محاضرة السيد رضا السعيدي في مؤتمر التكامل الاقتصادي العربي: تجاوز الإخفاقات والانكسارات لصنع مستقبل أفضل
كان للسيد رضا السعيدي الوزير المستشار الاقتصادي مساهمة خلال الجلسة العلمية الأولى لمؤتمر التكامل الاقتصادي العربي الذي نظّمه مركز جامعة الدول العربية بتونس بالتعاون مع المعهد العربي للتخطيط يومي 28 فيفري وغرّة مارس الجاري.
وتناولت هذه الجلسة العلمية تقييم تجربة التكامل الاقتصادي العربي واتفاقياته وتشخيص نقاط الضعف والقوة واستخلاص الدروس المستفادة.
وقد جاء في مداخلة السيد رضا السعيد ما يلي:
"بعد الشكر والتقدير بجامعة الدول العربية والمعهد العربي للتخطيط وتجديد الترحيب بضيوف تونس الكرام من مسؤولين وباحثين ومختصين في مجال التخطيط الاقتصادي ووضع البرامج التنموية ورسم السياسات العامّة، يجدر بنا التنويه بجهود من سبقونا من قادة وخبراء في وضع أسس البناء العربي المشترك من مؤسّسات وتنظيمات وبرامج ومناهج عمل وما صاغوه من مخطّطات طموحة وما رسموه من أهداف وما وضعوه من وسائل وما رصدوه من أموال لتحقيقها.
هي لمسة وفاء لأجيال من الروّاد والقادة الذين آمنوا بالعمل العربي المشترك وحلموا بالتكامل الاقتصادي كمدخلٍ للوحدة الشاملة وبوّابةٍ لتحقيق أحلام الشعوب العربية في التقدم والرّفاه ربّما كانت الأحلام أكبر من الممكنات العربية في ظلّ الصراعات الدولية والتجاذبات الإقليمية وربّما كانت الأهداف المرسومة أعلى من المُتاح واقعيّا...ومستعصية على الإنجاز..
وربّما كانت المخطّطات... والأدوات الموضوعة لتحقيقها ينقصها التلاؤم والانسجام.
ولكن يكفينا فخرا أننا حلمنا.. وأنّ الحُلم سيتحقّق بإذن الله.. ان لم يكن اليوم.. فغدًا. والعبرة بمواصلة المشوار ورسم السّياسات الواضحة ووضع البرامج المناسبة والأخذ بعين الاعتبار مُعيقات التكامل ومصاعب الطريق وتحدّيات الواقع..
يجب بعث جيل مـُؤمن بضرورة التكامل عقلاً ووجدانا.. والعقل قبل الوجدان أحيانًا.
كما تجدر الإشارة إلى ضرورة النظر إلى التكامل العربي كوحدة شاملة تتكامل حلقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية في تناغم وتناسق ..مع الأولويات العقلانية والواقعية.
كما يجب أن تنطلق رؤيتنا للتكامل العربي من الهدف الأساسي له. وهو سعادة الانسان العربي في مختلف مواقع تواجده الجغرافي أمنًا ورفاها وتنمية وثقافة وتربية وصحّة وأمانا.
ويجب أن ينطلق بناؤنا الجديد على نجاحات الماضي وانجازاته والعمل على تجاوز الإخفاقات والانكسارات.. نُقيّم للاعتبار واستخلاص الدروس لوضع أسس انطلاقةٍ جديدة متبصّرة وأكثر عقلانية.
موضوع جلستنا: تقييم تجربة التكامل الاقتصادي العربي واتفاقياته..
والتكامل الاقتصادي هو بداهة عصب التكامل الشامل وأحد مكوّناته الرئيسية.. وقد بنى الأوروبيون، وهم أمم مختلفة الأعراق واللغات وتاريخهم المشترك مليء بالحروب والنزاعات، قد بنوا وحدتهم انطلاقا من اتفاقية الحديد والصلب ومرورا بالسوق المشتركة والاتحاد الجمركي ووصولا إلى العملة الموحّدة وانتهاء بالاتحاد السياسي.فالكيان الأوروبي الذي يضمّ أكثر من 510 مليون نسمة قد أنبنت أسسه على التكامل الاقتصادي وتقاسم المنافع والتكتل الإقليمي لمواجهة التحديات العالمية..
والعالم العربي يعُدّ حوالي 380 مليون نسمة ويزخر بالثروات الطبيعية والبشريّة ويتمتّع بكلّ مقوّمات التكامل من لغةٍ واحدة وثقافة واحدة ودين غالب وأقليات مندمجة وتاريخ مشترك... وشعوبٍ متجانسة وبعضها متصاهر.. فلماذا لا تتحوّل هذه القوّة الكامنة إلى كيان فاعل وقوّة اقتصادية ضاربة ..
إنّ تتالي الإخفاقات لا يحجب عنا بعض النجاحات في وضع لبِنَات للتكامل الاقتصادي العربي الذي نراه المدخل الطبيعي المتاح لبناء الكيان الموحّد المأمول..
أصدرت " الاسكوا " (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا) سنة 2014 تقريرها حول " التكامل العربي سبيلا لنهضة إنسانية" .. وأصدر فريق من الباحثين برعاية الاسكوا سنة 2016 تقرير " العدالة في العالم العربي أو الظلم والطريق إلى العمل ". وقد كان لي شرف المشاركة في اطلاق التقرير بتونس في 25 فيفري 2014 وشرف المساهمة في انجاز التقرير الثاني خلال سنتيْ 2015 و2016 واطلاقه ببيروت في مطلع سنة 2017.
وقد أوْرد التقريران احصائيات ومعطيات صادمة حول ضعف نسق بناء الوحدة الاقتصادية العربية وتباعد السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتنافر الأولويات في المبادلات الاقتصادية الخارجية لمُجمل الدول العربيّة، ولا سيما دول المغرب العربي التي تسجّل مبادلاتها البينية أضعف النسب المسجلة على المستوى الدولي بين الدول المتجاورة حيث لا تتجاوز نسبتهامعدّل % 3 و 5% كنسبة قصوى.
وفي إطار تقييم تجارب التكامل الاقتصادي العربي يبرز الاستخلاص الأكبر : الطموح في التخطيط والقصور في التنفيذ..
ويُمكننا استعراض أهمّ المحطات في مسيرة التكامل الاقتصادي العربي التي وردت مفصّلة في تقرير التكامل العربي.
- الخطوات الأولى انطلقت عام 1953 بتوصّل البلدان العربية لترتيبين تجاريين تفضيليين في إطار جامعة الدول العربيّة يقضي الأوّل بتسهيل التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانزيت ويهدف الثاني إلى تيسير سداد المعاملات الجارية وانتقال رؤوس الأموال.
- وفي عام 1957 وقّعت الدول العربية على اتفاقية الوحدة الاقتصادية القاضية بكفالة حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال وتبادل البضائع وضمان حرية الإقامة والعمل وممارسة النشاط الاقتصادي وحرية استعمال وسائل النقل والمرافئ والمطارات المدنية وإرساء حقوق التملك والارث، وأنشئ بموجب هذه الاتفاقية مجلس الوحدة الاقتصادية العربيّة كهيئة دائمة تتولّى تنسيق جهود التنمية الاقتصادية ووضع البرامج لتحقيق مشاريع الانماء العربية المشتركة وتنسيق السياسات الاقتصادية وسياسات التجارة الخارجية.
- وبعد مرور حوالي ربع قرن على توقيع الاتفاقية ونتيجة للعقبات التي واجهت تطبيقها، والمتغيّرات التي لحقت بهياكل وأنماط الاستهلاك العربية، جدّدت الدّول العربية عام 1980 التزامها باستكمال مسارات التكامل الاقتصادي العربية بتوقيع ميثاق العمل الاقتصادي القومي الذي لا يقل مضمونه طموحا عن اتفاقيّة الوحدة الاقتصادية. كما وقّعت الدول العربية على استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك التي تهدف إلى تحرير الانسان العربي وقدراته المبدعة وتحقيق التكامل الاقتصادي على درب الوحدة الاقتصادية العربية لتسريع التنمية الشاملة المتوازنة وتلبية حاجات الشعوب العربية.
- وفي عام 1981 أبرمت الدول العربية اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري، إلاّ أنّ الاتفاقية خلَت من الإجراءات المُحكمة للتحرير الفعلي للتجارة البينيّة ومن الآليات الكفيلة بإتمام عمليّات التعويض وتحقيق التوزيع المتكافئ للمكاسب المتأتية عن التحرير التجاري.
- وتمّ سنة 1986 انشاء محكمة الاستثمار العربية واستتبع ذلك التوصل إلى اتفاقية عمّان العربية للتحكيم التجاري في سنة1987 بهدف الفصل في النزاعات التجارية وتأسيس المركز العربي للتحكيم التجاري.
- وبعد مضي أربعين عاما على الاتفاق لم يـُنفّذ من الوحدة الاقتصاديّة سوى إقامة منطقة التجارة الحرّة العربيّة الكبرى سنة1997.
وظلّت مسيرة العمل العربي المشترك في الإجمال قاصرة عن تلبية آمال الشعوب العربيّة في التكامل الاقتصادي والتنمية المشتركة.
وتعتبر اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي يُفترض أن يكون تنفيذها قد استُكمل في 2005 من أهمّ الاتفاقيات في مسار التكامل العربي.
ولئن قضت الاتفاقية بتحرير السلع ذات المنشأ العربي من الرسوم الجمركية والرسوم والضرائب ذات الأثر المماثل وفقا لمبدأ التحرير التدريجي.
ولكن الاستثناءات التي سمحت بها الاتفاقية قد أضرّت بمسار التحرير التجاري وحصرته في دائرة محدودة من السّلع والمنتجات مثل اعتماد " القوائم السّلبيّة " والإجراءات الحمائية للمنتجات المحلية والقيود غير الجمركية، كالمعايير الصحيّة والأمنيّة والبيئية، والاضطراب في اعتماد قواعد "المنشأ"، أو حدود القيمة المضافة المحلية (40%) والتعسّف أحيانا في احتساب نسبها وقياسات سعر الكلفة. هذا الى جانب خلو الاتفاقيات العربية من الاحكام المُلزمة للدول الموقّعة عليها وغياب العقوبات في حال المخالفة مثلما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبي مثلا.
وعبّرت الدول العربيّة عن رغبتها في إقامة اتحاد جمركي عربي بحلول عام 2015 وبلوغ السوق المشتركة بحلول عام 2020، وذلك خلال القمّة التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي عُقدت بالرياض سنة 2013.
ولكن ارتباط أغلب الدول العربية بترتيبات تجارية تفضيلية مع دول وتجمعات إقليمية أخرى جعل بلوغ هذه الأهداف الطموحة صعبة المنال.
كما لم تـُسجّل بعض الاتفاقيات الجهويّة أو الجزئية نجاحات تُذكر، فلا بعث اتحاد المغرب العربي سنة 1989 ساهم في دعم التبادل التجاري المغاربي الذي ظلّ يراوح مكانه في حدود 3% ولا كذلك اتفاقية أغادير المبرمة سنة 2006 بين الدول العربية المرتبطة باتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي (تونس، مصر، الأردن والمغرب) للاستفادة من عمليات التصنيع المشترك التي توفرها قاعدة التراكم الإقليمي المنشأ التي استحدثها الاتحاد الأوروبي لتعميق الاندماج الإقليمي في مجاله الحيوي في منطقة جنوب وشرق المتوسط، إذ لم تتجاوز الصادرات البينية نسبة 3,3 % من مجموع صادرات البلدان الأربع سنة 2011 .
وتبقى تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربي استثناء في المنطقة العربية، اذ استطاعت الدول الخليجية الستّ أن تؤسّس سنة 1981 إطارا ناجحا للتعاون وتنسيق السياسات الاقتصادية والمالية وتنمية المبادلات التجارية البينية، وأطلقت سنة 2003 الاتحاد الجمركي الذي يعتمد تعريفة جمركية موحّدة في حدود 5 % على معظم السلع المستوردة من خارج هذه الدول باستثناء بعض المنتجات الزراعية، ثم أطلقت سنة 2008 السوق الخليجية المشتركة.
وباستثناء بعض الثغرات التي أحدثتها الاتفاقيات الثنائية لعمان والبحرين مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير المبادلات التجارية، فإن تجربة مجلس التعاون الخليجي يمكن اعتبارها من أنجح محاولات التكامل ضمن مجموعة من الدول العربية.
كما تجدر الإشارة إلى أهمية الدور الذي لعبته الصناديق التنموية العربية، كالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، الذي نحتفي اليوم بمديره العام ورئيس مجلس إدارته الأستاذ عبد اللطيف يوسف الحمد، والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في افريقيا...، في تمويل المشاريع التنموية الكبرى في البنية التحتية والكهرباء والطاقة والمياه والصحّة في البلدان العربية، وساهمت كذلك في تمويل العديد من المشاريع الإقليمية بهدف دعم التكامل الإقليمي العربي.
ولكن تبقى مساهمة هذه الصناديق أقل حجما من تمويل المؤسسات التمويلية الدولية والإقليمية الأخرى، كالبنك العالمي والبنك الافريقي للتنمية.
وتبقى الاستثمارات العربية البينية ومسار حركة الرساميل دون المستوى المأمول مقارنة بحجم الاستثمارات العربية خارج المنطقة العربية، إذ لا تتجاوز الاستثمارات العربية في الداخل 11,2 % من مجموع استثمارات الصناديق العربية السيادية في الخارج والمقدّرة بــ1,616 مليار دولار (50 % في الولايات المتحدة الأمريكية و20 %في أوروبا) برغم ضعف العائد الاقتصادي على الاستثمار في الدول المتقدّمة ومخاطر الأزمات المالية (2008: خسائر فادحة تكبّدتها هذه الصناديق).
كما تُظهر الاحصائيات المتوفرة عن الفترة 1995–2011 أن الرصيد التراكمي للاستثمارات العربية البينية المباشرة بلغ حوالي 178,5 مليار دولار، أي قرابة 31% من مجموع رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى المنطقة العربية. وهذا يدلّ على أنّ المستثمر العربي أكثر تردّدا أمام الأزمات والتغيّرات السياسية التي تشهدها المنطقة وأقل استعدادا للمخاطرة من المستثمرين غير العرب.
كما يبرز الاختلال في توزيع رصيد الاستثمارات العربية البينية، إذ تتركّز أغلبها في بعض بلدان دون أخرى وتستحوذ ثلاثة بلدان على قرابة نصف الاستثمارات العربية البينية. وهي السعودية (27 %)والسودان (13%) ومصر (11ٍ%) حسب " البيانات المتوفّرة إلى نهاية سنة 2011.
وعموما يميل المستثمر العربي إلى الاستثمار في القطاع العقاري والسّياحي وفي الأوراق المالية. إذ ترتفع حصّة قطاع الخدمات من مجموع الاستثمارات العربية البينية إلى حوالي 70 % (سنة 2011) مقابل 26 % للصناعة (وأساسا النفط والغاز) و%4 فقط للقطاع الزراعي.
ويعود كذلك ضعف الاستثمارات العربية البينية إلى ضعف البيئة الاستثمارية العربية وتعقّد المسالك الإدارية وتشعّب الإجراءات وتعدّد الأطراف المتدخلة برغم قيام عديد الدول العربية بإصلاحات جوهرية لتحسين مناخ الاستثمار بها.
ونستخلص من كل ما تقدّم أنّ مبادرات التكامل الاقتصادي العربي برغم طموح البدايات وتعدّد الآليات والاتفاقيات لم تُحقّق الأهداف المنشودة في خلق نقلة نوعية للواقع الاقتصادي والتنموي بالبلدان العربية.
فقد بقيت المبادلات التجارية البينية بين الدول العربية لفترة طويلة في حدود 5% ثمّ ارتقت في الفترة 2000-2015 الى 10,8 %ويعود ذلك لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية، بينما ترتقي هذه النسبة إلى 49 % في منطقة التجارة الحرّة لأمريكيا الشمالية وتصل إلى 65 % بين دول الاتحاد الأوروبي و24 % بين الدول النامية التي تجمع دول جنوب شرق آسيا (ASEAN).
ولكن يبقى المجال واسعا لتطوير التجارة العربية البينية وتنويعها كمًّا وكيْفا، وكذلك للرفع من نسبة الاندماج الاقتصادي بين البلدان العربية في عديد القطاعات الاقتصادية ولا سيما خارج نطاق المجال النفطي والمنجمي.
ويُمكن للدول العربيّة أن تربح بالاندماج والتكامل الاقتصادي ما بين نقطة ونقطتي نمو، وما يتبع ذلك من تنمية للثروة وخلقٍ لمواطن الشغل للشباب الذي يعاني من البطالة.
فالممكنات كبيرة... والطاقات الكامنة يجب أن تطلق من عٌقالها بالإرادة الصّادقة والرؤية المتبصّرة والبرامج العقلانية لتصنع مستقبل أفضل للشعوب العربيّة التي تتوق للحريّة والتقدم والرفاه ولتٌحقّق تقدّم الدّول العربية وإنجاز أمنها الاقتصادي والاجتماعي".
- اكتب تعليق
- تعليق