أخبار - 2018.03.24

احميده النيفر: »السعادة العظمى« التـي لــم تكتمل...

احميده النيفر: «السعادة العظمى»  التـي لــم تكتمل...

1 - إذا كانت دلالة الحريّة في التّراث الإسلامي منحصرة في المجال الاجتماعي مواجهة للعبودية والرِقّ فإنّ الاستعمال الحديث وسّع تلك الدّلالة متجاوزا بها مجالها القديم ليصبح مقصد الحرية مرتكزا على الفكر والتّعبير والتنقّل ومن ثمّ الاختيار السياسي الاجتماعي للأفراد والجماعات.

نجد هذا الاتّساع الدلالي في مفهوم الإبداع الذي أضحى يعني خروجا عن النّمط السائد لفكرة أو موقف أو منظومة بما يحقّق تطوّرها، هذا بعد أن كان الإبداع رديفا للبدعة المُنكَرة.

يتبيّن من هذا أنّ اللغة بوصفها مركزا للنشاط الإنساني تعبّر باتّساع حقولها الدلالية عن ظاهرة صحيّة إذ تُحيل على الفاعلية الحضارية التي تحقّق بها المجتمعاتُ والنخب حراكَها الفكري والروحي والاجتماعي.
2 - ندرك هذا المعنى بالعودة إلى التاريخ الثقافي التونسي الحديث لنتوقف مع مطلع القرن العشرين عند بعض معالمه البارزة وننظر في طبيعة جهود الفاعلين فيه من الشباب خاصّة. تستوقفنا في هذه العودة قامتان من شباب تونس: الأوّل «محمد خضر حسين» من مواليد «نفطة» بالجنوب التونسي والتي كانت تُدعى الكوفة الصغرى باعتبارها موطن علم وعلماء والثاني «محمد الطاهر ابن عاشور» من أعيان الأسر العلمية الأندلسيّة بالعاصمة. جَمَعهما الصرح الزيتوني بما كان يعتمل فيه وقتَها من مخاض فكري وثقافي-اجتماعي وسياسي عارم. لم يتجاوز سنُّ الشاب الأوّل عندئذٍ ثمان وعشرين سنة بينما كان الثاني يَصغُرُه بثلاث سنوات. في عام1322هـ الموافق لـ1904م أصدر الأوّل بمعية الثاني مجلّةً هي الأولى في تونس في اهتمامها بالفكر والثقافة والإصلاح الديني.
نصّت تقارير الدولة التونسية أنّ مجلّة « السعادة العظمى» يديرها طالب متحصّل على شهادة التطويع من الجامع الأعظم يساعده فيها مُدَرس بنفس الجامع هو حفيد الوزير الأكبر( العزيز بوعتور)، هدفهما تأسيس مجلّة دينية إصلاحية على شاكلة «المنار» التي كانت تحظى بعناية النّخبة التونسية.
3 - لم يجانب التقرير الحكومي الصّواب في تقديره لعموم وجهة  مجلّة «السعادة العظمى» التي كانت فعلا مواكبة لمشروع مجلّة «المنار» الصادرة في المشرق منذ سنة 1898 والتي لها رواج واسع لدى النخب التونسية. كانت المجلّة الجديدة تستأنس بالوجهة الإصلاحية للـ»منار» وبتوجّه الشيخ «محمد عبده» فيها. في هذا كانت المجلّتان تلتقيان في أنّ الإسلام يتّفق مع العقل والعلم ومصالح البشر، وفي الحاجة إلى إبطال الشّبهات الواردة على الإسلام وتفنيد ما يُعزى إليه من الخرافات. لكن الذي ميّز «السعادة العظمى» هي إدراكها خصوصيّة الوضع الثقافي- الاجتماعي والفكري المحلّي بما يقتضيه من جهود نوعية لتصحيح مسالك التفكير والتعليم في مؤسّسة الزيتونة حتّى تؤدّي مهامها العلمية الاجتهادية مع ما يستلزم من انفتاح على العصر ومشاغله.
هذه الأولوية عبّرت عنها المجلّة التونسية في باكورة أعدادها مبيّنة خطّها التحريري وشارحة سبب اختيارها لاسمها المميّز حيث قالت: «العلم أساس تُرفع عليه قواعد السعادة ولا تنفتح كنوزُه إلاّ بتدقيق النظر ممّن تصدى للإفادة والاستفادة...(إنّ) العقل الذي يُقدّر الأشياء حقَّ قدرها ويَسْبِر بمعيار التدبّر والإنصاف بُعدَ غَوْرِها فلا ينسج إلاّ على منوالها ولا يرسم حركاته إلا على أشكالها باستفراغ الوسع بالسعي وراء نتائجها».
4 - تحدّد رهانُ المجلّة على العلم والمعرفة ضمن المؤسّسة العريقة الساعية إلى إعادة صياغة هُويّتِها في مواجهة التحدّي المُعلن داخلها والرّافض للمراجعات ولمساعي الانفتاح والاجتهاد. في هذا المستوى جاءت «السعادة العظمى» مناوئة لمنظومة المحافظة على الموروث منهجًا ومضمونا برفض الانكفاء التراثي الذي يتحصّن برؤية للماضي باعتباره خشبةَ النجاة من مخاطر الغزو الخارجي ومن يسانده من الداخل.
في مستوى ثانٍ كانت«السعادة العظمى» تعي أنّ ممّا يقوّي من ساعد المنظومة المحافظة انتشارُ مقولات «حرية الأفكار والاعتقاد». هي مقولات نجمت عن الاتّصال بالثقافة الفرنسية وظهرت بجلاء بمناسبة حضور عدد من التونسيين مؤتمرَ حريّة الفكر «بروما» في أفريل 1904. كان التوجّس شديدا من مآل نبذ العبادات والأخلاق وإطلاق العنان في «ميادين التعقّل والتعمّق وما يُثمره هذا التيار من إنكار وجود الخالق ونفي تأثيره وقدرته...(وأنّه) ليس له ما يبرّره في العالم الإسلامي عامّة والبلاد التونسية خاصّة».
ما يؤكّد عليه الإصلاحيون في تونس هو مُنافاة هذا للعقائد الإسلامية من جهة وأنّه لا صلة له بوعي النخبة وما تتطلّبه ظروفها الموضوعية. إنّه توجُّهٌ يؤدّي إلى انحرافات وخيمة تمسّ حصانة الذات الوطنية لأنه ليس سوى إفراز لأوضاع فرنسية إن نُقلت إلى مجتمعات أخرى فإنّ نتائجها ستكون مريعة .
مع  ذلك فقد تركّزت جهود «السعادة العظمى» على الأولوية الخاصّة بإعادة صياغة الهويّة الزيتونية.
5 - في وعي بطبيعة التحدّي المزدوج الذي يواجه المجتمع ونخبه اتّجهت « السعادة العظمى» لمعالجة قضايا مميّزة كترشيد الخطاب الديني وبثّ روح مجدّدة فيه عن طريق موجهات كان من أبرزها الرؤية المقاصدية. لذلك اعتبرت أنّ «القصد من التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه يستقيم بها نظامها وهذا يستدعي إرشاد المكلَّفين إلى حكم كل ما عسى أن يعرض لهم من الوقائع». مُؤدّى هذا أنّ الشريعة نصّت «على بعض الجزئيات ليقاس عليها ما يشاركها في علل أحكامها وأفصحت عن كليات تدخل تحت ظلّها سائر ما لم يُفَصَّل حكمُه تفصيلا ولوّحت بذلك إلى أنظار المجتهدين». لذلك صار من غير المسـوَّغ «المقــام في حوزة التقليد ودعوى أن بــاب الاجتهــاد مغلق» .
ارتبطت هذه الرؤية المقاصدية بقضيّتين أساسيّتين: الأولى أنّ العلم هو السبيل الأوحد لنهضة الأمم عامّة والمسلمين خاصّة. مقتضى هذا القيامُ على منهج مغاير لما ساد في المؤسّسة الزيتونية من إغراق في النّقول والحفظ اللذين يطمسان الجانب الإبداعي ولا يسمحان بالكتابة والتأليف والارتقاء بأساليب التعبير.
6 - اعتنت القضيّة الثانية بالوعي التاريخي وبجدليّة الحاضر والماضي. ناهضت « السعادة العظمى» بذلك العقليةَ التي تعتبر نفسها وريثة مذهب اكتملت أصولُه وفُصّل القولُ في فروعه وأنّها استقرَّتْ على وضع معرفي - اجتماعي لا يتطلّب مراجعة أو تعديلا أو نقدا. من هذا الموقف المعارض لما كان «إجماعا» تجرّأ كُتّاب المجلّة على تناول مسائل متكاملة ابتداء من تفسير النصّ القرآني والاجتهاد بمنظور واقعي عقلاني مرورا بالتّجديد في وسائل التّعبير النّثري والشّعري وصولا إلى الموقف من المدنيّة الغربيّة.
تنتظم هذه العناصر في مقالات المجلّة سعياً للنهوض بمهمّة العالِم في المجتمع وحرصا على تمثُّلٍ سليم للمدنية التي لا صلة لها عند القائمين على «السعادة العظمى» «بالهمم الخامدة والعـــزائم الفــاترة التي لا تستفزُّها صروف الحوادث».
لم يقف هذا التوجّه عند حدّ التّنظير بل نزّلته المجلّة لمعالجة ما ساد من تساؤلات خَصّصت لها ركنا للفتاوى المصحّحة لمعتقدات شائعة يعسر مع بقائها نموّ المنهج الاجتهادي المبدع. فعلت ذلك مؤكّدة أنّ الثقافة العربية بقيمها الأصيلة ساهمت في نهوض الأمّة عندما أقرَّتْ بمكانة الفكرة والإعلاء من شأنها ممّا سمح بقول العرب «بنات الأفكار» اعتبارا أنّ الفكرة بمنزلة الابن أو البنت.
7 - لقد تجاوزت «السعادة العظمى» مجرّد الدعوة للتجديد في مجالات محدودة وذلك بما سعت إلى إرسائه بمنهج في التعامل مع النصّ الديني والتراث الإسلامي، قاعدتُه العقل وأسلوبه النقد ومجاله المؤسّسة التعليمية لبناء نخب ذات وعي معاصر.
لم يكن غريبا لذلك أن يجد هذا التوسيع لدلالة العالم وتغيير منهجه المعرفي الامتعاضَ وأن يواجَه العملُ على تحويل طبيعة المؤسّسة التعليمية ووظيفتها  الاجتماعية بالاستهجان من أكثر من جهة.
هذا ما يفسّر توقّف صدور المجلّة بعد أقلّ من سنة وانصراف المؤسّسَيْن، كلٌّ من جهته، في اهتمامات منفردة لم تغيِّر من قناعتهما وعملهما  في إحياء وظيفة العالم ضمن رهان على المؤسّسة التعليمية وضرورة تطوّرها على قاعدة المعرفة والاجتهاد.
ذلك ساهم في تدنّي الوعي الديني الذي خَبَتْ معه في تونس دروب «السعادة العظمى» ممّا مكّن من تنامي ما يسمّيه «روجي باستيد» المقدّس المتوحّش Le sacré sauvage المتمثِّل في التطرّف العنيف الذي سيبرز مع بداية القرن 15 هـ والـ 21 م.

بقلم د. احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.