»نظّارات أُمـــــّي« لعــــز الــدين الحـــزڤي عندما تتحوّل الآهات إلى ضحكات
من الظواهر اللافتة في الساحة الفكرية والأدبية في تونس اليوم تتالي الكتب المندرجـــة ضمن ما اصطلح على تسميته بـ «أدب السجون». وما كان لهذا الجنس الأدبي أن ينتشر ويزدهر لولا مناخ الديمقراطية وحرية التعبير اللذين توفّرا في البلاد بعد ثورة 14 جانفي 2011، بما يتيح للكاتب عرض تجربته السجنية والكشف عن آليات القمع والتعذيب التي كان ضحيّتها المعارضون سواء في عهد بورقيبة أو زمن حكم بن علي.
بعد جلبار نقّاش وفتحي بلحــاج يحيى والصادق بن مهنّي وغيرهم -وهم ممّن عانوا ويلات التعذيب والاعتقال بسبب نشاطهم السياسي في صفوف اليسار التونسي في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي- ها هو عز الدين الحزقي، الوجه اليساري والسجين السياسي في الحقبة البورقيبية، يفرج عمّا ظلّ ساكنا في وجدانه، عالقا في ذاكرته لسنين طويلة من أحداث وصور من الماضي، في كتاب صدر مؤخّرا بعنوان «نظّرات أمّي».
الكتاب يشدّ القارئ منذ الوهلة الأولى فيجد متعة كبيرة في الانتقال من فصل إلى آخر، لما اعتمده عز الدين الحزڤـــي من تقنية في السرد مشوّقة، قوامها الحــكي والحـــوار والــوصــف، وفيهــــا غـــالبـا ما يمتزج المأساوي بالكوميدي والجدّ بالهزل، والسيرة الذاتية بالسيرة الجماعية مع مراوحة بين عالم السجن ومسارح الأحداث خارجه، فإذا بالكتاب سلسلة من اللوحات تنساب بسلاسة لتصيغ رواية متكاملة وقد انعكست من خلالها مناخات وأجواء في فضاءات مختلفة وفي أزمنة مخصوصة.
عن هذا الكتاب يقول محمّد معالي، أحد رفاق عز الدين الحزقي في سجن برج الرومي : «النصّ يطفح بمشاعر الأنفة وتحدّي العذابات والتعذيب ومحاولات الإذلال...يطفح بالوجع والمرارة وسعادة الانتصار بمغالبة الألم، والكآبة بالانشراح، إنّه كوكتيل من الآهات تتحوّل إلى ضحكات، في تلك اللحظة الفريدة التي تكتسب فيها القمّة عمقها وتعانق الأعماق شموخها».
من «نظّارات أمّي» نورد هذا الفصل :
ورقــــات من كـتـــاب
مطلـــب الـــعــفـــو
السبت 13 سبتمبر1975 زارتني بهية وكانت مضطربة، قلقة على خلاف عادتها.
حكت لي ما دار بينها وبين الوالد وكيف أصرّ عليها بتقديم قضيّة في الطلاق قصد الضغط عليّ ووضعي في موقف حرج خوفا على مصير الطفلين، جوهر ودليلة، ممّا سيجبرني، كما كان يعتقد، على كتابة رسالة العفو كي يتدخّل ويخرجني من السجن.
ذكرت لي أيضا أنّها شرحت له استحالة ذلك لعدّة أسباب منها موقفها الخاص من العفو ورفضي أنا المبدئي كتابة ذلك، ثمّ شرحت له الوضعية الصّعبة التي سيضعها فيها طلبه هذا حيث أنّ الفارق شاسع بين مقترحه وبين زواج عائشة من نورالدين وحورية من الشيخ الهاشمي، رغم سنين الحبس الطويلة التي ما زالت تنتظرهما.
غضب وهدّدها بقطع مساعدته المادية إن هي رفضت.
انتهت الزيارة وعدت منكسرا مهموما.
حكيت لبعض الرّفاق ما دار بيني وبينها...
صدفة غريبة من صنع الأقدار، أن زارتني زوجتي يوم 13 سبتمبر أي يوم ذكرى اغتيال الزعيم الهادي شاكر. هذا الزعيم الذي لعب دورا في حياة والدي وبالتالي في صقل مستقبلي، دون أن يشعر.
جالت بخاطري ذكريات الصبا وعلاقة الوالد بالحركة ضدّ الاستعمار الفرنسي وإصابته في أحداث 9 أفريل 1938 ومساهماته الحزبية بڨفصة ومشاركته النشيطة في مؤتمر صفاقس للحزب الحر الدستوري التونسي المصيري سنة 1955 وهكذا وجدت نفسي أكتب عن ذلك الآن وقد أخذ النعاس أغلبية الرفاق بدافع التنفيس على النفس والتخفيف من الضغط الذي اشعر به يهزّ كياني ويقلقني.
تذكّرت سنوات الجمر وأحداث 5 أوت1947 بصفاقس، بقيادة الزعيم النقابي «الحبيب عاشور» والتي كانت دموية وأليمة، كما سمعتها من والدي.
بقي منها اليوم تمثال رمزي قرب «الباب الشرقي» لسور المدينة، تخليدا لشهداء المجزرة وتذكيرا للضمير الجماعي.
روي لي أيضا كيف كانت تلك الأحداث حافزا إضافيا لترسيخ وبناء الاتحاد العام التونسي للشغل على يد الزعيم النقابي والدستوري آنذاك فرحات حشاد الذي اغتالته اليد الحمراء التابعة للمعمّرين الفرنسيين صباح يوم الجمعة 5 ديسمبر 1952 بـــ«شوشة رادس».
كما قصّ عليّ بكلّ ألم وحسرة اغتيال المناضل الهادي شاكر، أحد قادة الحزب الحر الدستوري التونسي، أصيل المدينة هو الآخر ورفيقه.
كان ذلك يوم 13 سبتمبر 1953 بمدينة «نابل» حيث يوجد في إقامة جبرية هناك عقابا له على علاقاته النضالية ونشاطاته الحزبية والوطنية.
يقال إنّ اغتياله تمّ على يد عصابة تونسية في عملية ثأرية لاغتيال الشيخ أحمد بالـڨروي المتعاون مع الفرنسيين.
أحمد بلڨروي هذا قتل حسب رواية بعض المناضلين القدامى بمكتبه بباب القصبة قرب ثكنة الجندرمة آنــذاك من طرف «عبد العزيز الورداني» الذي يرتدي، يومها، قميصا أحمر ويضع على رأسه مظلة من الحلفاء.
يقال إنّه دخل مكتب بلـڨروي وسأل الحاضرين عنه فأجابه المعني نفسه متسائلا عمّا يريد. حينها أخرج الورداني مسدسا وأرداه قتيلا ثمّ لاذ بالفرار.
توجّه مباشرة إلى «سوق الربع» داخل المدينة العتيقة حيث كان في انتظاره مناضل يدعى «القروي».
أخفاه عنده وبعد أن غيّر ملابسه ساعده على الخروج من صفاقس إلى مسقط رأسه الـوردانين.
سمعت هذه الرواية منذ سنوات قليلة من أرملة «القروي» نفسه، حيث ذكرت لي أنّ المرحوم زوجها كان مناضلا صلبا حكم عليه المستعمر في الجزائر بالإعدام مرتين.
أمّـا السلط الأمنية والعسكرية فقد حاصرت المدينة من كلّ مداخلها وبقيت أيّاما تفتّش عن شخص يرتدي قميصا أحمر وعلى رأسه مظلّة.
للزعيم الراحل الهادي شاكر قصّة طريفة مع والدي الذي كانت تربطهما علاقة حزبية نضالية حيث وبإيعاز منه بعث الوالد خلية حزبية سرّية بقرية حزڨ واتخذ من حفرة في زيتونة بـ«الجنينة» مخبأ للوثائق والاشتراكات.
ذات يوم هاتف الزعيم الهادي شاكر بابا محمّد لعروسي صاحب «حانوت التل» أي مقر الهاتف العمومي الوحيد بالقرية طالبا منه إعلام والدي بقدومه إلى القرية بعد سويعات قليلة.
صادف أن كان جدّي، من الأب، جالسا في نفس المحل.
نهض بسرعة وافتكّ الهاتف من يد بابا محمد لعروسي وبنبرة حزينة يكسوها الألم والحسرة أجاب قائلا:
• حاجتك بـ«الحبيب ولدي» كما اعتاد أن يقول كلّ مرّة يذكر فيها إسم والدي- قبل أن يضيف لها صفة ثانية في مرحلة لاحقة بعد أن أصبح الوالد قاضيا لتصيـر : «الحبيب ولدي الوزير»...
سامحنا يا سي الهادي، عنّـا شكون توفّى اليوم و راهو «الحبيب ولدي» لاهي مع الجماعة في دار الميت...لا يورّيك ســوء.
ثمّ أغلق الهاتف وانتهت المهمّة بالنسبة إليه. اعتقد بذلك أنّه أنقذ ولده من مصيبة كادت تحصل.
أخرج منديله المعلّق على صدر «البدعية»، تمخّط ، تنحنح وعدّل كشطته المزركشة والتفت إلى بابا محمد لعروسي بعد أن ألقى عليه نظرة الداهية قائلا له بصوت المنتصر:
• بربّي تصوّر يا مَحَمَّدْ كان ماجيتش هَنايْ راهُو هالصفاڨْسي ولد شاكر صَبْ الزيت، ثمّ بيده اليمنى مسح شاربيه وحدّق بعينيه الزرقاوين في وجه بابا محمد لعروسي وتنحنح ثمّ اتّكأ على الجدار وقال بصوت الواثق العارف، الواعي والمتبصّر:
• وِلْد شاكر، راسو صحيح وعَنْدو الحبس والحُوشْ كيف كيف.
لم تمض على المكالمة ساعة من الزمان حتى توقّفت سيارة سوداء اللون نوع تـراكسيون أمام الحانوت «ببطحاء بئر القصر» الذي يتوسّط القرية لينزل منها المرحوم الهادي شاكر.
جاء لحضور الجنازة المزعومة والمفترضة والقيام بواجب التعزية.
ما أن دخل الحانوت حتّى وجد الوالد يلعب الورق «الشكبّة» مع ثلّة من أبناء القرية.
بسرعة التفّ الحاضرون مرحّبين بالضيف.
تساءل بكلّ براءة وتعجّب عن علاقة الموت والجنازة بوجود الوالد منبسطا يلعب الورق في الحانوت وكأنّ شيئا لم يكن...!
حكى للحاضرين عن فحوى المكالمة، حينها، فهم الجميع دواعي فتوى الجدّ أو كذبته خوفا على ابنه من عواقب علاقته ـ بـ «سي الهادي شاكر». ضحك الجميع وانقلبت الكذبة إلى نكتة تناقلها الأهالي سنوات طويلة.
دار الزمان ولعب لعبته مع والدي. فها هو ذلك الوالد بعينه، والد الأمس، يلحّ عليّ اليوم بكلّ الطرق والأساليب كي أكتب رسالة عفو أبعث بها للسلط الحاكمة.
- اكتب تعليق
- تعليق