الأستاذ الطاهر بوسمّة: رأي في صندوق الدعم والتعويض
اخترت هذا اليوم أول ايّام شهر الصيام أن أكتب لكم عن صندوق الدعم والتعويض الذي بات غولا يحترق كل من اقترب منه للتبديل أو التغير بالرغم من اتفاق الجميع على مخاطره وسوء استعماله عبر كلّ هذه السنين.
لقد تمّ إقراره في تونس منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وبالتحديد بعد حرب 6 أكتوبر سنة 1973التي انهار فيها خطّ برليف الذي أقامته إسرائيل بينها وبين مصر على ضفة قناة سويس متمدّدة بفضله لشبه جزيرة سيناء التي احتلتها في المعركة التي خسرها العرب في شهر جوان 1967.
كان من نتيجة حرب أكتوبر 1973التي انتصرت فيها مصر على اسرائيل باسترجاعها لجزء من أراضيها المحتلة بالحرب غلاء أسعار البترول والمواد الأولية التي ينتجها العرب ومقاطعتهم للدول المتعاملة مع اسرائيل وبذلك تغيرت المعادلة وتحققت حقيقة الأسعار وتضاعف بثمنها الدخل..
كنت وقتها واليا على القيروان أجاهد للحصول من الحكومة على بعض الاعتمادات المالية الخاصة تمكنني من إنجاز المشاريع المعطلة بعد وقفة التأمّل والعدول عن سياسة التعاضد ولترميم ما أفسدته فيضانات 1969 وكانت الحكومة تمنيني وتؤجل التحويل لمرات لقلة ما كان عندها من الأموال. إلا أنها لاحقا وبذلك السبب تغيرت الأحوال وباتت حكومتنا تتخمني بالأموال وتطلب مني تقديم مشاريع جديدة ننفذها نحن الولاة بواسطة برنامج التنمية الجهوية التي باتت سياسة معتمدة عوضت حظائر التشغيل التي كنا نعتمدها تخفيفا من حدة البطالة مقابل 200 مليم وثلاثة أرطال من السميد الممنوح لنا من الوكالة الأمريكية إعانة لنا بدون قيود.
في وقتها قررت حكومة المرحوم الهادي نويرة تخفيفا على ضعفاء الحال توخي سياسة للتعويض لتعديل الأسعار في بعض المواد الضرورية التي تأثرت بالتضخم المستورد إلينا من الغرب، وبدأت تلك السياسة محتشمة وأخذت في التوسع وشملت كل المستهلكين لتلك المواد المدعمة وخاصة منها الحبوب.
كنت وقتها مسؤولا جهويا وغير مطلع على مساوي ذلك التقدير إلى أن أصبحت نائبا في مجلس الأمة مخولا لي النفاذ إلى المعلومة من خلال نقاش المجلس لميزانية الدولة وقانون المالية الذي يتقرر بموجبه توظيف أداءات جديدة على المواطنين، فرأيت وقتها من واجبي الدخول في التفاصيل وجاءتني فكرة مناقشة الحكومة وسؤالها في ذلك الموضوع.
واتذكر أنني وقبل أخذ الكلمة في الجلسة العامة دعوت وزير الفلاحة وقتها المرحوم الأسعد بن عصمان ورئيس منظمة الأعراف المرحوم الفرجاني بالحاج عمار إلى الانتباه لما سأقول منتقدا سياسة الحكومة في باب التعويض والذي لا يستفيد منه وحده الضعيف بالقدر الذي يستفيد منه الميسور والسائح والغريب، ثم إننا لا ننتج تلك المواد المدعمة أصلا أو لا ننتجها بما فيه الكفاية، وبتلك السياسة كنا نضائق المنتج التونسي وندعم المنتج الغريب. واقترحت يومها تعديل التعويض وتخصيص المنتج التونسي به تدعيما له وتشجيعا لمزيد الإنتاج وخاصة ما يحتاجه التونسي ويساعد على التصدير، كما اقترحت تغيير الأسلوب وبالاقتصار على الضعفاء والمحتاجين.
بلغني فيما بعد أنّ ذلك التدخل لم يعجب الوزير الأول وقتها ونبهني زميلي في المجلس وصديقي علي السلامي رحمة الله عليه، وللحقيقة والتاريخ أقول لم اتعرض لأي مضايقة من الوزير الأول ولا من غيره من المسؤولين، وللتدليل عما اكتب وأقول ما بقي مسجلا علي ومنشورا بالرائد الرسمي الخاص بمجلس النواب لمن يريد التأكد اكثر من الموضوع.
وانتهت مهام الوزير الأول الهادي نويرة بعد مرض طويل أقعده وأجبره على التفرغ للعلاج، فجاء بعده المرحوم محمد مزالي زميلي في قائمة نواب ولاية المنستير ووجد ذلك الغول المتمثل في تضخم صندوق الدعم والتعويض وبات يغطي الأسمدة والطاقة والنقل والوقود وثمن الحبوب المستودة بالعملة الصعبة لصنع الخبز الذي بات أكثره يقدم علفا لحيوانات المربين، الى أنّ تفطن بورقيبة ذات ليلة وهو يتابع الأخبار على شاشة التليفزيون لأكداس من الخبز ملقاة في القمامة، ويقال إن ذلك المشهد كان بتدبير ممن أرادوا السوء بالوزير الأول محمد مزالي الذي بدأ يقلق الطامعين في خلافة بورقيبة وقد طال بهم الانتظار وصحة الرئيس كانت تتدهور كل يوم وتزيد.
وهكذا أمر الرئيس بورقيبة وزيره الأول بتضعيف ثمن الرغيف ومشتقات الحبوب، فكانت ثورة الخبز التي قامت وبدأت في الجنوب وعمت البلاد كلها ومات فيها عدد من المواطنين وتعرضت عدة مصالح عمومية للحرق والتهشيم ولم تسلم من ذلك حتى حوانيت الخواص الغير معنيين.
وبعد مرور العاصفة واستتباب الأمن تراجع بورقيبة في الموضوع وخسر محمد مزالي ماء وجهه بعدما تحمّس كثيرا لإنهاء الدعم والتعويض فخسر بذلك مكانته في النفوس بالرغم من إقراره في خطته الأولى وإضافة وزارة الداخلية اليه. فاسترجع في الأثناء زين العابدين بن علي بعدما نصحوه به وزينوا له قدراته في ضبط الأمن خاصة بعدما خاب ظنه فيمن سبقوه.
كان سفيرا في بولونيا لا يبدي ولا يعيد مبعدا فيها بعد فشله في التفطن لأحداث قفصة التي دبرها القذافي بمساعدة الجزائر وكانت سببا في سقوط المرحوم الهادي نويرة بالجلطة الدماغية صريعا وإنهاء مشواره في السياسة والحكم، وكان ذلك سببا من أسباب انتهاء أسطورة بورقيبة العظيم.
أما الحكومات السبع التي توالت على البلاد بعد الثورة وبالرغم من العجز المتعاظم الشديد ونصيحة المقرضين والمانحين فإنها لم تقدر على الاقتراب من ذلك الغول، وكل حكومة ترمي بتلك الجمرة المحرقة للحكومة التي تليها ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم.
أما ما أراه شخصيا فهو ضرورة ترشيد الأسعار وتحديد التعويض للضعفاء والمحتاجين وتحسين المرتبات والأجور تعويضا للإجراء والموظفين عن تدهور الدينار وتخصيص ميزانية خاصة للبطالين عوضا عن الوظائف الوهمية التي تعود على الكسل والغش التضخم المالي الغير مفيد.
- اكتب تعليق
- تعليق