فيلم شرش: مقاربة سينمائية لإعادة النّظر في تداعيات العولمة الاقتصادية
شرش أو ريح الشّمال هو عنوان الفيلم الذي اختاره المخرج الشاب «وليد مطّار» لأوّل أفلامه الروائية وهو إنتاج تونسي فرنسي بلجيكي مشترك، لا تتجاوز مدّة عرضه 90 دقيقة. الفيلم ضمّ مجموعة من الممثّلين المحترفين والموهوبين، المحليين والدوليين، على غرار فيليب ريبو (هيرفي)، كورين ماسيرو (فيرونيك زوجة هرفي) وكاسي موتيت-كلين (ابن هرفي وفيرونيك) بالإضافة إلى محمد أمين حمزاوي (فؤاد) و عبير البناني (كريمة). يذكر أنّ الفيلم حصد ثلاث جوائز في الدّورة الأخيرة لأيّام قرطاج السينمائية من بينها جائزة التانيت الذهبي الطاهر الشريعة لأفضل عمل أوّل في مسابقة الأفلام الطويلة وجائزة لجنة التحكيم (تي في 5 موند) وجائزة أفضل سيناريو.
إذا كانت أحداث الفيلم متباعدة في المكان، فهي متقاربة في الزمان ومتشابهة جدّاً في الواقع. المؤكّد أنّ السيناريو هو أحد نقاط قوّة الفيلم الذي تدور أحداثه بين فرنسا وتونس، حيث اختار مخرج العمل تسليط الضّوء على قضيّة التشغيل التي أصبحت تؤرّق العالم بأسره وتلقي بظلالها القاتمة وآثارها السلبية على جميع المجتمعات. إثارة هذه الإشكالية لم تخضع إلى معالجة سينمائية تقليدية، حيث سعى المخرج إلى الكشف عن تداعيات العولمة الاقتصادية من خلال مراهنته على الجمع بين قصّتين منفصلتين يتقاطع فيها مصير شخصيتين (هيرفي و فؤاد) متباعدتين جغرافيا، سيسيولوجيا وثقافيا، وذلك بالاعتماد على تجميع تناوبي montage alterné للقطات متتالية تدور أحداثها في نفس الوقت بين ضفّتي المتوسط.
ففي الضفة الشمالية من المتوسط وبعد أكثر من ثلاثين سنة عمل، يجد هيرفي نفسه مجبرا على التخلي عن وظيفته بعد أن قرّر مصنع الأحذية الذي يشتغل به نقل نشاطه إلى إحدى الضواحي الجنوبية للعاصمة التونسية بحثا عن يد عاملة أقلّ تكلفة. ورغم هذه الضربة القاسية إلّا أنّ هيرفي اختار أن يرسم انطلاقة جديدة لحياته ليكسب قوت عيشه ويلبّي حاجيات عائلته بعد أن قرّر امتهان هوايته المفضّلة، صيد الأسماك.
في الضفة المقابلة من المتوسط تتفاقم مشكلة البطالة وتستفحل في صفوف الشباب ليجد فؤاد الشخصية المحورية في الجزء التونسي من الفيلم نفسه مجبرا على القيام بنفس المهمّة التي كان يؤمّنها هيرفي في نفس المصنع وعلى نفس آلة العمل مقابل راتب زهيد، وذلك حتّى يتمكّن من إعالة والدته المريضة ويكسب في نفس الوقت ودّ حبيبته (كريمة) التي تشتغل في المصنع ذاته. إلّا أنّ فؤاد يعجز عن تحقيق أهدافه وأحلامه ويختار الهروب إلى الضفة الأخرى.
رغـم اختلاف السيـــاقات الســوسيو ثقافية للشخصيتين الرئيسيتين والمراوحة في سرد أحداث القصّة بين مكانين مختلفين، تتواتر الأحداث وتتداخل من خلال صراع مركّب ومعقّد ضدّ الفقر، البطالة، البيروقراطية الإدارية المملّة والسياسات الرأسمالية المتوحّشة الخ. ليجد المتفرّج نفسه أمـام قــصّة درامية اجتماعية حُبكت بشكل سردي مقنّع ومتسلسل قطع مع الصورة النمطية المتّبعة في السينما الاجتماعية «التقليدية». نجاح السيناريو هو نتيجة للاعتماد على تقنية الكتابة المشتركة بين كلّ من ليلى بوزيد، كلود لوباب ومخرج العمل، تقنية أثبتت فعاليتها ونجاعتها في صياغة نصّ درامي متوازن وغير مملّ.
مصيـر واحـد مـن منطلق منظورين مختلفين
رغـــم التبـــاينات العديدة بين الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم إلا أنّهما تتشابهان في نفس المصير بقطع النظر عن فارق السنّ أو الانتماء الجغرافي، فمعاناتهما واحدة. ففي حين يرى هيرفي في صيد الأسماك وبيعها بديلا وحلاّ لتجاوز أزمته بعد إحالته على التقاعد الإجباري، يسعى فؤاد إلى تحسين وضعيته المهنية وإلى خوض غمار قصّة حبّ مع حبيبته ليتخلّص من رتابة الروتين اليومي للحياة. لكن في آخر المطاف تذهب هذه الجهود سدى نتيجة العقبات الاقتصادية والعوائق البيروقراطية التي حــالت دون بلوغ الشخصيتين الهدف المنشود. ليكون بذلك الإحباط وخيبة الأمل هما ما حصده بطلا الفيلــم هيرفي وفــؤاد اللّذَان لا يلتقيان فعليا في الفيلم إلّا في مشهد عابر ومميّز تتقاطع فيه فقط النظرات لبضع لحظات قبل أن تنفصل وتتباعد لتخبرنا عن كونية معاناة الإنسان المعاصر.
طرح هذه القضية من منظورين مختلفين تمامًا، يعطي فرصة للمتلقّي لاتّخاذ خطوة إلى الوراء حتّى يقوم بمراجعات للحصول على صورة كاملة وواضحة تتجلى من خلالها حقيقة الوضع الهشّ للاقتصاد العالمي واستفحال أزمة التشغيل التي أصبحت كابوسا مزعجا يؤرّق شعوب الدول النامية والمتقدّمة على حدّ سواء.
طرح متجدّد ومختلف للموضوع ولكن ...
مراهنة مخرج العمل وليد مطّار على تكسير القوالب النمطية لتقديم مثل هذه المواضيع في السينما، يمكن أن نعتبره استثنائيًّا إذا أخذنا بعين الاعتبار طريقة طرح الموضوع بكلّ تركيبه الشكلي وتعقيداته في السّرد، إضافة إلى الحرفية التقنية في تصوير العمل ومن ثمّ توليف المشاهد وإخراجها في صياغتها النهائية. ولكن مثل أيّ عمل سينمائي، هذا الفيلم لم يخل من بعض العيوب خاصّة على مستوى صياغة الحوار في الجزء التونسي منه والذي شكل نقطة سوداء نتيجة الإفراط في استعمال الكلام النابي والتراشق بالألفاظ السوقية الجارحة التي كانت حاضرة في كل المشاهد تقريبا. بالطبع السينما هي مرآة تعكس الواقع الحقيقي للمجتمعات ولكن كان بإمكان مخرج العمل استعمال تلميحات ذكيّة، وإشارات خفيّة دون السّقوط في المباشرتية والسّطحية، حتّى لا تتحوّل الجرأة الى وقاحة وابتذال. من ناحية أخرى لاحظنا عدم وجود توازن بين الوقت المخصّص للقصّتين، حيث حظيت قصّة هيرفي على حيّز زمني مهمّ مقارنة بقصّة فؤاد، هذا الأخير الذي ظهر في صورة الشاب المتسرّع والطموح الذي يخذله محيطه العائلي والاجتماعي؛ على عكس نظيره هيرفي الذي حاول الصّمود جنبا إلى جنب مع أفراد عائلته رغم العراقيل المتعدّدة. لينتهي الفيلم على مشهد بألوان الألعاب النارية في السماء، إعلانا بوصول فؤاد إلى الضفة الأخرى من المتوسّط، وكأنّه القدر المحتوم، حتّى على شاشة السينما، لشباب ضاقت به كلّ السبل وأوصدت جميع الأبواب في وجهه.
فيلم وليد مطّار هو دعوة سينمائية ملحّة لإعادة النّظر في مفهوم العولمة الاقتصادية وتداعياتها على الطبقات الاجتماعية الهشّة، سعى من خلاله إلى رسم صورة حقيقية لواقع اقتصادي واجتماعي منهك، يتحاشى البعض الخوض في عميق أسبابه وجزئيات مضاعفاته.
محمّد ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق