في تــراجع الأغــنيـة الفكاهية بتــونس: أزمـة شـكـل فـنــيّ في سيـاق مجتـمع متـحـوّل
يتردّد التساؤل بين الحين والحين حول أسباب تراجع الأغنية الفكاهيّة أو السّاخرة في تونس كتعبير فنيّ في الحاضر وكتراث خمل ذكرهُ بعد أن أسهم في تشكيل الوجدان الجماعيّ فيما بين الثّلاثينات والثّمانينات من القرن الماضي. والسّؤال: لماذا تخلو السّاحة اليوم أو تكاد من أمثال صالح الخميسي رائد تلك الأغنية وأشهر مبدعيها، ومن اقتفوا أثره مثل الهادي السّملالي ومحمد الجّرّاري ومحمد المورالي ورضا الحجّام وعبد اللّطيف الغربي؟ ويجرّنا الحديث إلى سؤال آخر عن الدّور الذي أداه الغناء السّاخر في زمانه وعن الحاجة التي دعت لظهوره وازدهاره على مدى ما يقارب نصف قرن ليختفي اليوم أو يكاد في أشكاله ومضامينه المعروفة.
الواقع أنّ لضمور الأغنية الفكاهيّة أسبابا عدّة، منها ندرة حضورها في الفضائيات التلفزيّة التي تولي اهتماما بشكل المطرب أو المطربة على حساب المضمون الفنّي. كما يعزو البعض الأمر إلى تحوّل الجمهور الرّاغب في الضّحك إلى عروض مسرح الفرد (الـ «وان مان شو»)؛ ومن الأسباب كذلك تراجع دور الإذاعات المسموعة في ترويج ذلك الصّنف من الغناء؛ غير أنّ تلك التّعليلات لا تعدو أن تكون مجرّد وصفٍ للواقع إذ تشير إلى النّتائج دون الخوض في الأسباب العميقة لضياع شكل فنيّ طريف نهض، في مرحلة ما، برسالة جمالية ونقديّة وتربويّة كان لها أثر واضح في المجتمع.
الأغنية السّاخرة كتعبير عن الذهنيّة الجماعيّة
لا شكّ أنّ الإجابة عن تلك التّساؤلات تستلزم بحثا معمّقا في علاقة الأغنية السّاخرة بأنماط السّلوك الاجتماعي والحاجات الثّقافيّة للمجتمع في تلك الفترة؛ كما تستوجب رصدا لصلاتها بغيرها من أشكال التعبير القريبة مثل الصّحافة الهزليّة والشّعر الفكاهي، التي تعاني بدورها اليوم من الهامشية والتّلاشي. فمن أسباب أزمة تلك الأغنيّة غياب أدب هزليّ ذي قيمة يثريها بنصوص طريفة، كتلك التي أبدعها حسين الجزيري وعلي الدّوعاجي؛ كما نلاحظ اليوم انقراض أنماط تعبير شعبيّة أخرى مثل ارتجالات «سلاّك الواحلين» و«عيساويّة البلّوط» وغيرها. لذلك تبدو أزمة الأغنية السّاخرة حالة خاصّة من واقع عامّ يتميّز بانجراف السّائد والثّابت من السّلوك والقيم، في خضمّ تحوّلات العصر.
والواضح أنّ الأغنية السّاخرة القديمة بمواضيعها التّقليديّة (النّقد الاجتماعي؛ ضيق العيش؛ المشكلات العائليّة؛ صراع الأجيال؛ قضايا الاصطدام بالحداثة؛ إلخ.) والتزامها معايير أخلاقيّة وذوقية خاصّة في إطار المجموعة، قد تلاشت بتلاشي الأعراف الاجتماعية التي كانت تسندها وتحوّل القيم التي برّرت ظهورها. إننّا نشهد تقهقرها أمام مواضيع مستحدثة تحمل سمات العصر الرّاهن بواقعه المعقّد المتحوّل وارتهانه للضّرورات الماديّة وجريه وراء الرّبح وولعه بالتّكنولوجيات ذات الأثر المربك في حياة النّاس. إنّه زمن تفتتّ المجتمع القديم الذي بات عاجزا عن الاحتفاظ بتماسك نسيجه فانقسم إلى فئات ذات ثقافات متباينة، يميل أفرادها غالبا إلى إعلاء قيمة التّمرّد والصّدام والتّجاوز إلى حدّ الاجتراء والإسفاف اللّغوي إلى حدّ البذاءة؛ وهو ما تعكسه يوميّا الخطابات المأزومة والعلاقات العدائيّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ. فأيّ مكان هنا وأيّة وظيفة لأغنية نشأت في مجتمع متجانس واعتمدت لغة ودلالات يفهمها المجتمع بمختلف شرائحه؟
الأصول الاجتماعيّة للأغنية الفكاهيّة التّونسيّة
نشأت الأغنية الفكاهيّة كما أنتجها صالح الخميسي ومن سار على نهجه في وسطٍ كان لا يزال على قدر كبير من التّجانس الثّقافي، خلال ثلاثينات القرن الماضي، عندما كانت الفروق الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين الفئات والطّبقات لا تعكس، بالضّرورة، تمايزا واضحا بينها في القيم الأخلاقيّة وأنماط السّلوك؛ ولئن اتّخذ الغناء السّاخر شكل أغنيّة المنوّعات (chanson de variété) المعبّرة عن اختيارات فرديّة في الأسلوب والأداء إلاّ إنّه ظلّ وثيق الصّلة بالذّهنيّة الجماعية، متحاشيا الاصطدام بالقيم السّائدة، بل إنّنا نلمس فيه أحيانا نفسا تربويا إصلاحيّا ونقدا للمظاهر والممارسات الخارجة عن المألوف والمقبول.
ومن ناحية أخرى تبدو الأغنية الفكاهيّة امتدادا لتقاليد شعبية من نوع ارتجالات «سلاّك الواحلين» التي كان يتكسّب بها «المدّاحة» في الشّوارع أو تلك الأهازيج الفكهة التي كان يترنّم بها الأطفال في الأزقّة مثـل: «عسكري يا عسكري يا خديم الباي» وغيرها. كما نجد لها ارهاصات في تراث شعبي عريق مثل أغنية «إللّي تحب تسحر راجلها تعمل لو الأسحار» مـن غنــاء شيخ الفنّانين خميّس التّرنان، أو أغنية «عمّك ســـالم مات، خلّى زنبيله وثلاثة ريالات مصروف العيلة» الطّافحة بسخـرية مرّة، وكان قـد أحيى ذكــرها الفنّان الطّاهر غرسة.
صالح الخميسي وظهور الأغنية الفكاهيّة الحديثة
ظهرت الأغنية السّاخرة الحديثة مع رائدها الكبير صالح الخميسي (1912ـــ1958)، حاملة رؤية متفرّدة لقضايا المجتمع، طافحة بروح التّمرّد على سلبياته، مستلهمة روحه السّاخر وحسّ الدّعابة الكامن فيه رغم ما كان يعانيه من ظلم وضيق على يد المحتلّ. وقد تحوّل الغناء السّاخر مع الخميسي من تراث مبثوث في جسد الذّاكرة الجماعيّة إلى أعمال تحمل رؤية فرديّة بمضامين هادفة وصياغته فنيّة متفرّدة.
تعدّدت مضامين أغاني الخميسي فوصفت فئات الشّعب وطبقاته وشخّصت الأدواء التي يعاني منها في أسلوب يراوح بين النّقد اللاّذع وشعور بالأسى إزاء أوضاعه المتردّية. وقد تصدّى في أغنياته لشتّى المظاهر السّلبيّة كالشّعوذة (الدّقّازة؛ كلّ ما يعطيك جهدك يجيك) وتعاطي المسكرات (الدّبّوزة؛ أنا عمري ما سكرت)، وحياة السّجناء (في بو فردة) والمشكلات العائليّة والعلاقة بين الأزواج (حبّيت نتوب نتزوّج)، والحبّ الفاشل (حبّوني وتدلّلت)، وأجواء الطّبقات الكادحة والكفاح من أجل لقمة العيش (تدوير الدّم ولا الهمّ) وغيرها من المواضيع؛ ولا يندر أن ترتقي أغانيه إلى أجواء تأمّليّة تنضح بالحكمة كما نرى في أغنيته الشّهيرة أجمل نوّارة تقطفها التي تقدّم تصنيفا طريفا لدلالات الكلام ومراميه:
ثمّة كِلمة متاع توديعْ
وكِلمهْ خريفْ والأخرى رْبيعْ
وثمّة كِلمة بالتَّصنيعْ
ذُوق تسعهْ ماهوش رْفيعْ
سِلْعهْ مَعْروضهْ لِلْبيعْ
ويِلْزمها شويّهْ تَرْقيعْ
كِي كُثْر الخِدْمهْ نَشَّفْها.
وقد أفـاد صـالح الخميـسي كثيرا من امتزاجه بنخبة من أدباء ذلك العصر وخاصّة أقطاب الشّعر الهزلي مثل حسين الجزيري وعلي الدّوعاجي اللذين كتبا له بعض أشهر أغانيه؛ وظلّ إلى آخر حياته أشهر ممثّلي الغناء الفكاهي أو السّاخر بما حملته أعماله من دقّة في تصوير أحوال المجتمع وجرأة في النّقد لم تكن تستسيغها السّلطة في بداية عهد الاستقلال، ممّا سبّــب له مضايقات بلغت إلى حــــد سجنــه لفتـــرة لم يعد إثرها إلى الفــنّ حتّى وفاته سنة 1958.
أيّ آفاق للأغنية الفكاهيّة؟
بعد رحيـل صالـح الخميسي برزت بعض الشّخصيّات محاولةً الحفاظ على استمرارية هذا الفنّ وكان من بينها الهادي السّملالي الذي قدّم أعمالا طريفة لا يزال يذكرها الجيل الحاضر؛ كما ظهرت مساهمات متفرّقة لآخرين أمثال محمد الجرّاري ورضا الحجّام ومحمد المورالي وعبد اللّطيف الغربي وحمّادي الجزيري. غير أنّ تلك المحاولات، على ما تميّزت به من طرافة لم يكن بوسعها مضاهاة تراث الخميسي في تنوّعه وقوّة تعبيره عن واقع المجتمع التّونسي. ولنتساءل الآن هل بالإمكان بعث الأغنية الفكاهيّة من جديد وعمّا إذا كان بوسعها التّعبير في الحاضر عن أحاسيس وقيم وقضايا مشتركة بين الغالبيّة من فئات المجتمع. قد لا يكون ذلك مستحيلا إذا ما نجحت مضامينها في نسج صلات بين الماضي والحاضر ولاءمت بين الثّابت المؤصّل للشّخصيّة الجماعيّة وبين المتحوّل الذي لا مناص من التّفاعل معه لضمان حيويّتها واستمرارها، مع ضرورة أن يظهر جيل من المبدعين المميّزين يعيدون لتقاليد الفكاهة مجدها القديم.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق