أخبار - 2018.05.02

احميده النيفر: المشهد الدّيني التونسي بأبـعاده الثلاثة

احميده النيفر: المشهد الدّيني التونسي بأبـعاده الثلاثة

1 - في إصدار أخير تعمّد الإعلامي والكاتب «لطفي حجي» أن يختار لكتابه الجديد عنوانا لافتا حدَّ الاستفزاز: «إسلام السلطة وإسلام الجماعة: محنةُ أمة». بهذا الاختيار أكّد المؤلّف على أنّ توتُّرَ العلاقة بين الحكام القائمين على ما يعرف بالإسلام الرسمي وبين مناوئيهم من الجماعات الإسلامية أمرٌ ضارب في القدم وأنّه ظلّ، رغم ذلك ماثلا ومستفحلا إلى يوم الناس هذا. يواصل المؤلّف في ثنايا الكتاب في الاشتغال على هذا البعد المثير، خاصّة لمن له نفس راضية وعين قانعة الذي يعتبر أنّ الإسلام واحدٌ وغير متعدّد رافضا القولَ بوجود إسلام سلطة من جهة وإسلام جماعة من جهة أخرى أو إسلام تونسيّ مغاير لإسلام تركي ولإسلام فرنسي إلى آخر ما يُعتبَر لديه «ابتداعا ما أنزل الله به من سلطان».

2 - من المقدمّة يصدع «حجي» في مواصلة تحريك السواكن بعينه الفاحصة بالقول «إنّ المسلمين لم يختلفوا على مرِّ القرون قدرَ اختلافهم في تفسير إسلامهم...» ليتوصَّلَ إلى القول إنّ ظاهرة الاختلاف والتقاتل في ديار الإسلام ازدادت تجذُّرا في السنوات الأخيرة مع ميلاد حركات تكفيرية متطرّفة تُشرِّع للقتل والإرهاب باسم الدين. ما يسوّغ به المؤلِّف إصداره القائم على هذا التّشخيص هو أنّ ممّا يتوجّب على الباحث التونسي الذي شهدت بلاده ثورةً سياسية مَكَّنَتْهُ من منسوب هامّ من الحرية أن يعالج بوضوح وجرأة «مأزق فهم الإسلام في ديار الإسلام».

بهذا التوصيف نقف على قراءة للمشهد الديني الإسلامي الحالي في البعد الصادر من الداخل، الفاحص للداخل والنّاقد له فيما يعتريه من إعاقات ذاتية. هي قراءة  غير متداولة لأنّ إرادتها التجديدية تمنعها من أن ترمي كلّ الحِمْل في متاعب العرب المسلمين وأعطابهم على الخارج، أعداءً وخصوماً، شأنَ من ينظر لحال المسلمين بالعين القانعة الراضية عن النّفس.

3 - العين الثانية الفاحصة للداخل في نزوعها للتجديد تلتقي مع العين الراضية في اعتقادها بـ«قدسية» النص القرآني وبعُلويَّة مصدره وبرسالته الخالدة وبالتواصل مع مُنْجَزِه التاريخي. خصوصيتُها التي تُميّزها عــن العين المطمئنة أنّهــا بقدر ما تَعرُض بالنقد لإفهام المسلمين فهي تعمل على تجاوز وضع التَردِّي لديهم في فهمهم للنص المؤسِّس خاصّة. هي بهذا التوجّه تعمل على تحديد عنصر الفاعلية في النص القرآني وفي المدوَّنَة التفسيرية ليستبين ما هو مُستتر من المشيئة الإلهية وهي تتحرّك في التاريخ بما يزيد من كشف الفاعلية الإنسانية وسبل تواصلها ونُموِّها.

إلى جانب هذين البُعدين وهاتين العينين تبرز مقاربة ثالثة تتمتّع بعين راصدة تهتمّ بواقع المشهد الديني كما يتعيّن بصورة أقرب ما يكون إلى الموضوعية في موقع جغرافي محدّد وفترة زمنية مضبوطة. هذا ما ظهر في السنوات الأخيرة في تقارير ترصد الحالة الدينية في كلّ من المغرب ومصر فضلا عمّا يصدر سنويا عن وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها السنوي عن الحرية الدينية حول العالم.

4 - أهمية هذه التقارير في بعدها التحليلي الذي يقدّم صورة وصفية للحالة الدينية بمختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والعلمية والقانونية والثقافية والإعلامية في بلد أو مجموع بلدان.

هذا ما تحقّق أخيرا للوضع في تونس بإصدارٍ دراسيٍّ غير مسبوق عن «الحالة الدينية في تونس 2011 - 2015 «عرّف بمكونات المشهد الديني المختلفة بدراسة علمية وبحث ميداني مُوثَّقٍ يمثّل قاعدة معطيات توضع بين أيدي القرّاء ذوي الاهتمام من كلّ نوع. أشرفت على إنجاز هذا التقرير مؤسّسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث» وقامت بإعداده مجموعة من الباحثين التونسيين يناهز عددها الخمسين. شمل الجمهور المستهدف مجال الباحثين والطلبة والجامعيين والمنتسبين إلى مراكز البحث والإحصاء والتوثيق والمستفيدين منها والصحافيين والفاعلين الجمعياتيين والسياسيين والمسؤولين الإداريين وصُنَّاع قرار.

5 - تتمثّل خطورة هذا التقرير في بعده الثالث المُتعيِّن في مستوى دلالته السياسية- الاجتماعية وما تحتاجه من إرساء لقيمتي التعدّد والتعايش الثقافيتين لتونس وهي تخوض غمار تجربة حداثية وبعد حداثية مميّزة. ما يزيد من أهمية هذا البعد الثالث هو تهاوي التجارب في الفضاء العربي المأزوم نتيجة مصاعبه وتوتُّراته الذاتية المواكبة للإكراهات الإقليمية والدولية بما يعيق خوض غمار هذا التوجّه لسنوات قادمة.

من هذا المنظور تكون طبيعة أعمال تقرير الحالة الدينية بالنّسبة إلى تونس في تجربتها الحالية هي مثل «سلوى الغريب» التي تسنُدُهُ حين يتصدّى لقَدَرِه وحيدا أو شبه وحيد. وظيفة التقرير أَشبَهُ بما يقوم به علماء الأرض والكواكب من الرصد والدراسة للصفائح المتحرّكة للطبقة الخارجية للكرة الأرضية والمؤشّرة على حدوث زلازل وإثارة براكين. مؤدّى هذا أنّ في تقرير الحالة الدينية تعزيزا لفهم جوانب رئيسية من آليات عناصر المشهد الديني في تونس في خصائصها ومدى إمكانية تطوّرها من خلال ما عاشته تحديدا في السنوات الخمس التي تلت الثورة.

في هذا المستوى تُبرز أبحاث التقرير ودراساته وتقنياته البحثية المعتمدة في جمع المعطيات وتبويبها انتهاء إلى تقديمها وعرضها جانبا من خصائص المشهد الديني الإسلامي التونسي في الفترة الحديثة والمعاصرة وفي الوضع الراهن.

أبرز ما يظهر من عناصر هذا المشهد طغيانُ حالة التشظِّي عليه وفقدان الديناميكية الموحّدة المحققّة لتوازن مختلف مكوّناته. لهذا فلا غرابة إن كان هذا الفضاء مَرْتَعًا خصبا مستباحا للاختراق والإرباك والعنف. يتبدّى هذا من خلال الدراسات الجادّة التونسية والأجنبية التي انكبَّت على ظاهرة انخراط عدد من الشباب التونسي في شبكات التطرّف العنيف.

6 - ما يبرزه التقرير يؤكّد أنّ المشهد الديني مُعقَّد ومتشابك وأنّ ظاهرة التطرّف العنيف هي الأخرى كذلك. لكن المؤكّد أنّ معالجة الجانب الأوّل بالإهمال والاستتباع التوظيفي والثاني بالتبسيط المكتفي بالمعالجة الأمنية الرّدعية، لن يؤدّيا إلى نتائج حاسمة تُرسِّخُ شرعية الدولة وتثري إنسانية الفرد والمجتمع. في هذا الجانب فإنّ ما انتهى إليه التقرير في قسمه الميداني الذي قام  بمسحٍ وطنيٍّ من خلال مقابلات مع عَيِّنة ممثّلة قصْدَ الحصول على بيانات تخصّ الحالة الدينية في تونس كان في غاية الإفادة بخصوص تعقيد المشهد وضرورة التركيب والتنويع لطرق معالجة ظاهرة التطرّف العنيف. بذلك توصّل هذا القسم من تقرير الحالة الدينية إلى تقييم تقديري دعَّمه القسم البحثي الدراسي في ترابطه مع الخصائص السوسيولوجية والثقافية والتاريخية الواردة في التقرير لبلوغ قدْرٍ هامّ من التكيّف والوعي بدروب المعالجة المنشودة.

في تقرير ميداني آخر داعمٍ لتقرير الحالة الدينية اهتمّ بالمقدمات السلوكية للتطرّف العنيف تستوقف الباحث العناصر التالية: 

  • تزداد خطورة التطرّف العنيف لأنّ أسبابه المعقّدة والمتشابكة تختلف في طبيعتها مع البساطة الظاهرية للمقدمات التي تسهّل الانزلاق المدمِّر والتدريجي والذي كثيرا ما لا يثير شكًّا أو يستدعي تَخَوُّفًا.
  • العائلة والأئمّة والمدرّسون والأصدقاء وكلّ الأطراف الحيّة مُدْعُوَّة لليقظة الشّديدة لما يصدر عن المُعَرَّضين للسقوط في التطرّف العنيف في سلوكهم من مؤشّرات على بدايات الانحراف قبل استفحال المرض بهم.
  • ليست هناك فئة واحدة مُعَرَّضة للخطر المتربّص الذي يهدّد المتعلّم والمنقطع عن التعليم والعائلة المرفّهة ومن يفتقد السّند الأسري والعامل والعاطل والحضري والرّيفي.

لكلّ هذا يتبيّن أنّ الخطر داهمٌ ومُعَوْلمٌ وأنّ الانحراف لا يأتي فجأة إنّما يتفاقم بالصّمت والانزواء وأنّ المعالجة تقتضي انتباها وحوارا تواصليا دائما وتضافرا للجهود الرادعة والعلاجية المختلفة.

7 - ما لا يُمكن إغفاله في تقرير الحالة الدينية عاملان. أوّلهما أنّ البعد الثالث للتقرير المُهتَمَّ برصد مكوّنات المشهد الديني ورسم حدودها وفهم آليات عملها ونمط اشتغالها يُضحي بُعدا ضروريا لأكثر من طرف. في طليعة هؤلاء المطمئن أن «للبيت ربٌّ يحميه» ومعه المُراجع الفاحصُ للذات والعاملُ على تجديد الخطاب الديني.

كلا البُعدين، الواثق والناقد، محتاج إلى البعد الثالث لأنّ الواثق يُدرِكُ، رغم اطمئنانه، الافتقادَ لمرجعية فكرية تلاحق الواقع في جميع مواقعه وكافّة تطلّعاته وأنّه سيجد في التقرير أكثر من داعٍ يُحَصِّن قناعته ويقوِّيها. أمّا الناقد فإنّ سعيه إلى التجديد لن يكون مُسَدَّدًا ومُنَزِّلا لعقائده وقيَمه وأولياته ضمن الدائرة الفكرية العالمية من جديد إلاّ إذا وعى بدقّة وموضوعية مكونات الشأن الديني القائم وما يتطلّبه من المعطيات والتحاليل والرّؤى.

العامل الثاني المميّز لتقرير الحالة الدينية لتونس هو بناء مضمونه البحثي التحليلي على مكوّنات جامعة هي التي اعتُبرتْ أعمدة المشهد الديني ومواقع فاعليته. أهمّ ما يلاحظ في هذا المضمون هي بنيته الثنائية. نجد من جهة طرفا فيه بحث في المؤسّسات (وزارة الشؤون الدينية - المجلس الإسلامي –المساجد- ديوان الفتوى...) يدعّمه المجال القانوني (الدّستور-القانون الجزائي-القانون الانتخابي- الأوامر والمناشير...) ويرسّخه القطاع التربوي والعلمي والإعلامي (جامعة الزيتونة- التّعليم- الإنتاج العلمي - الإعلام الديني ... ). في الطّرف الثّاني لبنية المضمون البحثي نقف على مجال السياسة والاجتماع (الأحزاب ذات المرجعية الدينية – الأحزاب المدنية والعلمانية – النقابات الطلابية...) ومعه التّنوع المذهبي (المالكية- الأحناف–الإباضية - التصوّف...) والتنوّع الديني (اليهود – المسيحيون..). تكشف هذه البِنيةُ عن الأساس الموضوعي الذي صار يحكم المشهد الديني في السنوات التي تلت ثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي. الواضح أنّ المشهد بصدد التحوّل من تفرُّد سلطة الدولة بمؤسّساتها وقوانينها وعناصر إنتاج فكرها عليه إلى إسهام المجتمع المدني بأحزابه وجمعياته وتعدّده الديني والمذهبي.

بهذا تكون بوصلة تقرير الحالة الدينية في تونس مُؤْذِنةً بعصر جديد يتميّز فيه الديني عن السياسي بعد أن ظلّ لعقود وقرون مُسْتَلَبًا ومُسْتَتْبَعا لمن له سلطة الحكم والسيف.

جِماع هذا أنّ المشهد الديني الإسلامي في تونس تعتريه تحوّلات أكيدة تجعل المجال «الرّوحي» في وضع «حَرَكَةٍ منْ جَيَشَانِ التّقديس ونزع التقديس وإعادة إضفائه».

هذا ما يتبيّن للباحث الاجتماعي التونسي «منير السعيداني» الذي أشرف على سير أعمال تقرير الحالة الدينية في تقدير أنّ رصد المشهد الديني في تونس بين سنتي 2011 و2015 هو، في النهاية، تَمَرُّنٌ على ممارسة فكرية موصولة بالشأن الديني تتدرّب على تقبُّل الأفكار المتنوّعة والمختلفة بما يحقّق معنى الاستعداد للاستماع إليها ومناقشته.

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.