه في أطوار لاحقة من تاريخ المسلمين. نفس هذا الطابع جعل بعض الدّارسين من الثقافات الأخرى يعترفون بهذه الخصوصية مثل الفرنسي «ستندال» (Stendhal) الذي صرّح في كتابه « في الحب» (De L’Amour) أنّه: «يجب أن نبحث عن أنموذح الحب في الحب العربي باعتباره قيمة سامية ونبيلة».
3 - هي ذات الفكرة التي سيسعى محمد إقبال في العصر الحديث أن يجلّيها في قراءته التجديدية الفلسفية لرسالة الإسلام حين رأى أنّه دين «يمكّن الإنسانيّة من تأويل الكون تأويلا روحيا» واضعا لذلك «مبادئ أساسية ذات أهميّة عالمية تطوّر المجتمع الإنساني». إذا انصرفنا عن الغرب الإسلامي وعن قراءة ابن حزم الأندلسية التي تمثّلت ظاهرة الحبّ بين سياقَيْ الوجدان والعقل واتّجهنا صوب المشرق قابَلَنا فقيهٌ آخر لا يقلُّ شهرة عن ابن حزم بتأليف في الموضوع ذاته وإن اختلف مع «طوق الحمامة» ثقافةً و منهجا. إنّه شمس الدين محمد بن قيم الجوزية (تــ 751هــ/1350م) مؤلّف «روضة المحبّين ونزهة المشتاقين». يُبرز الكتاب طبع الفقيه الذي لا يستنكف عن الاتّصال بما عرف بـــ«التصوّف السنّي» المتقيِّد بــ«الكتاب والسنة وبالسير على أثر الرسول عليه الصّلاة والسّلام» حسب عبارة أبي القاسم الجُنيد.
4 - لا يختلف ابن القيم في هذا التوجّه عن شيخه الحنبلي تقي الدين بن تيمية الحرّاني (728 هـ /1326م) الذي يعتبر أنّ العبادة المأمور بها شرعا «تتضمّن معنى الذُلّ ومعنى الحبّ فهي تتضمّن غاية الذلّ لله تعالى بغاية المحبّة له».
ما يثير الانتباه في كتاب «روضة المحبّين» مقارنةً برسالة «طوق الحمامة» التي تَكبُرُها بما يناهز ثلاثة قرون هو أنّهما، وإن حرصا على تناول موضوع الحبّ دون حَرَجٍ أو وَجَل، فإنّ معالجة الفقيه الحنبلي المتأخّر أقلّ اعتناء برهافة الموضوع وأهميته الإنسانية من القرطبي الظاهري السابق له زمنيا. من هذه الزاوية فإنّ كتاب «روضة المحبّين» يكشف عن حالة انحسار لقدرات الإحساس والإبداع الواضحة في رسالة «طوق الحمامة» وكأن جُنح التّضييق أخذ يخيِّم بصورة واضحة على شرعية الوجدان في المجتمعات المسلمة خاصّة في السياق المشرقي.
5 - لقد بدأ جدلُ سياقَيْ العقل والقلب بما يفتحه ذلك الجدل من أفق إنساني لعاطفة الحبّ في التّراجع لصالح أولويّة الخصوصيّة التاريخية وما تستدعيه من ضرورة التقيّد بالنظام الاجتماعي والانضباط بقيمه الصّارمة.
تبرز هذه الحركة الانطوائية بجلاء من ثنايا « روضة المحبيّن» حيث يتواصل الإقرار بأهميّة الحبّ في الثقافة الإسلامية لكن بمنظور وُثُوقِّي تقريري مع حرص واضح على التّحذير من مزالقه ومهالكه. نقرأ في الباب الأوّل عن أسماء المحبّة أنّ العرب وضعوا لها «قريبا من ستّين اسما كالوَلَه والعشق والصّبوة والشّغف والغرام...[ وتلك ] عادتهم في كلّ ما اشتد إِلفهم له أو كَـثُر خطوره على قلوبهم تعظيما له أو اهتماما به أو محبّة له». هو إقرار بأهميّة الموضوع لكن ضمن سقف خصوصية تحتمي بما تعتبره عادة لدى القوم وما كان بقلوبهم أَعْلَقُ وأَلصق.
6 - تتواصل الأبواب الموالية على ذات النّسق إلى أن نصل إلى الباب السابع، باب المناظرة بين القلب والعين والكبد، حيث يقع الإعلان عن أنّ الحبّ إشكالٌ ينبغي الاحتياط منه ومراقبة دواعيه. يقول في ذلك ابن القيم: «لمّا كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذّة الرّؤية وهذا له لذّة الظّفر كانا في الهوى شريكَيْ عِنان. ولمّا وقعا في العَناء واشتركا في البلاء أقبل كلّ منهما يلوم صاحبه. قال القلب للعين: أنتِ التي سُقْتِني إلى موارد الهلكات وأوقعتني في الحسرات بمتابعتكِ اللحظات ونزّهتِ طرفك في تلك الرياض وطلبتِ الشّفاء من الحَدق المِراض وخالفتِ قول أحكم الحاكمين: «قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم...» وقولَ رسوله صلّى الله عليه وسلّم: «النظرُ إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه».
تجيب العينُ القلبَ متبرّئةً من الإثم باطنا وظاهرا ثمّ تتدخّل الكبد في الخصام والمناظرة معتبرة أنهما على هلاكها تساعدا وعلى قتلها تعاونا.
أهمّ ما يثيره هذا الكتاب الطريف الممتع في سبكه، القريب في مأخذه هو مساهمته الأكيدة في تدعيم تلك القراءة التراثية التي انخرطت فيها منظومة المسلمين الثقافية. تلك المنظومة التي تعتبر أن الإصلاح الديني لا صلة له بالأبعاد الإنسانية وتطلّعاتها الفكرية والرّوحية إنّما هو الحرص على العود إلى أسس الحضارة الخاصّة الكامنة بثبات في الثقافة المحلية و في التّراث. هي قراءة عملت على بناء خطاب تأثيمي لعاطفة المحبّة ظنّاً من أصحابها أنّهم يواجهون بذلك ما يعيشونه من انهيارات حضارية وسياسية جارفة مع ما صاحبها من أعطاب سلوكية وقيمية.
7 - عن هذا الاختلاف الواضح بين القراءتين الخاصّتين بالحبّ يقول محمد إقبال: «مثل هذه الطّاقة الهامّة أصيبت بتشويهٍ مُريع في العصور المتأخّرة جعل المتديّنين يأبون على أنفسهم طرق هذا الموضوع الخطير بما يُنقص قيمته». ثمّ يضيف محدّدا وجهته التجديدية لمواجهة التسيّب والانحطاط إذ يقول: «إنّ مصير شعب من الشّعوب لا يتوقّف على النّظام الذّي يحرص الفقيه على حمايته وتركيزه بقدر ما يتوقّف على قيمة الأفراد وقوّتهم ضمن ذلك المجتمع». لذلك فإنّ الســؤال الذي لا مفرّ من طرحه هو مُؤَدّى كلّ ما سبق عرضه ضمن اللحظة العربية الرّاهنة أو: أيُّ معنى للحديث عن الحبّ زمنَ الحرب؟
المؤكّد أنّنا نعيش دورة حضارية جديدة ضمن فترة انتقالية حاسمة من تاريخ المجال العربي وأنّ الحروب والانتفاضات والاعتداءات التي تشنُّ في المنطقة وعليها ينبغي أن تواجه بالـ«مقاومة الوطنية». لكن ليس بالقتال وحده يمكن تجاوز تحدّيات المرحلة وما يغلب عليها من ضبابية في الرّؤية والتجاء متنوّع في استعماله للثقافة الدينية. من ثم كان حَريًّا بنا مساهمةً في كشف الحجب ورفع الالتباس أن نستعيد قولة الأندلسي: «الحبّ، أعزّك الله....» مستحضرين معها مقولة إقبال، صاحب تجديد الفكر الديني في الإسلام حين اعتبر أن «دينًا ليس من مبادئه الدّعوة إلى المحبّة وتقدير الإبداع الحكيم وروعة الجمال في الكون هو دين باطل كلّ ما فيه أنّه وسيلة استغلال طبقة من الناس سذاجةَ غيرِهم».
د. احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق