احميده النيفر: نحن وعبقرية المكـان و»المُلك الناقص«
1 - نعيش اليوم في تونس تجربة حضارية فريدة في دلالتها السياسية- الاجتماعية - الثقافية. هي في صميمها إسهام نوعي في إعادة بناء الذات بتجديد مقومات الخصوصية الوطنية في سياق تاريخي وإنساني بلا نظير سابق. ما يمكن أن ينجم عن هذه التجربة التي قد لا تبدو أهميتها بسهولة هي تنميةٌ للفكر السياسي والحضاري بما يستدعي ارتقاء بالوعي الفردي حتى يكون منتجا للتضامن الاجتماعي وفق مقتضيات اللحظة الفارقة وطنيا وإقليميا ودوليا.
2 - يستدعي التّمعن في أهمية ما نخوض غماره اليوم النّظر في تجربة أخرى عربية مضت عليها عقود لكنّها تبقى مكتنزة بجملة من المعاني التي تضيئ ما يخفى من مخاطر ومقوّمات تجربتنا الحالية بمخاطرها وآفاقها.
مسرح تلك التجربة هو بلاد الشام من المشرق العربي في مطلعَ ستينات القرن الماضي حيث عرفتُ لبنان شابّا وافدا من تونس يدرس في جامعة دمشق. كنتُ أقصد بيروت مع غيري من الطلبة المغاربة نمتح منها كلٌّ حسب استعداداته وميوله ومشاربه. كانت زياراتنا إلى لبنان ثم عودتنا إلى الشام مثيرة بأكثر من معنى. في تلك السنوات كانت الأحداث العربية في تزاحمها الشديد ونفَسها الملحمي مثيرة للآمال القومية زاخرة بالثقة في النفس وفي المستقبل لكنّها مع ذلك كانت تطرح أسئلة محيّرة. كنتُ أجدني في كلّ مرّة أعود من بيروت إلى دمشق مستغربا من الفارق النوعيّ بين المدينتين والبلدين. لماذا كل هذا الاختلاف بين طبيعة الحياة هنا وهناك؟ هل هو اختلاف ظرفي سطحي أم أنّه قديم عميق؟ لماذا لم تتمكّن القواسم المشتركة البيّنة بين القطرين من تقليص الفجوة التي تبدو كأنّها مرشّحة دائما للاتّساع؟
كان لبنان أيامَها برئاسة فؤاد شهاب يتعافى من اضطرابات سنة 1958 المحلية والإقليمية التي اختلّ جراءَها الأمن مما أدّى إلى إنزال للقوات الأمريكية. سوريّة من جهتها أُرغمت على مغادرة تجربة الجمهورية العربية المتحدة إلى نظام الانفصال تلته مرحلة قلقة مهّدت لوصول حزب البعث إلى الحكم.
3 - من تلك السنوات بقيت بيروت/ لبنان ودمشق/ سورية مرتسمتين في وعيي بقربهما وبعدهما بوّابةً للمشرق العربي كلّه بثرائه وما يثيره من إعجاب وغموض لا ينقطعان. بقي السؤال قائما بعد ذلك طوال سنوات ومعه حيرة ملازمة عن ذلك الفارق النّوعي بين الجارتين المتنافستين. ثمّ تراكمت التجارب واتّسعت الرؤية وتضافرت المعارف بما أفضى إلى انكشاف تدريجي لطبيعة ذلك التنافس الشديد. أدركتُ أنّ لكلّ مدينة دلالة رمزية سياسية- ثقافية تختلف عن الأخرى. بيروت، التي كان فيها من كلّ شيء، جعلها موقعها البحري قريبةً من أسطورة الأميرة «عليسة الفينيقية» أو «ديدون» رمز الحرية التي خلّد ذكرها الشاعر اللاتيني «فيرجيل» في ملحمته الشعرية: الإنياذة.
أما دمشق فقد تمثّلتْ موقعَها الجغرافي الحضاري موليّةً ظهرها البحر مُقبلةً على بلاد الرافدين وفارس والهند فكانت نسيجا من العراقة والإباء. ذلك ما اعتنى بإبرازه المؤرخون القدامى والمحدثون من أمثال «ابن عساكر» قديما في كتابه المرجع «تاريخ دمشق» و«فيليب حتّي» حديثا في مؤلّفه الشهير «تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين».
من حنايا المدينتين تشخص لنا نظرية «عبقرية المكان» التي اشتغل عليها بألمعية «الدكتور جمال حمدان» في دراسته المتميزة «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان».
تعيّنت تلك العبقرية في بيروت في انفتاح ذكيّ على المحيط يعرض بأريحية إمكانياته في واقعية ومرونة بينما تجسّدت نفس تلك العبقرية في دمشق شخصية مغايرة معتزّة تسعى إلى حضور نضالي وتعمل على أن تكون قلبا للعروبة النّابض ليس بما تعرضه بل بما تفرضه. بذلك تحدّد التنافس بين القطرين من خلال مفهومين مختلفين ينتظمان الحياة العربية المعاصرة: السياسة والحكم.
4 - في بيروت/لبنان اعتَمد رمزُ الحرية مفهومَ «السياسة» الحامل لقابلية الـتعدد والساعي إلى الوفاق بينما تجلّت دمشق/ سورية معبّرةً عن ذاتها بتقمّص مفهوم «الحكم» في اعتباره أولية الاستقرار والانفراد بالحضور.
في بيروت، كان الشّعار: أقلّ ما يمكن من سلطة الدولة وأكثر ما يمكن من الحريات تعبيرا عن الشراكة الداخلية وإغناءً للذات بالعلاقة مع الخارج. في دمشق تعيّن نموذج «الدولة الخارجية» حيث تكون السلطة السياسية المتمركزة هي الضامن لاستقرار المجتمع وللحركة والإبداع فيه.
من تقابل هذين المفهومين يمكن تفسير جانب هامّ من التنافس بين الشقيقين اللدودين في السياق السابق. لكن أخطر ما في هذا التنافس هو تحوّله إلى تناقض. لقد أدّى تباينُ المفهومين إلى استعصاء العطاء اللبناني على تحقيق كامل الفعل في الداخل المحلّي والقومي بسبب الممانعة السورية. كذلك تأكّد أنّ بيروت تستطيع تقليص فاعلية دمشق أو المسّ من مكانتها في مجالها الإقليمي بما للبنان من تفاعلات داخلية وما تحيل عليه تلك التفاعلات من مؤثّرات دولية. من ثمّ اتّضح أنّ ثنائية السياسة والحكم تفتح مجال فهم تعثّر التقدم العربي لشدة ارتباطها بإحدى معضلات الفكر السياسي المتمثّلة في طبيعة العلاقة بين قدرة المجتمع وسلطة الدولة وحرية الفرد ضمن التمثل المميّز لكلّ قطر لمقولة عبقرية مكانه.
5 - هي معضلة قديمة تبرز بوضوح في النصوص المرجعية والتي انكب عليها المؤرخ التونسي الدكتور أحمد عبد السلام في كتابه «دراسات في مصطلح السياسة عند العرب». ما نجده عند ابن منظور في «لسان العرب» أو في المعاجم اللغوية العامة متعلّقا بالسياسة يجعلها تراوح بين ثلاثة اعتبارات: الأوّل، -امتلاك الأمر ( سوّسه القومُ: جعلوه يسوسهم) والثاني،-القيام على الشيء بما يصلحه، والثالث،- التيسير (سوّس فلان لآخر أمرا زيّنه له ليجعله مقبولا لديه). يعضد هذا ما نعثر عليه في كتب الفقه والسياسة الشرعية التي تكاد تتّفق على أنّ السياسة هي جملة القوانين الموضوعة «لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال». إنها كما عرّفها الفقيه الحنفي أبو البركات النسفي: «السياسة حياطة الرعية بما يصلحها لطفاً وعنفاً» أو ما حدّده محمد علي التهانوي في كشاف اصطلحات الفنون بأنّها «إصلاح للخلق بإرشادهم إلى الطريق المُنجي في العاجل والآجل على الخاصّة والعامّة».
من هذه الزاوية تقترن السياسة بأمرين هما تفوّق الســائس وطلب المصلحة.
حقل السياسة إذن في منظومتنا العربية الإسلامية يهدف للربط بين الخبرة والتّرويض وهو بذلك يقترب من التعريف الحديث للسياسة التي هي «علم حكم الدول». أمّا الحكم فقد استُعمِل قديما بمعنى القضاء أو بما هو من لوازم الفصل بين المتخاصمين أي الحكمة كما ورد في الآية الكريمة «آتيناه الحكم». لذلك قيل: «هو يتولّى الحكومات ويفصل الخصومات» اعتبارا لصبغة الحكم التنفيذية التي نبّه إليها عبد الملك الأصمعي فيما تستدعيه من بُعد النّظر ومراعاة قيمة العدل.
6 - على هذا يكون الحكم أخصّ من السياسة لأنّه أحد شُعبها وميدان من ميادينها. لكن الاستعمال الحديث وسّع من دلالة مفهوم الحكم فأتاح له وهو الجزئي أن يعادل مفهوم السياسة الكلّي رغم أنّه كان أحد مقتضياتها، ذلك الذي يطلق عليه الفقهاء القدامى فيما أثبته التهانوي في كشافه «الشوكة الظاهرة والسلطنة القاهرة».
يمكننا على ضوء هذه التعاريف المستمدّة من التراث السياسي أن ندرك أنّ التنافس التبايني بين الجارين الشاميين يعود في جانب منه إلى خلل في معادلة السياسة والحكم. في دمشق تحوّل الجزءُ إلى كلٍّ عندما استعلى الحكم على السياسة وعندما اعتُبرت هذه الأخيرة مسألة ثانوية لارتباطها بتعدّدية الرؤى والمصالح في المجتمع. في هذه الحالة يتحقّق التنافي بين قدرة المجتمع وحرية الفرد وبين سلطة الحاكم لرهان هذا الأخير عمّا يقوّي فاعليته في الخارج تحقيقا لمشروع يعتبره مصيريا.
أمّا في بيروت فالسياسة حصيلةٌ للثراء الوطني بما يجعل حريات المجتمع ومختلف مكوّناته مشروعة ومتحقّقة. لكن حالة ضعف الحكم وطغيان السياسة تهدّد الاستقرار وتزيد من مخاطر التدخلات الأجنبية.
7 - عند هذا الحدّ يبرز ابن خلدون كأفضل من يشخّص هذه الوضعية القديمة فيما تحمله من معان يستدعيها الواقع اليوم. لقد قَرَن صاحب المقدمة السياسة بالملك بصورة شَرطية فلا مجال له إلاّ بالسياسة التي تعني الفكرة المؤسِّسة أو المشروع الذي يجمع بالمعنى الأصلي للاجتماع. ذلك أن «الملك الكامل» عند ابن خلدون هو الذي يحافظ على العمران وهو ما اصطُلح عليه حديثا بالحكم الرشيد. أما «الملك الناقص» فيؤدي حسب قانون الاجتماع في «المقدّمة» إلى «خراب الأوطان، باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم».
السؤال المُـتبَقي والماثل هو كيف يمكن لتونس اليوم ولغيرها من العواصم العربية أن تستفيد من السياق الماضي لبيروت ودمشق في العمل على مغادرة مواقع الملك الناقص إلى الملك الكامل، الملك الذي يستحضر عبقرية مكانه لتكون السلطة لديه ذات مشروع مُقرٍّ بالتعددية ومُحَقِّق للاستقرار؟.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق