الصحبي الوهايبي: فساد

فسد فِعْلٌ ثلاثيّ صحيح، سالم، ولو أنّ هذه الأخيرة، فيها أخذ وردّ، فهو كثير الأسقام والأمراض والعلل، والأصوب أن يكون معتلاّ، ولكن لا حيلة لنا في ذلك، فهكذا شاءت العرب؛ وهو فعل بسيط، لا يثير في تصريفه متاعب أو مصاعب، حتّى للتّلاميذ الكسالى والمبتدئين الذين لا يفقهون في التّاريخ والجغرافيا... فَسَد، يَفسُد، فسادا. أمّا شرحه فيطول... يُقال فسد الطّعام أي أَنتَنَ؛ وفسد الرّجل أي جاوز الصّواب والحكمة؛ وفسد الأمر أي اضطرب وأدركه الخلل. أمّا الفساد في العلوم الحيويّة فهو انحلال الموادّ العضويّة بتأثير الجراثيم كحال اللّحم المفروم، تغطّي توابله وبهاراته على ريحه النّتنة...

ويقال فسدت الأخلاق وفسد الذّوق، وهذه لا تخفى، فيكفي أن تنظر إلى قلّة ذوق بعض أهل السّياسة في ملبسهم ومنطقهم وطلعتهم، حتّى يصيبك الرّمد أو العشى؛ حالهم كحال الذين ينشرون غسيلهم الوسخ على قارعة الطّريق، في برامج كالمسالخ حيث يختلط الدّم بالزّرق والرّوث والجلّة والمصران والفَرْث؛ ولو أنّ فضلات الحيوان والإنسان ليست كلّها رجسا، فهي وقود وسماد لهواة الفلاحة البيولوجيّة، موضة هذه الأيّام؛ ويقال عاث فلان في الأرض والبحر والجوّ فسادا؛ وقد تستغرب كيف تجمّع كلّ ذلك الفساد في شخص واحد. أمّا الفساد السّياسيّ فالباحث فيه كمن يتعلّم الزّلق في بيت الصّابون، لا يكاد يستوي واقفا حتّى تذهب به قدمه في مزلق؛ لذلك لن نخوض فيه كثيرا، فالنّبش فيه كالنّبش في منجم مهجور، إذا بالغت وأوغلت سقط على رأسك؛ ولا أزيدكم علما لو قلت لكم إنّ الفساد السّياسيّ في معناه الواسع هو استخدام السّلطة لأهداف غير مشروعة؛ وتتنوّع أشكاله من المحسوبيّة والرّشوة والابتزاز والاحتيال والمحاباة؛ ولا أزيدكم علما لو قلت لكم إنّه يُقوّض الدّيمقراطيّة والتّنمية وينشر عدواه في القطاع الخاصّ، فلا ينفع فيه، حينها لا لقاح ولا مصل؛ ولا أزيدكم علما لو قلت لكم إنّه يتكاثر شأنه شأن النّجيل، يفترش الأرض ويذهب فيها بعيدا، سوقه أرضيّة، كثيرة العقد، تتمدّد كلّما كان الفصل سخيّا بمائه أو مطره؛ يضرّ بالزّرع من حوله ويخنقه حتّى يضمر أو يجفّ ويموت؛ عَصيّ على القلع والحشّ والمبيدات؛ لا ينفع فيه إلاّ الحرق أحيانا؛ ومن علاماته التي لا تغيب ولا تخفى، كلام كثير في الحرّيّة والدّيمقراطيّة والشّفافيّة؛ ومن علاماته، أيضا، العجلة واللّهفة؛ كحال ذلك الحَكَم المرتشي الذي كان يستعجل المكافأة فصفّر ضربة جزاء قبل أن تبدأ المقابلة... ولا أحبّ أن أذكر الصّفّارة والمصفّرين إلاّ بكلّ خير وتبجيل، بدءا بصفّارة مدير المدرسة القرويّة التي علّمتني هيبة الصّفّارة، مرورا بصفّارة الشّرطيّ الذي يصفّر لي، تشفّيا، بسبب ودون سبب، وصولا إلى صفّارة القطار الذي يقضّ مضجعي في اللّيل والنّهار، وختامها صفّارة الحَكم، وما أدراك ما صفّارة الحَكم؟ والفساد يبدأ من الرّأس نازلا أو من الجذر صاعدا، شأنه شأن غرس كثير؛ وعلامته، إن كان في الرّأس، ورق كثيف، دون ثمر؛ وعلامته، إن كان في الجذور، خمول ومغص في الأمعاء؛  فإذا بدأ واستفحل من فوق فاقرطْ الرّأس والجذع قرطا شديدا، إن استطعت إلى ذلك سبيلا ثمّ حفّزْ نموّ غرسك بماء زلال، واصبر قليلا، فإنّ براعم كثيرة ستمدّ أعناقها للنّور ثمّ تتفتّح؛ أمّا إذا بدأ من الجذور فامنع الماء حينا من الزّمن فإنّ الفاسد منها لا يلبث أن يموت، إذْ لم يتعوّد الضّنك والشّظف؛ غير أنّ ذلك الجهد كلّه قد لا يشفع لك، فكثيرا ما يمدّ بين البراعم برعمٌ فاسد رأسَه، فما يزال يكبر ويشتدّ حتّى يقضيَ على ما عداه؛ لذا، إذا أردت أن تقطع دابر الفساد إلى غير رجعة، فابدأ بتشتيت أوصـــاله؛ هي حــروف أربعــة فقط، فاء وسين وألف ودال.

حاذر أن تمسّ الألف بسوء فهو العمود الذي يشدّ السّقف، لو نزعته لسقط البنيان على من تحته فيصيبَ المذنب والبريء؛ ابدأ بحرف الدّال، فهو مفصول عن باقي الحروف، ليس بينه وبينها مصاهرة أو نسب، وإنّما تابع، يتزلّف، لذلك يسهل نزعه بقليل من الحنكة والحيلة. ثمّ تفرّغ لحرف الفاء، فانزع عنه نقطته التي فوقه فهو من دون نقطة لا يساوي شيئا كثيرا، ثمّ اجعل أنشوطة في دائرته وادفعه يتدلّى حتّى يختنق شنقا، فإذا انحلّت حلقته فاعلم أنّه أسلم الرّوح إلى باريها؛ وكُنْ شجاعا، ولا تزعم أنّه مات منتحرا؛ أمّا، الآن، فدونك وحرف السّين؛ وهو حرف شرس، فاحذر أنيابه الثّلاثة، واخلعها واحدا فواحدا، فإنّه من دونها لا يقطع ولا يمضغ ولا يهضم ولا يبلع. بقي حرف الألف، وهذا لا خوف منه؛ تستطيع أن تتركه منتصبا في العراء، منبوذا ووحيدا؛ وتستطيع أن تنصبه في حقلك وتخلع عليه قميصك البالي وقبعة من قشّ، فزّاعةً، ترهب بها العصافير؛ وقد لا يُرهب أحدا، حتّى العصافير... والفساد، شانه شأن زرع كثير، ينمو في التّربة الضّحل أو الخصبة الثّريّة، لا يفرّق بين وضيع ورفيع، أو خادم ووزير...

الصحبي الوهايبي