الصحبي الوهايبي: ذُبَـــابة تســيْ تســيْ
«أنجِدْني يا دكتور! صرتُ أشخر في منامي ويقظتي. أشخر وأنا أتكلّم، وأشخر وأنا آكل وأشرب، وأشخر وأنا أضحك، وأشخر وأنا...» فانفجر الطّبيب ضاحكا وأنا غاضب أشخر، حتّى إذا ما استكان قليلا، قال لي بين قهقهة وأخرى: «مسكين أنت يا رجل - وكانت بيننا مودّة قديمة منذ أيّام الدّراسة- ما تسمعه ليس شخيرَك أنت ولكنّه شخير السّلطة! أنا أيضا أسمعه! جميعنا نسمعه! إلاّ السّلطة فإنّها لا تسمع شخيرها ولا نخيرها، ولو أنّ للنّخير بابا غير باب الشّخير، ربّما نفتحه في ورقة غير هذه». قلت: «حرام عليك ما تقول. السّلطة لا تأخذها سِنة ولا نوم، عيونها مفتوحة على كلّ صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة، في البرّ والبحر والجوّ، فكيف لها أن تشخر أو تنخر؟». قال لي: «أنت واهم يا ولد! السّلطة تكاد لا تستيقظ. لَدَغتْها ذبابة تسيْ تسيْ منذ سنوات طويلة. هل مازلت تذكر حكاية ذبابة النّوم تلك؟ إنّها تقتل في أفريقيا وفي السّنة الواحدة أربعمائة ألف فرد. وهو داء لا ينفع فيه مصل أو لقاح أو دواء». قلت: «ومن أين للذّبابة اللّعينة الملعونة أن تطال الحكومة وهي في برجها العاجي، في أعلى علّيين؟ وكيف للسّلطة أن تنام وأنا أراها، كلّ يوم، صباحَ مساء، في التّلفزة والجرائد، حيّة، تسعى، تخطب وتدشّن وتزغرد وتهتف وأسمعها في الرّاديو تزنّ وتطنّ». قال لي الطّبيب بعد أن جسّ نبضي وقاس حرارتي: «هل مازلت تتذكّر ما قرأتَ عن النّاس الذين يسيرون وهم نيام أو السّرنمة، كما سمّاها المبتدعون؟ كذلك هي السّلطة، تخطب وتسُوس وتنظّم انتخاباتها واستفتاءاتها وهي في عزّ النّوم أو في المنامة السّابعة كما يقولون. هذه ظاهرة عادية، بسيطة، ما دامت لم تتجاوز الحدّ، ولكنّها تصير في غاية الخطورة في مراحلها المتقدّمة، حيث يستفحل التّعب والإجهاد والقلق والاضطرابات العقليّة والسّلوكيّة ويعاني المريض من أزمة الهويّة فيفعل بنفسه ما يفعل العدوّ بعدوّه أو الجاهل بنفسه، كأن يقفز من السّطح أو يسلخ جلده بالمكواة أو يجدع أنفه أو أنف غيره وهو نائم، لا يعي ولا يدري، لذا يَنصح الأطبّاء والعارفون وأهل الاختصاص أن يقيم المرضى في الدّهاليز، كالجرذان، بعيدا عن السّطوح وعن كلّ ما هو شاهق مرتفع، وأن تخلوَ غرفهم ومطابخهم من كلّ ما هو حادّ وخطير، كالسّكاكين والمسدّسات والبنادق والعصيّ وفرق التّدخّل بأنيابها ومخالبها وذئابها». قلت، مقاطعا: «وفي أيّ المراحل، هي السّلطة؟ أفي بداية المرض أم نهايته؟»، فحدجني من تحت نظّارتيه وقال لي: «اسمع يا ولد، أراك قد خرجت بي عن موضوعنا إلى ذبابة تسيْ تسيْ وإلى السّرنمة فعُدْ بنا إلى سبب الشّخير والنّخير. أنت لا تجهل أنّ الشّخير ناتج عن انسداد جزئيّ في مجرى الهواء، حين يكون وضع الرّأس غير مضبوط بالنّسبة للعنق، أو يكون الإثنان بحجمين غير متناسقين، كرأس عصفور على عنق فيل أو عنق أرنب تحت رأس كركدن... التّنفّس عن طريق الأنف هو الطّريقة الطّبيعيّة، الغريزيّة، السّليمة التي توفّر كافّة الظّروف الملائمة لحسن الأداء الوظيفي للرّئتين، أمّا التّنفّس عن طريق الفم فهو طريقة مكتسبة، يلجأ إليه الإنسان، مضطرّا أو معاندا، عند انسداد الأنف أو كثرة الخطب والكلام بسبب وبدون سبب، ويسبّب ذلك شخيرا يعلو ويهبط نتيجة وجود حاجز يمنع أو يقاوم مرور الهواء، تماما، كما يحدث عندما يمرّ الهواء في مجرى ضيّق كثقب في جدار». قلت مقاطعا، معترضا: «ما دخل هذا في شخير السّلطة؟». قال لي: «ألا ترى الرّياح تهبّ عليها من كلّ حدب وصوب وهي تصدّها؟... إنّ مرور كمّيّة من الهواء غيرِ كافية لامتلاء الرّئتين يؤدّي إلى متاعب جسيمة تفضي إلى انكماشهما واحتقانهما وينتج عن ذلك عدم تشبّع الدّم بالأكسيجين فلا يقدر على التّخلّص من ثاني أكسيد الكربون ممّا يسبّب للقلب وللجهاز العصبي ضررا كثيرا، تلاحظه في تراجع الذّكاء وهبوط النّشاط وصعوبة التّركيز وانقطاع التّنفّس أثناء النّوم وأثناء الاجتماعات المغلقة والمفتوحة... وانسداد الأنف، عند الفرد كما عند السّلطة ناتج عن عيوب خلقيّة وتشوّهات منذ الحمل والولادة كالزّوائد اللّحميّة في التّجاويف والأورام الخبيثة في البلعوم. زٍدْ إلى ذلك كلّه، زيادةً في الوزن، ناتجةً عن الشّحم الذي تراكم على مرّ السّنين... ويُنصح لمقاومة الشّخير بفتح النّوافذ، ليلَ نهار، عسى يتجدّد الهواء فيذهبَ الفاسد ويدخلَ النقيّ، كما يُنصح بكثير من الرّياضة الجسديّة والفكريّة كالمناظرات والمطارحات السّياسيّة بِحرّيّة وشفافيّة ودراية وكفاءة». قلت: «يا دكتور، لن يحدث هذا على أيّامنا هذه، فأَشِرْ عليّ بوصفة تخفّف عنّي شخير السّلطة، عسى أفوز بقليل من الرّاحة». فنظر إليّ، حائرا ومشفقا وقال: «لو كان الأمر بيدي لعالجت نفسي، فاصبر، لعلّ ذبابة تسيْ تسيْ تفعل بي وبك ما فعلت بالسّلطة، فنشبعَ مثلها نوما وخمولا وركودا. قلْ آمين!».
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق