الرحلات البريّة بين تونس والجزائر: تحايل بعض وكالات الأسفار التونسيّة وصمت السّلطات
ما بين 19 و25 مارس 2018، نظّمت إحدى الوداديات، عبر وكالة أسفار، رحلة برّية إلى الجزائر شارك فيها 48 شخصا. كان من المنتظر أن تكون رحلة سياحية يزور خلالها المسافرون أربع مدن جزائرية (عنابة، قسنطينة، سطيف وبجاية)، مع فرصة للقيام بالتسوّق في أسوق «العلمة» و«عين الفكرون» ولكن الرحلة تحوّلت إلى كابوس حقيقي، حيث وجد المسافرون أنفسهم يقضّون الليلة الأولى داخل الحافلة، عوضا عن الفندق، وتمّ تغيير مسار الرحلة عدّة مرّات نتيجة غياب الحجوزات في النزل ولم يتم الالتزام ببرنامج الرحلة. وعندما حاولوا أن يتقدموا بشكاية ضدّ صاحب وكالة الأسفار المنظّمة للرحلة، تمّ مدّهم فقط برقم هاتف لشخص، قال إنّه صاحب الوكالة، دون أن يعطيهم اسمها وعنوانها، كما أنّه لم يتحمّل أي مسؤولية لتعويضهم عمّا حصل لهم. «وبذلك ضاع حقنا!» كما قال متأسّفا محمود، أحد المشاركين في الرحلة.
محمود متقاعـد، علـم بهـــذه الـرحلة من خـلال أحد أصدقائه، فقرّر أن يشارك فيها مصحوبا بابنته وزوجـها وابنهــا ذي العـشر سنوات. لكنّه لم يتوقّع أبدا أن يجد نفسه وعائلته في وضعية من الفوضى وسوء التنظيم فاقت تصوّره، إلى درجة جعلته يندم على قبوله المشاركة فيها. عديد الرحلات البرّية تنظّم أسبوعيــا بين تــونس والجزائر من قبل وكالات أسفار، البعض منها لا يملك الصّفة القانونية لمزاولة هذا النشاط، وهي تتعاقد مــع حافلات جزائرية تأتي لتحميل مسافرين تــونسيين في خرق واضح للقانون ودون أن تحمل الرحلة أيّ تصريح من وزارة السياحة التونسية أو الديوان الوطني التونسي للسياحة. ولتفـــادي الإيقـــاف على مستوى المعابر الحدودية، يتمّ اللجوء لدفع رشاوى سواء للجانب التونسي أو الجزائري.
غياب «الإعلام برحلة»
في جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي للبحث عن رحلات بريّة للجزائر، يفاجئك عدد وكالات الأسفار التي تعلن عن رحلات أسبوعية بين البلدين بأسعار مغرية تتراوح بين 250 و290 دينار تونسي. يــزور خلالها المسافر ثلاث إلى أربع مدن جزائرية. معظم هذه الوكالات تقترح نفس البرنامج تقريبا مع تعديلات بسيطة لتنطلق أسبوعيا عشرات الرحلات من مناطق عدّة من الجمهورية نحو القطر الجزائري: من سوسة وصفاقس والمهدية والحمامات ومن تونس العاصمة (وتحديدا من شارع الحبيب بورقيبة). الــرحلات تتمّ بواسطة حافلات يتمّ استئجارها من الجزائر بطاقة استيعاب مــــا بين 48 إلى 54 مسافرا، يقودها سائق أو سائقان جزائريان. لا تملك وزارة السياحة ولا الديوان الوطني التونسي للسياحة إحصائية حول عدد الرحلات التي تُنظّم على هذه الوجهة ولا على عدد وكالات الأسفار التي تنظّمها، لأنّ أغلبها، إن لم نقل كلّها، تتمّ بدون الحصول على مـا يسمّى «إعلام برحلة» وهو وثيقة ينبغي أن تتحصّل عليها كلّ وكالة أسفار ترغب في تنظيم أيّة رحلة خارج التراب التونسي وتكون ممضية من وزارة السياحـة ومن الديوان الوطني التونسي للسياحة. وطبعا لا يعلم الحريف بهذه الوضعية، مثلمــا لا يعلــم أنّ الحافلة الجزائرية التي تقلّه، مـــن المفروض قانونيا أن لا تحمـل ركـابا تـونسيين، حسب ما أكّده لنا السيد محمد مهدي الحلوي، مدير إدارة المنتوج بالديوان الوطني التونسي للسياحة. وهو أيضا ما تنصّ عليه اتفاقية نقل الأشخاص والبضائع والعبور عبر الطرقات المبرمة بين الجمهورية التونسية والجمهورية الجزائرية.
حافلات جزائرية تقلّ مسافرين تونسيين في خرق واضح للقانون
يعمــد أصحــاب وكالات الأسفار إلى استئجار حافلة من الجزائر لنقل المسافرين التونسيين لعدّة أسباب، أهمّها، حسب ما يوضّحه السيد عمــر الريـــاحي، المدير التنفيذي للجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة، أنّ سعر كراء الحافلة الجزائرية أرخـص من الحافلة التونسية، (التي يتــراوح ســعــر استئجارها ما بين 700 إلى 1000 دينار في اليوم)، نظرا لانخفاض سعـر البنـزين في الجزائر مقارنة بتونس. كما أنّ هناك عاملا آخر يساعد على تنامي هذه الممارسات يتمثّل في وجود نقص في الحافلات التونسية المتوفّرة، نظرا إلى أنّ الأسطول الحالي لم يتم تجديده منذ الثورة وما تلاها من أزمة في قطاع السياحة، كما أنّ هناك طلبا كبيرا على هذه الحافلات حاليا بسبب العودة النسبية للموسم السياحي هذا العام. ويؤكّد عمر الرياحي «في السابق، كان أصحاب وكالات الأسفار يأخذون المسافرين التونسيين بحافلة تونسية إلى الحدود بين البلدين ثم يستبدلون الحافلة بأخرى جزائرية عندما يدخلون التراب الجزائري، لتجنّب خرق القانون. ولكن مؤخرا ومنذ أشهر قليلة، تفطنّا إلى أنّ حافلات جزائرية أصبحت تدخل التراب التونسي بحجّة نقل سياح جزائريين ثم تعود وهي محمّلة بمسافرين تونسيين». والأدهى أنّ هذه الحافلات المخترقة للقانون تنطلق من شارع الحبيب بورقيبة أي على بضع أمتار من وزارة الداخلية، دون أن يقع توقيفها للتّثبت من هويّة راكبيها. بل إنّ هذه الحافلات تمر من مناطق الحرس الحدودي التونسي دون أن تثير أي ردة فعل أو إيقاف من طرف الأعوان، إذ أنّ ما يحصل هو أن سائق الحافلة الجزائري الجنسية يقوم بتجميع جوازات سفر الركاب في كيس بلاستيكي وينزل بها إلى المركز الحدودي، حيث يتمّ ختمها دونما حاجة لنزولهم. وفي هذه الحالة، يستحيل أن لا يكون الأعوان على علم بوجود الحافلة الجزائرية التي تقلّ مسافرين تونسيين. مُعدّة التحقيق كانت شاهدة على هذه الممارسات، حيث شاركت في إحدى هذه الرحلات وكانت الشخص الوحيد الذي طُلب منه النّزول من الحافلة التي كـــانت تضمّ 48 مسافرا، لرؤيتها شخصيا وطرح بعض الأسئلة عليها، نظرا إلى أنّ جوازها كان يحمل صفة «صحفية». وقد أثـار وجودها ضمن الركاب الريبة لدى أعوان الحرس الحدودي لأنّ عملية مرور الحافلة الجزائرية كلّها كانت غير قانونية. وممّا يزيد الطين بلّة أنّ عون الديوانة التونسية صعــد إلى الحـــافلة لأخذ تصاريح استبدال العملة، وهو ما يؤكد أن الديوانة على علم يحمل الحافلات الجزائرية مسافرين تونسيين في خرق واضح للقانون. إذا نحن هنـا أمام مجموعة من التّجاوزات: أوّلا، لا تحمل الرحلة وثيقة «الإعلام برحلة» كما تقتضيه التراتيب الجاري بها العمل. ثانيا: هناك حافلات جزائرية تقلّ مسافرين تونسيين.
ولكن كيف يتمّ التّغاضي عن كلّ هذا، خاصّة وأنّ نسـق الرحـلات مستمرّ من تونس إلى الجزائر؟
«افـــرح بينــــا»
حسب محمد.ب، أحـد سائقي الرحلة التي شاركت فيها معــدّة التحقيــق، فإنّ هناك «تفاهمــا بين السائقـــين وأعــــوان الحرس الحدودي على التغاضي عن مــرور الحافلات الجزائرية التي تقوم بهذه الرحلات، مقابل تلقي مبالغ مالية تتراوح بين 30 إلى 40 دينارا تونسيا». كلام أكّده أيضا صالح، سائق جزائري يعمـــل على الخطّ بين تونس والجزائر منذ أربع سنوات، بقوله، «نحن نخصّص ميزانية لدفع الرشاوى إلى الحرس الحدودي سواء من الجهة التونسية أو الجزائرية، وإلا فلا يمكننا العمل وسيقع تعطيلنا في كلّ مرّة».
مُعدّة التحقيق نفسها، كانت شاهدة على عملية ابتزاز من أحد أعوان الحرس الحدودي الجزائري، الذي اعتقد في البداية أنها قائدة الرحلة وقال لها «افرح بينا!» وعندما عرّفته عن هويتها كصحفية بقصد إخافته، أجابها بكل لا مبالاة: «ومالمشكل؟ هل تعتقدين أن السلطات في بلدك أو في بلدي لا تعلم بما يحصل على الحدود من تجاوزات والطريقة التي يتم بها حلّها!» من جهته، لم ينف السيد محمد مهدي الحلوي، مدير إدارة المنتوج بالديوان الوطني التونسي للسياحة، وجود هذه الممارسات على الحدود وعلم السلطات التونسية بها وأكّد أنّها طُرحت عديد المرّات في الاجتماعـــات الوزاريــة مـــا بين وزارات السياحة والنقل والداخلية، وآخرها اجتماع عُقد في بداية شهر فيفري 2018، والتزم فيه المشاركون بالتصدّي لهذه المخالفات.
مفاجآت غير سارّة يواجهها المسافرون
أمام هذا الوضع غير القانوني برمته، ليس غريبا أن يجد المسافرون من تونس إلى الجزائر عبر البرّ، مفاجآت غير سارّة خلال الرحلة.
تقول آمال، أستاذة جامعية: «سافرت الشهر الماضي برّا عبر الحافلة إلى القطر الجزائري، «لم أشهد أبدا في حياتي رحلة تسودها الفوضى كهذه الرحلة!»، مضيفــة «غـــايتي كانت التعرّف على الجزائر وزيارة معالمها السياحية الجميلة مع عائلتي ولكن سرعان ما تحوّلت الرحلة إلى كابوس، بسبب التّغيير المستمرّ في مسارها وغياب الحجوزات في الفنادق، إلى جانب قضاء اللّيلة الأولى في الحافلة». ساندتها في تذمّرها دلندة، متقاعدة، سافرت معها على نفس الرحلة: «فوجئنا بسوء التّنظيم وبعدم معرفة الدليل (guide) بالأماكن التي يجب زيارتها وهو الذي لم يزر الجـزائر يوما في حياته، وبعدم احترام برنامج الرحلة!»
باطّلاعنا على البرنامج لم يكن فيه ما يدلّ على اسم وكالة الأسفار المنظّمة للرحلة، ممّا صَعّب فيما بعد على المسافرين، التّقدم بشكوى ضدّ هذه الوكالة لتحميلها مسؤولية ما حصل وطلب التّعويض منها. وهو ما أكّده محمود، بقوله: «عندما طلبنا من دليل الرحلة مدّنا باسم وكالة الاسفار، لم يعطنا سوى رقم هاتف لشخص قال إنّه مالكها وباتصالي به اكتفى بتقديم اعتذار عمّا حصل، لا غير».
اتصلنا برقم صاحب وكالة الأسفار واسمها ST ومقرها في سوسة، وادّعينا أنّنا نريد التسجيل في إحدى الرحلات التي ينظّمها نحو الجزائر، وأكّد لنا هذا الاخير أنّه نظّم إلى حدّ الآن 40 رحلة مماثلة دون أن يحصل معه أيّ مشكل وأنّه يحرص على «راحة المسافرين عبر كـــراء حافلة جزائرية مريحة تحتوي على شاشات تلفزيون وتكون مصحوبة بدليل سياحي مهني ومتخصّص، بالإضافة إلى حجـز فنادق ذات جودة، من صنف 4 نجوم، خلافا لما يفعله منافسون آخرون». وبسؤاله عمّا تردّد عن حصول مشاكل في إحدى الرحلات الأخيرة التي نظّمها، قال إنّ ذلك كان خارجا عن نطاقه، وبرّر الوضع بغياب المهنية من قبل بعض أصحاب النزل الجزائريين، الذين يخالفون وعودهم في الحجز، كما ألقى باللوم أيضا على بعض المسافرين الذين لم يحترموا برنامج الرحلة وأرادوا تغيير مسارها. وختم المكالمة الهاتفية معنا بإعلامنا أنّه إذا طُلب منّا في الحدود إعطاء مبلغ 10 او 20 دينارا، مثل بقية المسافرين، فلا يجب الاستغراب من ذلك لأنّ هذه المبالغ التي يتم جمعها (تصل إلى 400 و500 دينار) وتُدفع لأعوان الديوانة «تفاديا لتفتيش الحقائب، وما ينجرّ عن ذلك من تعطيل، خاصّة عند العودة من الجزائر، بعد التّسوّق». هذه الممارسات تبدو غريبـــة من وكـــالة أسفار معترف بها قانونيا ومتحصّلة على الصنف «أ» ولكن الأمر يسوء أكثر مع وجود أطراف تنشط في مجال السياحة، دون أن تكون متخصّصة في ذلك، وتنظّم هي أيضا رحلات إلى الجزائر وغيرها.
شركات خدمات بصفة وكالات أسفار
يعاني قطاع وكــالات الأسفار من متطفّلين يزاحمون أصحاب وكالات الأسفار ويسرقون منهم الزبائن والأسواق. وهم أساسا أصحاب شركات خدمات يختارون التخصّص في المجال السياحي دون أن يلتزموا بالإجراءات القانونية المنظمة لهذا القطاع. ومن هذه الإجراءات، الالتزام بكرّاس شروط يفترض توفير «ضمان بنكي» قدره 50 ألف دينار، يتم سحبه من قبل سلطة الإشراف (وزارة السياحة) في حال تجاوز صاحب وكالة الأسفار للقانون. إلا أنّ أصحاب شركات الخدمات، المنضوين تحت إشراف وزارة التجارة وليس وزارة السياحة لا يلتزمون بهذا الشرط. لذلك ففي حالة التحيل على الزبون، فلا يمكن معاقبتهم بحرمانهم من الضمان.
يقول عمر الرياحي: «يسيئ أصحاب شركات الخدمـــات كثيـــرا إلى القطاع، حيث تصلنا تشكيات كثيرة من قبل الحرفاء، إلى جانب تذمر أصحاب وكالات الأسفار من مزاحمتهم لهم. لذلك فنحن نعمل على التصدّي لهم». في هذا الإطار، قامت الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة، التي لا تملك العدد الفعلي لهذه الشركات، برصد قائمة فيها 30 شركة خدمات تعمل في مجال السياحة وأرسلتها إلى وزارة السياحة ووزارة الداخلية لحثّهما على وضع حدّ لهذه الظاهرة وتنظيم القطاع، حيث تحتلّ هذه الشركات 30% من السوق وعددها يتزايد يوما بعد يوم، حسب السيد عمر الرياحي. ومن جهته، أكّد السيد مهدي الحلوي، أنّ الديوان الوطني التونسي للسياحة على علم بنشاط هــذه الشركات ويحاول التصدّي لها من خلال حملات المراقبة المستمرّة إلّا أنّه يشكو من قلّة المراقبين. فهناك حاليا 119 مراقبا فقط يغطّون كامل الجمهورية، في حين أنّ عدد وكالات الأسفار القانونية يبلغ لوحده 1100 وكالة أسفار، هذا دون احتساب شركات الخدمات التي تنشط بكل حرية ولا تتوانى عن عرض أنشطتها السياحية عبر صفحات التواصل الاجتماعي دونما أيّ خوف من القانون.
من هنا، تأتي أهمية تنظيم القطاع والتصدّي للدخلاء وللممارسات غير القانونية، التي من شأنها أن تُضرّ بالسياحة في تونس، خاصّة مع انتعاشها من جديد هذا العام. كما أنّه من المهمّ أيضا عقاب المتحيلين كي يسترجع محمود وأمثاله من الحرفاء التونسيين حقّهم ويقع تعويضهم.
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق