« أحلى كلام...» لألفة يوسف : الشّتيمة على سرير التّحليل النّفسيّ الجماعيّ
الشّتيمة صــورة عن مخيــال شعب، وليست صورة عن مخيال فئــة دون أخرى، فلا فرق، في مضمون الشّتيمة وأسلوبها، بين إسلاميين أو حداثيّين ولا بين متديّنين أو لادينيّين. وهذا منطقيّ لأنّ الشّتيمة تكون باللّغة، واللّغة تهيكل الشّخصيّة الفرديّة والجماعيّة.
والشّخصيّة التّونسيّة علّتها الجوهريّة هي «الأنا» بمختلف وجوهها وتلويناتها وتصريفها. وهي «أنا» مرضيّة في حاجة إلى عرفان مستمرّ وإثبات دائم وفي حاجة إلى صراع مع الآخر حتّى تهدأ وتطمئنّ أو تتوهّم أنّها هدأت واطمأنّت. الأمر الثّاني هو أنّ أسوأ ضروب التّعامل مع الشّتيمة هو الشّتيمة المضادّة.
فبما أنّ الشّتيمة تعبير عن قلق ذاتيّ فإنّه من أشدّ أنواع السّلوك بلاهة أن تُجيب طالب الطّمأنينة بتعميق شعور القلق لديه، ومن أشدّ أنواع السّلوك سذاجة أن تُجيب طالب الحبّ بصــدّ وكـُره يُذكيان لديه التّوتّر. فكأنّك تُريد إطفاء النّار بإذكاء جذوتها، في حين أنّ النّار تنطفئ تلقائيّا إذا لم تجد ما تأكله.
إنّ المجتمع التّونسيّ في حاجة إلى طوفان من الحبّ عسى تهدأ النّفوس المتوثّبة نحو صراع خارجيّ وهميّ. وربّما آن الأوان لنعيد النّظر في أساليب التّربية في الأسرة وفي مناهج التّعليم وفي نوع الإعلام حتّى نبني علاقات صحيّة تبدأ بحبّ المرء نفسه ، ووعيــه أنّ لكلٍّ دورا في الحيــاة، وأن لا دور أفضـــل من دور. فــمـن لا يُحــبّ نفســـه لا يُمكن أن يُحبّ الآخرين، ومجتمع قائم على الصّراع والكره لا يُمكن أن يكون متوازنا، ولا يُمكن أن يرنو نحو التّقدّم والنّموّ والسّلام. ص ص . 170 -
آخر كتب ألفة يوسف، وقد صدر منذ أسابيع قليلة هو «أحلى كلام... قراءة ذاتيّة (جدّا) في الشّتائم الفايسبوكيّة 2011 – 2017»، كتاب عجيب وأعجب منه قدرة المؤلّفة على احتواء خصومها وشاتميها وتحويل ما أفرزته تشنّجاتهم من سوء القول والمقذعات إلى مادّة طيّعة لتحليل تناقضاتهم وعُقدهم وتعرية ما تحجبه تلك الشّتائم من هشاشة نفسيّة وفكريّة ومخاوف دفينة وقلق جارف مُقضّ، فإذا الرّدّ ليس شتيمة مضادّة - وما أبعدها عن ذلك - كما يجري في ساحة المهاترات السّياسويّة و الدّغمائيّة الشّعبويّة وإنّما هو بحث علميّ مبنيّ على التّحليل النّفسيّ الجماعيّ psychosociologique يُهدي إلى المجتمع عيوبه ويُشرّح بعض أمراضه.
لقد جمعت في هذا الكتاب الشّتائم التّي تلقّتها على شبكة التّواصل الاجتماعيّ بين 2011 و 2017 بسبب آرائها ومواقفها المناهضة لمحاولات أخونة المجتمع التّونسيّ آنذاك وأجرت فيها قراءة فاحصة، فقسّمت هذه الشّتائم إلى ثلاثة أقسام كبرى : قسم للشّتائم التّي ترميها بالفجور، وقسم للشّتائم التّي ترميها بالجهل، وقسم للشّتائم التّي ترميها بالكفر.
ولكنّها لا تكتفي باستعراضها مبوَّبة بكلّ ما فيها من فحش وإقذاع وبذاءة وإنّما تعمد بعد ذلك إلى دراسة أساليبها وخصائص لغتها ثمّ تهتمّ بتحليلها وقراءتها. وقد أسلمها النّظر في تلك الشّتائم إلى جملة من الاستنتاجات:
فقد لاحظت أنّ هذه الشّتائم تكشف بعض وجوه الشّخصيّة التّونسيّة، وهي ثلاثة وجوه كبرى:
- أوّلها ضمور مفهوم الفرد وطغيان مفهوم الجماعة ، فالتّونسيّون يتعاملون مع الواقع بالنّسبة ّإليها من منظور الجماعة أساسا لأنّ مفهوم الفرد عندهم ليس مستبطَنا بما فيه الكفاية فيشتمون بمفاهيم قَبَليّة كجلب العار «أنت عار على المرأة التّونسيّة» أو الإقصاء القبلي «أنا تونسيّ فأطالب بسحب الجنسيّة من هذه المتخلّفة»، ويُعاملون المشتومين على أنّهم جماعة «يوسف الزّنديق ألفة يوسف وغيرهم من هذه النّماذج».
- ثانيهما أنّ العلاقات الجندريّة علاقات عموديّة تكون النّساء بموجبها في منزلة دونيّة، فالشّتائم تختزل المرأة في البعد الجنسيّ وتعتبرها موضوعا لا ذاتا ، فالمرأة بدت من خلال سيل الشّتائم موضوعا للشّهوة الجنسيّة وأداة للخدمة.
ومن ثَمّ فإنّ الحديث في الشّأن العامّ والتّعبير بصوت عالٍ ليس من خصائص النّساء، كلّ ذلك لحمل المرأة المتكلّمة على الصّمت والانسحاب من الفضاء العمومي «تي اسكت ... برّ موت ديقاج»
- ثالثها أنّ العلاقة بين الأنا والآخر علاقة مقارنة وصراع، فالشّتائم في الأغلب الأعمّ تعقد مقارنة بين قيمة الشّخص المعرفيّة المفترضة وبين قيمته الفعليّة كما يراها الشّاتم «توّ إنتِ دكتورة ؟»
ثمّ إنّ المقارنة العميقة في واقع الأمر تتجاوز المقارنة بين المشتوم والشّاتم إلى المقارنة بين الجماعة التّي يتصوّر الشّاتم أنّه ينتمي إليها والجماعة التّي يتصوّر أنّ المشتوم ينتمي إليها «الفقهاء هم أسيادك».
أمّا الصّراع فيبدو في شتائم التّهديد والتّرهيب ومحاولات الإقصاء التّي تصل حدّ الإقصاء من هذه الحياة الدّنيا «أنتِ أحرى بك أن تموتي».
أمّا النّوع الثّاني من الاستنتاجات فيتّصل بوظائف الشّتيمة. وقد كشفت مدوّنة الشّتائم عند المؤلّفة أنّ الوظيفة الأساسيّة للشّتيمة هي إبقاء الوضع كما هو في المجال الاجتماعيّ والحيلولة دون تحوّل البنى الاجتماعية.
لقد عكست الشّتائم خوفا من التّحوّل الاجتماعيّ ، وشمل هذا الخوف موضوعين:
- أوّلهما الخوف من انفراط الجماعة الدّينيّة بتواتر مظاهر الخروج عن إجماع الفقهاء وعلماء الإسلام وأهل السّنّة والسّلف الصّالح.
- وثانيهما الخوف من خلخلة الموازنات الجندريّة التّي تجلّـــت في محاولات كسر الحدود الاجتماعيّة والقيميّة الفاصلة بين الذّكوريّ والأنثويّ في المجتمعات الأبويّة «مفمّاش مساواة بين الرّاجل والمراة وإلاّ علاش ربّي مخلقناش الكلّ رجال وإلّا الكلّ نساء».
فالشّتيمة تعكس خوفا من تبنّي الآخرين لفكر المشتوم وبالتّالي خوفا من انتشار ذاك الفكر «أكيد كلامك موجّه للجهّال» أو «لا تؤثّر إلّا في النّفوس الضّعيفة والعقول الفارغة».
وتخلص المؤلّفة في النّهاية إلى بيان أنّ الشّتيمة هي تصدّ لغويّ لتحوّل واقعيّ، فهي مقاومة بواسطة الكلمة لما يجري على أرض الواقع من تغيير جذريّ في بنى التّفكير وبنـى المجتمع.
على سبيل الخاتمة
كتابات ألفة يوسف يُمكن أن تُردّ إلى مشروع جامع يروم في تقديرنا تثوير مناهج المعرفة وبُنى التّفكير في القضايا التّي اهتمّت بها، فهي تقترح في القضيّة الجندريّة سرديّة نسويّة جديدة تستعيض عـــن المُرافعــات والخطــب ومنطـق الخصومة والإدانة بإعطاء الكلمة للعلم والتّشريح والتّحاليل المُعمّقة، وهي تقترح في الفكر الدّينيّ إبستيمولوجيا تفسيريّة جديدة تواجه أحديّة الحقيقة وانغلاق القراءة.
أمّا الخصوصيّة التّي تنفرد بها فهي دخولها مناطق مُعتمة في ثقافتنا وفكرنا ومجتمعنا واجتراؤها على المسكوت عنه والممنوعات، فتستخدم الجنسانيّة – بسجلّاتها اللّغويّة المتنوّعة الفقهيّة والتّحليليّة النّفسيّة والشّعبيّة وبممارساتها المختلفة الغيريّة والمثليّة المباحة والمحظورة وبتفاصيلها الدّقيقة الشّائعة وغير الشّائعة – لتعالج مسائل هامّة في الهويّة الجنسيّة أو في قراءة الأحكام الشّرعيّة بخصوص بعض الظّواهر الجنسانيّة.
إنّه مشروع إشكاليّ يتنزّل في إطار فكر ما بعد الحداثة ويتّجه إلى إعادة النّظر في طرائق تمثّل الأشياء وفهمها وأشكال إدراك الكون ووعيه، يُحارب الوثوقيّة والإطلاق ولاتاريخيّة الظّواهر ليُذكّر بقيــم النّسبيّة والتّبدّل والاختلاف وبضرورة سيــادة الفكـــر النّقدي وتحطيم أصنام «الإمامة» وسلطة المكتوب.
ولعلّ بيتا للمتنبّي في سيف الدّولة يقول فيه:
وَلَكنَّه يأتي بكلِّ غَريبَةٍ تَرُوقُ على استِغْرَابها وَتَهُولُ يُذكّر بما تأتيه ألفة يوسف في كتاباتها فهي تأتي بكلّ غريبة، ولكنّها غرائب تروق على استغرابها وتهولُ.
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق