محمّد إقبال والتصوّف: بطاقة حياة
لقد جاء إقبالُ كرسول إنْ لم يكن لعصرِه فلسائرِ العصور. (نيكلسون)
وُلد مُحمّدُ إقبال في سيالكوت بالبنجاب الغربية في الثالث من ذي القعدة عام 1294ﻫ الموافق للتاسع من نوفمبر عام 1877، وتعود أصول إقبال إلى أسرة من براهمة كشمير، عُرفت باسم (سبرو) وهي كلمة سنسكريتية الأصل تعني السبّاق إلى العلوم والمعارف، ومن هو على دراية بالقراءة والكتابة والمُدارسة، وكما يصف إقبال هذه العائلة، كانت من الذّكاء والمعرفة بمكان كبير.
يخبرنا جاويد إقبال أنّ هذه الأسرة كانت متديّنة إلى حدٍّ كبير، فكان جـدّه الأعلى الذي اعتنق الإسلام في القرن الرابع عشر الميلادي واحدًا من مشايخ الطرق الصوفية البارزين في كشمير، ويصفه إقبالُ نفسه بأنّه كان أحد الأولياء المرموقين في عصره [1421 - 1470ﻫ]، وبعض أسلاف إقبـــال بالطبــع أضحوا صوفيّين، ويقال إنّ أحدهم ألّف في التصوّف، وكان والد إقبال نفسه محبًّا للصوفيّة مبجّلاً لهم، ولعلّه كان من أتباع الطريقة القادرية التي عرفها إقبال منذ طفولته. لم يتنصّل إقبالُ من جذوره أو يرى أصله قبل الإسلام معيبًا، كما هو الحال عند بعض المسلمين في أيّامنا، بل كانت سلالته البرهمية مصدر فخر واعتزاز له، إذ يقول في (زبور عجم): «انظروا إليّ، فلن تجدوا في الهند غيري رجلاً من سلالة البراهمةِ، عارفًا بأسرار الرّومِ وتبريز».
ويقول: أنا كافــرٌ هنديٌّ فانظرْ إلى شوقي وذوقي، ملءُ قلبي الصلاةُ والسّلامُ، وعلى شفتي الصّلاة والسّلام.
كان إقبالُ يُجلّ والده كثيرًا، ويراه مثالاً نادرًا للأخلاق، زهدًا وورعًا وفقهًا ووعيًا، ويرجع إليه السّبب في براعته ونجاحه في التّعبير عن جليل المعاني ودقيقها. عاش والد إقبال زهاء مائة عامٍ، وقد قرّت عيّنه بنجاح ابنه الذي علّمــه كيف يقرأ القـرآن ويفاد من دروس الصوفية، ورأى نجم إقبال في حياته في صعود وعلوّ.
دراسته
بدأ إقبالُ دراستَه في سيالكوت، ثم انتقل إلى لاهور، التي سيلقي محاضراته فيما بعد فيها، وتتملذ إقبالُ على شاعر الأرديّة نواب ميرزا داغ الدهلوي، وأشاد به، لكن الفضل الكبير في إيقاد قريحته وصقله كان يعود إلى أستاذه المولوي السيد مير حسن، الذي علّمه الآداب العربية والفارسية والأردية، وحينما أرادت الحكومة فيما بعد منح إقبال رتبة (سير) لم يقبل بذلك إلا بعد أن يعترفوا بفضل أستاذه أوّلاً، وحين سُئل عن مؤلّفات أستاذه قال: أنا بنفسي مؤلّفٌ حيٌّ متجددٌ لأستاذي!
في لاهور حصل إقبال على درجة الماجستير في الفلسفة عام 1899، وفي هذا الوقت تتلمذ على يـد المستشــرق الإنجليزي تـوماس أرنـولـد Thomas Arnold 1930 - 1864 الذي كان أستاذًا في جامعة لندن آنذاك، والمؤرخ للدعوة في الإسلام، وكان على علاقة جيّدة بعلماء الهند من أمثال: مولانا شبلي النعماني، وألطاف حسين حالي. وقد حزن إقبال على مفارقة أرنولد للهند، وكتب في ذلك: لقد كانت ذرّات قلبي على وشك أن تقترب من الشّمس، وكانت زجاجةُ قلبي المكسور على وشكِ أن تكون مرآةَ العالمِ، ونخلُ رغباتي كاد أن يورق، فآهٍ.. لقد كنت على وشكِ أن أصل إلى مرادي وأتحوّل تحوّلاً لا يتصوّره أحدٌ، ولكن سحبت غيوم الرّحمة أذيالها من بستاني، وذهبتْ عنه، بعد أن أمطرت قليلاً على أزهار أمنيتي. أين أنت أيّها الكليمُ في ذروة سيناء العلم؟! وقد وهب موج أنفاسك الحياة للعلم، فإنّك أنت الذي أوجدت الرّغبة في قلوبنا للبحث عن العلم، فلا نجد في نفوسنا شوقًا ورغبة بعد رحيلك!
وقد عبّر إقبال فيما بعد عن إصراره وعزيمته لاستكمال ما بدأه وما تلقّاه من درس حبّ العلوم والمعارف، والالتحاق بأستاذه في الخارج قائلاً: «إنّ يد الجنون سوف تحلّ عقدة القضاء والقدر، وسوف أصل إليك بعد تحطيم قيود البنجاب».
اشتغل إقبالُ بالتّدريس في لاهور، وتحديدًا في الكلية الشرقية، وفي هذه الفترة قام بترجمة وتلخيص وتأليف بعض الكتب التي أضحت مقررات دراسية، ومنها على سبيل المثال: علم الاقتصاد، وترجمة كتاب التربية الوطنية Civics للمستر واكر Walker، وتاريخ الهند بالاشتراك مع لاله رام برشاد، ودروس في الأوردو بالاشتراك مع الحكيم أحمد شجاع. عقب ذلك بأكثر من عام غادر إقبال الهند متّجهًا إلى إنجلترا لإكمال دراساته والاستفادة من أستاذه أرنولد.
إقبالُ في أوروبا
في الطّريق من الهند إلى أوروبا، زار إقبال وهو ينتقل من الهند مقام الولي (نظام الدّين أولياء)، وأنشد قصيدة هناك وأهداها إليه، كان عنوانها: (ورقة الورد)، يظهر إقبال في (استغاثة المسافر) بين الخوف والرّجاء فهو يلجأ إلى ضريح هذا الشيخ ليسكّن قلقه ويطمئن قلبه، ويصف إقبال نظام الدين أولياء بالمذكور في ملأ الملائك، والشخصية البارزة، والموجود الذي يعمّ الوجود، ونظامه كنظام الشّمس، ومقامه كمقام المسيح، ولون الحُبِّ مستورٌ في محبّته، صاحب الشّأنِ الرفيع والاحترام الكبير، ويتوجّه إقبال إلى الله بالدّعاء، متوسّلاً بهذا الولي، سائلاً الله أن يلبّي رغائبه في التّزود من العلم والمعارف، وأن يعلن ذاته، دون حاجة إلى أحد، وأن يردّه إلى وطنه، ليُقبّل أقدام والديه. التحق إقبالُ بكلية (الثالوث) في كمبردج بمساعدة أستاذه أرنولد، الذي سهّل وصحبه له إتمام دراسته في ميونخ، للحصول على درجة الدكتوراه، وفي هذه الفترة درّس إقبال من المهتمين بالتّصوّف في كمبردج كُلٌّ من: ميك تيجرت، ونيكلسون، وبراون، ولقد استفاد إقبالُ منهم كثيرًا حتّى أن الأستاذ نيكلسون الدّارس الشهير للتّصوّف العربي والفارسي، ترجم له ديوانه أسرار الذّات، وكان سببًا فيما بعد لذيوع شهرته في أوروبا.
لم تقتصــر دراســة إقبال على الفلسفة، وتعدّى اهتمامه من التّصوف إلى القانون، ولتحقيق إحدى رغائبه التي حالت الظروف دون تحقيقها في الهند، أخذ على عاتقـه متابعــة دروس القانون في لندن، وحصل على إجازة فيه من هناك. كما تعلّم الشعر والفلسفة في ألمانيا.
كتب إقبال وهو في أوروبا يقول: «إنّ الأمّة الإسلامية لم تقم على أساس الوحدة الوطنية والقومية، بل إنّ مهندسها العربيَّ (مُحمّدًا) قد أقامها على أساسٍ يختلف عن الأسس المألوفة لدى العالم». ألقى إقبالُ عدّة محاضرات في لندن عن الإسلام، وقد نُشرت في الصُّحف والجرائد وقتها، ومنها: الإسلام والتّصوّف، وأثر الإسلام على الحضارة الغربية، والإسلام والديمقراطية، والإسلام والعقلانية.
وفي هذه المرحلة ازداد شغف إقبال بالفلسفة والاقتصاد والقانون والسياسة، حتّى أنّ نفسه خاطبته أن يقاطعَ نظم الشّعر، وحدّث المقرّبين منه بذلك، لكنّ أستاذه أرنولد لم يوافقــه على ما يقول، وأخبره أن شعره ليس خيالاً مجرّدًا، بل إنه يؤثّر على القلوب ويثيرُ فيها الحياةَ والنّشاط، ويدعو النّاس إلى الكفاح والعمل، فلا ينبغي لك هجرانه، فامتثل إقبال لنُصح أستاذه واستمرّ في نظم الأشعار.
تحوّل نظمُ إقبال من اللغة الأرديّة إلى الفارسية، إذ رأى فيها أداة حسنة للتعبير عن المعاني الفلسفية الغامضة والأفكار الدقيقة، وهي أوسع انتشارًا من الأردية في محيط البلدان الإسلامية.
إقبال محاميا ومدرّسا
اشتغل إقبالُ بالمحاماة وتدريسِ الفلسفة بعد عودته من أوروبا، ومن أعمال إقبال في هذه الفترة (1908 - 1910) التي نُشرت وهي مجموعة مقالات:الإسلامُ كمثالٍ سياسيّ وخُلقي، والجماعة الإسلامية، والفكرُ السياسيُّ في الإسلام.
فكّر إقبال في إعداد منظومة طويلة يشرح فيها للمسلمين شخصية المسلم وذاتيته وكيانه التي ينبغي أن يكون عليها في ظلّ هذه الصّراعات الكبرى، فقد كانت أحداث الحرب العالمية الأولى في بداياتها، وكان في وقتٍ سابق قد طلب منه والده أن يكتب منظومة بالفارسية على أسلوب الشاه بو علي قلندر، فوعده بذلك إقبالُ، وبالفعل بين عامي 1915 - 1918نشر إقبال منظومته الشعرية ذات الجزءين الأسرار والرّموز (أسرار معرفة الذات، ورموز نفي الذّات). وعلى نهج الصوفية والأولياء أكّد إقبال أن رسالته ومهمته في الحياة التي تحدّث عنها في هذه المنظومة موحاة إليه، كتب يقول: (لقد كُتب هذا المثنويُّ المعنون «أسرار خودى» وله هدفه.. ولكني أقسم بالله الواحد الأوحد، الذي يسيطر على حياتي ومالي وشرفي، أنّي لم أكتبه بإرادتي الحُرّة المحضة، وإنما كنتُ مكلّفًا بذلك. وإنه لمما يثير دهشتي: لماذا أُخترتُ لكتابةِ مثل هذا الموضوع؟! إنّ روحي لن تعرفَ الدّعة حتى يتمّ قسمه الثاني (يشير إلى: رموز بيخودى)، فإنني لأشعر الآن أن ذلك هو واجبي الوحيد. ولعلّ ذلك وحده هو الهدف الحقيقي لحياتي... وها قد أُشعلتْ بالنّار سينائي، لعلّ موسى يظهر!). وقد أثارت منظومة أسرار الذّات التي أعلنها إقبال كمنظومة متكاملة ردودَ أفعالٍ كبيرة في بلاده، فمنهم من أعجبته وصفّق له، ومنهم من أنكر عليه آراءه، وبخاصّة ما تعلّق منها بنقده للفلاسفة الإلهيين كأفلاطون، والصّوفية من أهل فارس كحافظ الشّيرازي لسانِ الغيب وترجمان الأسرار، فالأخير كان معروفًا في البلاد، وكانت أشعاره وأقواله تُقرأُ وتُحفظ وتُردّد على نطاق واسع، ويُنظر إليه بكلّ تبجيل واحترامٍ وإجلال، وقد جاء في المنظومة: إنّ أفلاطون الذي أثّرت آراؤه في المسلمين وتصوّفهم كان على الطريقة الغنمية! ويقول: احذر حافظًا أسير الصّهباء فإن في كأسه سُمّ الفناء!
استمرّتْ ردودُ الأفعالِ تجاه أشعار إقبال مدّة ثلاث سنوات، وكان من أكثر المعارضين ذكرًا في هذه الواقعة حسن النظامي الأمين العام لمؤتمر الصّوفية بالهند، والشاعر أكبر إله آبادي، والشيخ نور محمد والد إقبال، وبناء على توجيه والده حذف إقبال مقدمة المنظومة ونقده لحافظ الشيرازي من الطبعة الثانية لها. لكنّه كما توضّح إحدى رسائله التي كتبها إلى حسن النظامي ظلّ محافظًا على رأيه في حافظ الشيرازي، والتّصوّف الفارسي، وأشكال التّصوّف المعاصرة في الهند.
يقول إقبال: «إنّني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التّصوّفِ، وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن فلسفة أوروبا جملتها تتوجّه إلى وحدة الوجود، ولكنّ تدبّر القرآن الكريم ومطالعة تاريخ الإسلام، قد أشعرني بغلطي، ومن أجل تعاليم القرآن عدلت عن أفكاري السابقة..» إن الرّهبانية ظهرت في كلّ أمة وعملت لإبطال الشريعة والقانون. والإسلام في حقيقته هو دعوة استنكار هذه الرهبانية. والتّصوّف الذي ظهر بين المسلمين –أعني التّصوّف الإيراني- أخذ من رهبانية كلّ أمّة وجهد أن يجذب إليه كلَّ نحلة، ليست عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن، فإنّ القرآن يبيّن المغايرة التّامة بين الخالق والمخلوق...
ألقى إقبالُ عدّة محاضرات عن الإسلام في أماكن عدّة في الهند، لاقت اهتمامًا كبيرًا من الجماهير على اختلاف طوائفهم وأديانهم، حتّى قال أحد الأساتذة الهنادك في إحدى الحفلات: إذا فاخر المسلمون بأن إقبالاً مسلمٌ، فإنّنا نفخر بأنه هندي. وتلك المحاضرات التي ألقاها إقبال هي التي جمعها فيما بعد ونشرها في كتابه (إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام) عام 1930.
بين عامي 1931 - 1932 حضر إقبال مؤتمري المائدة المستديرة الثاني والثالث، المنعقدين في لندن، وقام بزيارته إلى إيطاليا ومصر وفلسطين وفرنسا وأسبانيا، وفي هذا الوقت ألقى بعض المحاضرات وكتب الأشعار، والتقى بشخصيات بارزة في هذه البلاد... وحينما عاد إلى الهند تلقّى دعوة لزيارة أفغانستان، ولبّى دعوة نادر شاه ملك أفغانستان، وفي رحلته هذه تأثّر كثيرًا بحفاوة القلوب وكرم النّفوس، ونظم من أثر هذه الزيارة أشعارًا كثيرة...
استخدم إقبالُ «حساب الجُمّل» على عادة الصّوفية والعربِ في التأريخ، فنظم تاريخ وفاة زوجته (سردار بيكم) 1354ﻫ / 1935م ضمن مقطوعة له، ورمّـزه بكلمة «سرمه ما زاغ» والتي تساوي قيمة حروفها العددية التاريخ الهجري لوفاة زوجته. أسس إقبالُ مركزًا إسلاميًّا في الهند وسُمّي بدار السّلام عام 1937، وكان من أعضاء مجلسه الإداري (محمد أسد/ ليوبولد فايس) صاحب كتاب الطّريق إلى مكّة، وأبو الأعلى المودودي، وكان كلاهما يقيم في مكة وقتها، وانتقلا إلى الهند، وما هو إلاّ وقت قصيرٌ جدًّا حتّى انتقل إقبال إلى الرفيق الأعلى بجسده قبل أن يلقاه المودودي.
قال طاغور معلّقًا على وفاته: «لقد تركت وفاة إقبال فراغًا يُشبهُ جُرحًا مُهلِكًا لن يندمل إلاّ بعد أمدٍ طويل، إنّ موت شاعرٍ عالميٍّ كإقبال كارثة لا تحتملها الهند...وإنّ ما أصابه شعرُ إقبال من ذيوع وانتشار يرجعُ بلا ريب إلى ما فيه من نورانية الأدب الخالد وعظمته».
خالد محمّد عبده
- اكتب تعليق
- تعليق