التجارب الانتقالية في تونس وإسبانيا والبرتغال واليونان, خطوط التّقاطع وخيوط الـتبـاعـد
نميل عادة في تونس إلى تناول قضايا الانتقال الديمقراطي برؤية محليّة، لا تستأنس بتجارب المجتمعــات المماثلة لنا، مـــع ما فيها من إضاءات وإضافات تُثري ملاحظتنا للمسار التونسي وتُفتق الذهن، أحيانا، على تمثّل حلول ومخارج ممكنة من المآزق التي نواجهها. ومن خلال استعراض مكثّف للتجارب الانتقالية، القريبة والبعيدة، نلحظ أنّها عبرت جميعا تقريبا من البوّابات نفسها واتّبعت الانحناءات ذاتها، لكن الخواتم والمآلات كانت مختلفة. غالبية التجارب وصلت إلى مرساة الاستقرار والتداول السلمي بعد مخاضات عسيرة، ودموية أحيانا، لكنّها توصّلت إلى تثبيت قطار الديمقراطية على السكّة في نهاية المطاف، فغدا طريقا لا رجعة عنه. قد يستغرق هذا المخاض ستّ سنوات كما في إسبانيا، أو سنتين كما في اليونان، أو عشر سنوات كما في البرتغال، لكنّه يصُبُّ في الأخير في خانة .البناء الديمقراطي.
خمسة قواسم مشتركة
تشترك المسارات الانتقالية في خمسة قواسم مشتركة، أوّلها أنّها تشكّل نوعا من ضربة الفأس التي تقطع حبل السيرورة السياسية وتُبشّر بالتأسيس لنقيض الماضي، وثانيها أنّها سرعان ما تجد نفسها مُنجذبة إلى تنازلات ومقايضات كي تستطيع الاستمرار، وإذا ما تردّدت أو مانعت، تُطلّ بدائل تتوسّل قلب الطاولة وما عليها أسوة بالمحاولتين الانقلابيتين في إسبانيا والبرتغال (بعد الثورة). والقاسم المشترك الثالث يتمثّل في المسألة الدستورية التي تعاطى معها كلّ بلد بطريقة مختلفة، فهناك من سنّ دستورا بشكل مُواز للانتخابات الرئاسية والتشريعية (إسبانيا 1974)، وهناك من انتخب مجلسا تأسيسيا لصياغة دستور (البرتغال 1974). أمّا رابع القواسم فهو تضعضع الأوضاع الاقتصادية وتأجُّج الاحتجاجات الاجتماعية في مرحلة الفورة الثورية، على نحو زاد من تعقيد المسار السياسي، أسوة بما حصل في البرتغال مع ثورة الفلاحين ومع العسكر في اليونان ومع أنصار فرانكو في اسبانيا. ولم تستقرّ السفينة في البلدان الثلاثة إلا بعد انتعاش الاقتصاد، وبداية حلّ المعضلات الاجتماعية بشقيها، الموروث من النظام السابق، والمتولّد عن الثورة. أما القاسم المشترك الخامس فهو أنّ الانتخابات تتمّ في تلك البلدان في مناخ ثوري غالبا، بيد أنّ أحزاب الوسط أو يمين الوسط هي التي تفوز فيها بالأغلبية، مثلما حدث عندنا في انتخابات 2014. ولكي نرى أيّ المسالك اتبع الآخرون، وكيف نجحوا في إدارة الانتقال بأقلّ الهزّات الممكنة، سنقارن التجربة التونسية بالمسارات المماثلة في جنوب المتوسط (اسبانيا واليونان والبرتغال).
الفصل أم الوصل مع الماضي؟
لم تجد التجارب الانتقالية مندوحة عن الحسم في الأنظمة التي سبقت الثورة بأحد منهجين إمّا الوصل أو الفصام، فما حدث في إسبانيا بعد وفاة الطاغية فرانشيسكو فرانكو المُلقب بالـ«الكودييو» في 1975، من محافظة على الملكية شكّل اختبارا قاسيا للقيادات السياسية الجمهورية، وخاصّة الشيوعيين والاشتراكيين، الذين هزمهم فرانكو في 1939 واستوى منذ ذلك التاريخ وصيّا على العرش. لم يكن من السهل لمن أفنوا العمر في الكفاح من أجل النظام الجمهوري، مثل الزعيم الشيوعي سانياغو كاريللو، أن يتخلّوا عن أربعة عقود من النضال في المنافي، ويُقروا بشرعية الملكية. لكن شخصية الملك خوان كارلوس وقوة اندفاعه لإرساء الديمقراطية هما اللتان أذابتا المخاوف والاحترازات. وتأكّد هذا الأمر لدى حدوث محاولة انقلابية تمكّن خلالها العسكريون من اقتحام مقر «الكورتيس» (البرلمان)، غير أنّ حزم الملك وشجاعته أحبطا المحاولة.
لئن تكرّست روح الوفاق وترسّخت التجربة الديمقراطية في إسبانيا على مدى نحو عشر سنوات (1975 - 1985) فإنّ النزعات الانفصالية والقوى الاجتماعية الراديكالية في إسبانيا جعلت المسار لا يتّخذ خطا مستقيما، وهو ما ظهر عندنا أيضا لدى بروز بعض الدعوات والنعرات الجهوية بُعيد الثورة. غير أنّ تلك الدعوات اضمحلّت سريعا في تونس، لأنّها لا تستند إلى مقومات حقيقية، فيما ظلّ مشكل علاقة المركز بإقليم الباسك قائما في إسبانيا إلى اليوم.
على غرار الانقسام الذي عاشته تونس لدى تشكيل حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية، حول التعاطي مع إرث الدولة الاستبدادية، عرفت إسبانيا مشروعا وضع نفسه في أفق الاستمرارية، مُعتمدا على المؤسسات الفرانكوية والجيش، في مقابل مشروع قطيعة مع الماضي جمع الأحزاب والقوى التي قاومت فرانكو، ومنها الحزب الاشتراكي العمّالي والحزب الشيوعي، التي شكّلت معا «التنسيقية الديمقراطية» في 26 مارس 1976. وأتى خطابُ الملك خوان كارلوس مُعبّرا عن الوفاء للشرعية الفرانكوية وللـ«القوانين الأساسية» التي وضعها «الكودييو». لكنّه التزم في الوقت نفسه بإقامة «مجتمع حرٍّ وعصري»، وأكّد أنّه «ملكُ جميع الإسبان». مع ذلك فرض على الأحزاب الجمهورية أن تعترف رسميا بالملكية وبراية إسبانيا الحمراء والذهبية كشرط للمشاركة في الانتخابات، وهو شرطٌ قبل به زعماء الأحزاب اليسارية على مضض. بهذا المعنى انبنت التجربة الانتقالية الإسبانية على مقايضات شديدة المرارة في أفواه الزعماء التاريخيين. ولعلّ هذا التنازل القاسي هو الذي مكّن من تقدّم المسار بعد ذلك، إذ تمّ الاعتراف بحقّ الاجتماع وتكوين الجمعيات في ماي 1976، ثمّ إقرار دستور ديمقراطي في 1978.
دورٌ محوريٌ
هُنا تبتعد التجربة التونسية عن مسار التحول الديمقراطي في إسبانيا وتقترب أكثر من المسار البرتغالي، الذي اتسم منذ البدايات بفورة ثورية لعبت فيها الأحزاب اليسارية الراديكالية دورا محوريا، ويُعزى هذا إلى أنّ الثورة الديمقراطية في البرتغال انطلقت من شبه انقلاب نفّذه صغار الضباط في أفريل 1974، عندما اقتحمت قوات خاصّة مقرّ فرع وكالة المخابرات الأمريكية، وكشفت عن وجود جيش سرّي مُعدٍّ لاغتيال المعارضين وزعماء حركات التحرير في أفريقيا، فاندلعت ثورة القرنفل السلمية بعد أربع سنوات من وفاة الطاغية سالازار. وفي هذا السياق أطلقت الحريات وأخلي سبيل السجناء السياسيين وألغيت الرقابة وعاد زعيم الحزب الاشتراكي ماريو سواريس من المنفى. ومن أوجه التشابه بين تونس والبرتغال كثرة الحكومات التي تشكّلت بعد الثورة، ففي مسافة عامين فقط تألّفت في البرتغال ستّ حكومات، وضمّت السادسة أبرز الأطياف السياسية واستمرّت إلى جويلية 1976. بعد انتخابات المجلس التأسيسي تمّ اعتماد دستور جديد في 2 أفريل 1976، أعقبته انتخابات عامة في 25 من الشهر نفسه وتكوين أوّل حكومة دستورية. ويمكن أن نرصد هنا ثلاث ديناميات برتغالية شبيهة بالديناميات التونسية على النحو التالي:
- بالرغم من أنّ الانتخابات تمّت في مناخ ثوري أعطى الناخبون أصواتهم للأحزاب الوسطية، ومن ثمّ قاد الاشتراكي ماريو سواريس الحكومة الانتقالية الأولى (1976 - 1978).
- اضطُرت الحكومة الانتقالية لاتخاذ إجراءات تقشفية بعد سنوات الفوضى، ممّا قلّل من شعبية سواريس وحملته على الاستقالة بعد عامين من التكليف. وما لبث الاشتراكيون أن فشلوا في انتخابات 1979 و1980.
- كثرت المظاهرات والاحتجاجات إذ استمرّ توقّف الناس عن العمل وسيطرة الفوضى على مدى 18 شهرا، وعلى سبيل المثال اجتاح الفلاحون الذين لا يملكون أراضي زراعية في جنوب البلاد، المزارع وحوّلوها إلى تعاونيات. أمّا الفلاحون الذين يملكون قطعا صغيرة في الشمال فردّوا بعنف على محاولات الشيوعيين تحويل حقولهم إلى تعاونيات.
المسار اليوناني
وأخذ المسار اليوناني من التجربتين الإسبانية والبرتغالية معا، فبعد دكتاتورية العُقداء التي استمرت من 1967 إلى 1974 تفكّكت الطغمة العسكرية وانهارت، على إثر فشل اجتياحها لقبرص، فأجريت انتخابات عامة في 17 نوفمبر 1974، تولّى بعدها كونستونتان كارامنليس رئاسة الوزراء من 1974 إلى 1980 ثم صار رئيسا للدولة على مدى ولايتين (1980 - 1985 ثم 1990 - 1995). ويمكن القول إنّ ميزة الانتقال في اليونان تمثّلت في العودة أولا إلى مؤسّسات ما قبل الانقلاب (عهد التعددية) ثم تكريس القطيعة مع عهد الاستبداد، بسنّ دستور في 19 جوان 1975 يضمن كلّ الحريات المدنية ويُرسي نظاما سياسيا يقوم على جمهورية برلمانية، ما قاد إلى إلغاء الملكية. كما اتسمت التجربة اليونانية بالوزن الكبير الممنوح للكنيسة الأرثودوكسية، فليس هناك فصل بينها وبين الدولة، إذ أنّ العلاقة منظمة ومقنّنة اعتمادا على الفصل الثالث من الدستور. إلى تلك الخصيصة الأولى، تفرّد المسار اليوناني بتكريسه نظام الحزبين، وهما الديمقراطية الجديدة Nea Dimokratia (محافظ) والاشتراكي Pasok (يساري) وإن تغيّرت الخريطة اليوم، إذ صار سيريزا هو حزب اليسار.
في المُحصِلة اتبعت البلدان الثلاثة أنموذجا متقاربا: حكومات مؤقتة، إعادة إقرار الحريات، الترخيص للأحزاب بالعمل القانوني بما فيها الشيوعية، إطلاق حرية الصحافة، إجراء انتخابات عامة، سنّ دستور... وفي هذا الاطار تكرس توافق عام حول اعتماد أنموذج برلماني ليبرالي في إطار نظام جمهوري في كلّ من البرتغال واليونان، وملكي في اسبانيا، ما أدّى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلدان الثلاثة. كما اعتمدت أيضا إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبيرة بمساعدة الاتحاد الأوروبي، الذي انتشلها من الأزمات وضخّ لها أموالا طائلة، وهو ما لم يفعله مع أيّ بلد من الضفة الجنوبية للمتوسط، ولن يفعل. ومثلما كان يتعيّن على البلدان الثلاثة في كل مرة إعادة اكتشاف وتعريف الديمقراطية بأبعاد ومضامين جديدة، علينا نحن ألا نبقى سجناء مفاهيم أيديولوجية نسعى إلى فرضها على المسار الانتقالي، بدل التقاط نقاط قوّته لكي نستثمرها ومعوقاته لكي نعالجها.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق