توفيق الحبّيب: إلى الكويت مجدّدا ... لإعمار العراق
الكويت - من مبعوث مجلة "ليدرز" الخاص، توفيق الحبيّب - بعد غياب استمر سبع وعشرين سنة ونصف، ها أنا أعود في منتصف شهر فيفري 2018 إلى الكويت، التيّ كنت قد غادرتها في شهر جويلية 1990، أيام قليلة قبل أن يغزوها صدام حسين في 2 أوت 1990.
كنت حينها مستشارا بالسفارة التونسية بصفتي ممثلا للوكالة التونسية للتعاون التقني، وبموجب عملي كان هناك ما يربو عن 600 من المتعاونين الفنيين يرجعون إليّ بالنظر ويتولّون مهامهم بوزارات الصحة والتعليم العالي والكهرباء والمواصلات وغيرها.
داهمتني الأحداث وقتها ولم يكن لي أيّ اختيار آخر غير البقاء في تونس مُكْرَهًا والتسلّح بالصبر والاكتفاء بما كان يَرِدُ علي من أخبار حول اقتحام مقر إقامتي والاستيلاء على جلّ الأغراض والمتاع من السيارة والأثاث والملابس والأدوات المنزلية ولُعَب أطفالي... ثم غلق سفارتنا بصفة مؤقتة. وانصرفت للعمل صلب لجنة إدارة الأزمة المكلفّة بتأمين عودة مواطنينا إلى أرض الوطن.
ظروف في منتهى القسوة مررت بها رفقة زوجتي وطفلي خلال الأسابيع والأشهر الأولى قبل أن أتوفّق الى تجاوز المحنة وانشاء مؤسستي الاتصالية. وطوال هذه السنوات منذ مغادرة الكويت، كانت تتملكنا رغبة جامحة في العودة إليها والالتقاء بأصدقائنا هناك والوقوف على ما انتهى إليه بيتنا في منطقة الجابرية ..
غابت الفرص رغم تردّدي مرارا على بلدان الخليج،. لكن شاءت الظروف أن أتلقّى دعوة كريمة للذهاب إلى الكويت لتغطية حدث ينطوي على قدر لا بأس به من الرمزية: مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق. يا له من قَدَرٍ عجيب، وَيَا له من حُلْم لا يُصَدَّق! سبحان الله؛ لقد وقعتُ ضحية الغزو، وإذا بي أصبح شاهدا على هذه الهبَّة التضامنية لأجل إعمار العراق!
هو الواجب الذي لا بدّ من أدائه تلك كانت قناعتي..
"أحْرَى بِكَ أن تُنَسِّبَ الأشياء وتضعها في نصابها .."؛ قالها مستقبِلي في مطار الكويت_ وهو من الشخصيات الرسمية في البلد الشقيق – على سبيل التصحيح قبل أن يردف موضّحا: " صدَّام شيء، والعراق والعراقيون شيء آخر..". واستطرد مضيفي بنبرة من الصدق: "كنّا دوما وباستمرار متضامنين مع أشقائنا وجيراننا العراقيين؛ استقرار العراق وأمْنُهُ هما من استقرارنا ومن أمننا، ومن استقرار المنطقة بأكملها ومن أمنها.."
لقد توفّق سموّ أمير الكويت إلى تحقيق تعبئة دولية ومشاركة واسعة في مؤتمر إعادة إعمار العراق المنعقد في العاصمة الكويتية من 12 إلى 14 فيفري بمشاركة 75 بلدا ومؤسسة مالية دولية واقليمية، إلى جانب 70 منظمة غير حكومية و1850 رجل أعمال. أخذ سموّ أمير الكويت ورئيس الحكومة العراقية مكانهما على المنصة الشرفية بقصر بيان بالعاصمة الكويتية يحيط بهما الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البنك الدولي ورئيسة الديبلوماسية الأوروبية.
كما شارك في هذا اللقاء الدولي ممثّلون عن الدول الأعضاء في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الاسلامية (داعش). وانضمّت إلى المؤتمر وفود من مستوى عال برئاسة وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والمملكة المتحدة ودوّل الخليج والعديد من البلدان الأخرى.
موضوع المؤتمر واحد بالنسبة إلى هؤلاء وغيرهم: القضاء على داعش، وإعادة الأمن وعودة المياه إلى مجاريها في العراق.
القضاء نهائيا على داعش واستئصال جذورها
لقد قالها ريكس تيليرسون، رئيس الديبلوماسية الأمريكية بوضوح: " أكثر من 98% من التراب العراقي الذي كانت تحتلّه الدولة الإسلامية قد تحرّر، وعلينا أن نواصل مجهوداتنا لاسترجاع بقية الأراضي حتى آخر شبر. علينا أن نعمل بنفس العزيمة ونفس التعبئة الدولية كي نقضي على الجذور التي أنبتت داعش وننهي وجود هذا التنظيم الإرهابي تماما، فنجفف مصادر تمويله ونضع حدّا لدعايته ونواجه خطابه الداعي إلى الحقد والكراهية والعنف، ونحول دون تمدده في اتّجاه أفغانستان وليبيا ودوّل جنوب الصحراء.
قال تيليرسون مستطردا: "علينا من جهة أخرى أن نعيد إعمار العراق، أي أن نؤمِّنَ عودة السكان النازحين، وأن نعيد فتح المدارس والمستشفيات وإدارات الخدمات العامة، ونتيح إعادة توزيع الماء والطاقة الكهربائية في كل الأماكن. علينا أن نعيد الحياة إلى طبيعتها...". ومع ذلك، لم يتخلّف وزير الخارجية الأمريكي عن إطلاق التحذيرات: "إذا ما نحن تخلّينا عن بذل كلّ ما يلزم من جهد، فإنّه يُخشى أن نفاجئ بعودة الدولة الإسلامية"... الرسالة واضحة وتمّ استيعابها تماما.
نتائج أولى فاقت كل التوقعات
حدّدت الحكومة العراقية طبيعة المشاريع ذات الأولويّة لإعمار البلد، وبادرت أطراف عديدة مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية والاتحاد الأوروبي وكذلك الصندوق الكويتي للتنمية إلى تقديم مساعدتها لأجْل وضع الملفات وتهيئتها بالكامل. حدّدت حاجيات التمويل بحوالي 85 مليار دولار. ولا يفتقر العراق، البلد الغني بالمحروقات، إلى الموارد المالية، لكنه في حاجة إلى المبادرات وهذا أمر ملقى على عاتق المجموعة الدولية. وبالفعل، انطلقت الإعلانات والعروض من هنا وهناك على الفور: تعهدت دولة الكويت بتقديم مساهمة أولية تقدر بمليار دولار، ونسجت قطر ودوّل أخرى على منوال الكويت. ووافق البنك الدولي من جهته على منح قرض بمبلغ 510 مليون دولار مخصص لإنجاز مشاريع تتعلق بجلب المياه وخلق مواطن شغل.
شفافية وحوكمة
قالت فريديريكا موغيريني، المفوّضة السامية لاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية وسياسة الأمن في هذا الصدد: "المهمّ هو أن تجني كل مناطق العراق ثمار هذه المشاريع وأن ينتفع بها مجمل السكان بصرف النظر عن أصولهم ودياناتهم، بدون أي تمييز، وأن تشمل كافة القطاعات". وأكّد رئيس الحكومة العراقية حيدر العبّادي مطمِّئنا أنّ كل التمويلات التي سيتمّ تعبئتها ستستعمل كأفضل ما يكون الاستعمال وسوف تجني ثمرتها كلّ الأطراف المعنية أصلا.. وقال آن قواعد الحوكمة الجيّدة سوف تطبق في إنجاز الاستراتيجية الجديدة، مع صرف اهتمام خاص لمقاومة الفساد، مشيرا إلى أن التشريع المتعلّق بالاستثمار قيد المراجعة وكذلك الشأن بالنسبة إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
صدى الديوانية
في ديوانيات الكويت -وهي عبارة عن صالونات محاذية للبيوت تخصّصها الأسر لاستقبال الزوّار دون أن يكونوا بحاجة لأيّ دعوة مسبقة، وهي بمثابة المؤسّسة الاجتماعية والفضاء الذي به يجتمع أهل البيت والضيوف ويتبادلون فيه أطراف الحديث بكل حرية. يخصّص لكلّ صالون يوم في الأسبوع، تضبط ساعاته إمّا صباحا على نحو مبكّر، وإمّا بالمساء. وتدور المناقشات بكثافة وبلا انقطاع. يقول بونوّاف، وهو تاجر كويتي محترم في السبعين من عمره: «ليست هذه المبادرة الوحيدة التي تقوم بها دولة الكويت لفائدة العراق. عملنا هذا ينبع من صميم قيمنا، قد جبلنا على إسداء المعونة وابداء التضامن مع إخواننا الذين يعانون من العوز. فذلك من سمات الكويتيين. لقد أدّينا نفس الواجب ولانزال تجاه اخوتنا في اليمن والصومال وسوريا وبلدان عديدة أخرى كثيرة. وسوف نقوم به مجددّا حالما تتخلّص سوريا من هيمنة داعش وحيثما يكون بوسعنا تقديم يد العون والمساعدة. إنّنا نقوم بهذا العمل بدونأدني منّ، بعيدا عن الاضواء وِفْقَ ما تمليه علينا تقاليدنا...".
الإنسانية والتعلّق بكل ما هو إنساني، قيمة سامية وثابتة
العمل الخيري والانساني، هو سمة مترسّخة في شخصيّة المواطن الكويتي، من المواطن البسيط الى سموّ أمير البلاد. الأُسَر في الكويت تؤدّي الزكاة، وهناك مؤسّسات تتولّى في هذا الإطار تمويل عديد الأعمال الاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها فيشتّى البلدان. ويصل ما يتمّ جمعه من أموال إلى مبالغ هامّة جدّا على قدر ما يتجّمع من محصولات. يؤتي الكويتيون فضلهم هذا يستحقّ وِفقَ مشاريع مضبوطة بإحكام وتتعلّق ببناء قاعات للتدريس ومستوصفات ومساكن ريفية ومساجد وبإسداء منح دراسية وكفالة اليتيم ومهور زواج وتقديم مبالغ مالية تتيح الشروع في إنجاز بعض المشاريع الصغيرة أو خلاص ديون لم تسدد في الإبان وزجّ بأصحابها في السجن وفكّ أسرهم...
منظّمة الأمم المتحدة أطلقت على سموّ الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح صفة "رائد العمل الإنساني" مثلما جدّد التنويه به الأمين العام السيد انطونيو غوتيريس في افتتاح مؤتمر الكويت الدولي لإعادة أعمار العراق وذلك لما يتصف به الشيخ صباح من جود وسخاء غير معلنين.
كل شيء يتغيّر ما عدا ...
يتجاوز عدد سكان الكويت سنة 2017 أربعة ملايين نسمة من بينهم 1,270 مليون كويتي والباقي من الوافدين. الحركة لا تهدأ ليلا.. في سوق المباركيّة الشعبي، وفِي المراكز التجارية وفِي الشوارع الكبرى والواجهة البحريّة وتبقى المقاهي والمطاعم والدكاكين وفضاءات الالعاب للأطفال مفتوحة تستقبل الزائرين حتى ساعة متأخّرة من المساء. تَرَى شارع الكورنيش على مقربة من "الأبراج" الشهيرة والشوارع الفسيحة بجسورها ذات الطابقين وقد اكتظت بالنهار والليل بجموع الأسر والأطفال يأتون من كل حدب وصوب للتنزّه والاستمتاع بنسيم الربيع... الطرق المحورية الكبرى بتفرعاتها وأحزمتها الدائرية قد طالتها يد التجديد. أمّا الأحياء السكنية الفخمة، فقد تكاثرت ولم تعد حكرا على بعض المناطق الراقية دون سواها كما كان الشأن في الماضي، كما شيدت أبراج جديدة ذات طوابق قد تزايد عددها.
كثير مما ألِفَتْهُ عيناي قبل 27 سنة ونصف من معالم وأماكن قد تغيّر تماما أو اختفى، وهو ما جعلني أتحسّس طريقي بشيء من العسر لزيارة بيتي السابق بالجابريّة. لقد تطوّر العمران كثيرا في مدينة الكويت، لكن روح البلد ظلّت هي نفسها لم تتغير. عادت بي الذاكرة إلى أشياء كثيرة كنت ألِفْتُها: عبق البيوت المشبع بمختلف أنواع العطر والبخور، كرم الضيافة تنوع المأكولات، العادات الاجتماعية الأصيلة، الكياسة وحسن الخُلُق... الزمن تغيّر، بصمة الأزمات غير خافية. لكن الكويت يبقى الكويت على الحال التي ألفناها قبل غياب استمر لسنوات... وهو الكويت الذي نحبّه.
توفيق الحبّيب
- اكتب تعليق
- تعليق