أخبار - 2018.01.03

فنّ جلال بن عبد الله, سياحة طويلة على تخوم الواقع والأسطـورة

فنّ جلال بن عبد الله, سياحة طويلة على تخوم الواقع والأسطـورة

في التّاسع من نوفمبر الماضي ودّعت السّاحة الفنيّة المرحوم جلال بن عبد الله، أحد أشهر الرّسّامين التّونسيين عن سنّ ستّة وتسعين عاما تفرّغ خلالها لبناء رؤية خاصّة للحياة التّقليديّة ضمن مسار فنيّ بين الواقع والخيال. وممّا يميّز تجربته عن بقيّة زملائه من جماعة «مدرسة تونس الذين يشاركونه الاحتفاء بالتّراث الشّعبيّ، نزوعه نحو مثاليّة شعريّة تتعالى عن الواقع اليوميّ ولا تحفل بالصيرورة الزّمنيّة. ويتبدّى ذلك شكلاً ومضمونًا في استلهامه للمنمنمة الإسلاميّة وبعضِ تواضعات التّراث البيزنطي وملامحٍ من فنّ عصر النهضة الأوروبي، مع اختيار مضامين يغلب عليها التّأمّل والسّكونيّة. كما يكشف ولَعُهُ بالتّفاصيل الزّخرفيّة عن صلته بالأنماط الحِرَفِيّة المحليّة، ويشير كلّ ذلك إلى ثقافة تشكيليّة واسعة ومسار تأليفيّ يجمع بين تقاليد فنيّة مختلفة.

ولد جلال بن عبد الله يـوم 26 مــاي سنــة 1921 بتونس (حيّ باب المنارة) وظهـر ولَعُــهُ بالتّصوير منذ الصّغر؛ وبعد الدّراسة بمعهد كارنو بدأ مسيرته الفنيّة في سنّ السّابعة عشر بإقامة معارض فرديّة والمساهمة في تظاهرات جماعيّة. كان قد مضى نحو نصف قرن على تأسيس «الصّالون التّونسي» عندما شارك فيه لأوّل مرّة سنة 1942 بلوحة عنوانها «أمومة» وعاد ليشارك فيه ثانية سنة 1945 بلوحة عنوانها «امرأة في شرفة». لم يكن الرّسّام في بداياته يختلف أسلوبيا عن غيره من فنّاني «الصّالون» ممّن اعتادوا تقليد الاتّجاهات السّائدة كالاستشــراق الفنّي في نهاياته أو الانطباعيّة أو التكعيبيّة الأكاديميّة، فالبيئة الفنيّة الاستعماريّة كانت تميل، آنذاك، إلى اجترار الموضوعات والأساليب ولا تتأثّر إلاّ نادرا بما يجدّ من تحوّلات فنيّة عميقة في أوروبا.

الرحلات الفنيّة الأولى إلى أوروبا

حصل جلال بن عبد الله سنة 1948 على جائزة في الرّسم مع منحة سفر لمدّة ثلاثة أشهر قضاها خلال العام الموالي بباريس حيث اختلط بفنّاني حيّ مونبرناس ثم انتقل إلى روما ليلتقي بالرّسام موزس ليفي، ومنها إلى فلورنسا والبندقيّة في رحلة اطّلاع على تراث الرّسّامين «البدائيين» الإيطاليين وفنون عصر النّهضة. وقد سنحت له سنة 1950 فرصة الإقامة ثلاثة أشهر بستوكهولم  في ضيافة الرّسّام علي بن سالم وهو من الذين تأثّر بهم في بداياته. وفي العام 1951، كُلِّفَ بإنجاز جِدارِيّةٍ كبيرة في «دار تونس»، مبيـت الطّلبة التّونسيين بباريس، فطاب له المقام في العاصمة الفرنسيّة لفترة سنتين عمّق خلالها تجربته الفنيّة وأنجز الكثير من الأعمال في مرسم كان للفنّان الفرنسي الشّهير أوغيست ماتيس (َAuguste Matisse).

جلال بن عبد الله ومدرسة تونس

كان جلال بـن عبد الله من أوّل المنتمين إلى جماعة فنيّة تأسّست في أواخر الأربعينات من القـرن المـاضي أطلق عليها إسم «مدرسة تونس» وضمّت ثلّة مـن الفـنّانين الأجانب والتـونسيــين منهم بيير بوشارل (Pierre Boucherle)، أوّل رئيس لها، وموزس ليفي (Mosès-Levy) وجول للّوش (Jules Lellouche) ويحي التّركي والهادي التّركي وعمّار فرحات وعبد العزيز قرجي؛ ثمّ التحق بهم في الخمسينات إدغار نقّاش (Edgar Naccache) وعلي بن الآغا والزّبير التّركي وإبراهيم الضّحّاك وآخرون. وقد ظلّ الرّسّام يشارك بانتظام في معارض «مدرسة تونس» حتّى نهايتها إثر وفاة عبد العزيز قرجي، آخر رؤسائها في العام 2008.

جلال بن عبد الله والتّراث

يبـدو جـلال بن عبد الله من أكثر أعضاء مـدرسة تونس تعلّقا بالتّـراث ومظاهر الحياة الشّعبيّة كمرجعيّة ثابتة من خــلال مواضيـع متـواترة تـروي مـا بقـي من مظاهر الحياة القديمة بعاداتها وتقاليدها ونماذجها الإنسانيّة وأحيازها المعماريّة وتراثها الزّخرفيّ والحِرَفِي؛ وكان يصوّرها أحيانا بدقّة تسجيلية. ويكاد يمثّل منجزه الثّريّ تيّارا تأصيليّا قائما بذاته استمرّ على مدى نحو سبعــة عقــود مع بعض التّحولات في الأسلوب والمواضيع.

تجديد الصّلة بالمنمنمة الإسلاميّة

إذا كان رسّامو  مدرسة تونس قد وجدوا في سبر الذّاكرة الجماعيّة وسيلةً للتّعبير عن الواقع المحلّي والتّخلّص، إلى حدّ ما، من تواضعات الفنّ الغربي، فإنّهم سلكوا في ذلك طرائق مختلفة تتراوح بين الإيحاء والرّمز وبين المباشرة والتناول الواقعي للموضوع. وبينما كان عمّار فرحات والزّبير التّركي يميلان إلى المشاهد الشّعبيّة القريبة من الحياة اليوميّة في المدينة العتيقة  حيث تبدو الشّخوص تنبض بحياة نفسيّة وتشير إلى مرجعيّة اجتماعيّة واضحة، نرى جلال بن عبد الله وعبد العزيز قرجي يتعاملان مع تلك المشاهد عبر طرح شكلانيّ يتّخذ من الموضوع مجرّد ذريعة لإنجاز منظومة خطوط وألوان خاصّة كما نلاحظه في اختيارهما، في مرحلة ما، للمنمنمة القديمة نموذجا. وفي حين اقتصر قرجي على التّأثّر بالمنمنمة الإسلاميّة الأصيلة محتفظا بقِيَمِها الشّكليّة المعروفة في بناء الحيّز الجمالي،  خيّرَ جلال بن عبد الله إلى مزجها بتقاليد أخرى بيزنطيّة شرقيّة أو أوروبيّة غربيّة إلى حدّ إخضاع الموضوع التّونسيّ لمعالجة تبتعد به عن الواقع المعيش وتحلّق به في أجواء شعريّة تتقاطع فيها ثقافات عدّة. وتظلّ المنمنمة ذات الأبعاد الصّغيرة، مع ذلك، هي الأقرب إلى الواقع المحلّي بتصويرها أجواء قرية سيدي أبي سعيد وإطارها المعماري، وقد استغرقت من جهده عقدين من الزّمن، من أواخر الخمسينات حتّى بداية السّبعينات. وكان يعرض تلك المنمنمات بانتظام في «قاعة الفنون» (نهج ابن خلدون) بالعاصمة.

مرحلة التّحوّلات الأسلوبيّة والجماليّة

في بداية السّبعينات، أسّس عبد العزيز قرجي رئيس جماعة «مدرسة تونس» قاعة عرض واسعة بمواصفات حِرَفيّة وكان لها أثر واضح وموقع مميّز في الحياة الفنيّة. وهي الفترة التّي انتقل فيها جلال بن عبد الله من المنمنمة بمقاساتها المحدودة إلى اللّوحات ذات الحجم الكبير واستعاض عن الألوان المائيّة والصّمغيّة بالأكريليك والأصباغ الذّهبّية؛ كما استبدل مواضيع المشاهد الشّعبيّة والطّبيعة الجامدة وشرفات سيّدي أبي سعيد ومنظـر «جبـل بو قرنين» في الأفق بأحياز حميميّة منغلقة تهيمن عليها المرأة المستغرقة في طقوسها الأنثويّة، من خلال أسلوب يؤلّفُ بين جماليات من آفاق مختلفة. فنراه يستبدل الحيّز المسطّح الموروث عن التّقاليد الإسلاميّة بتصوير العمـق حسب قواعد المنظور (perspective) الكلاسيكي؛ كما نراه يعتمد القَوْلَبَة (modelé) في رسم الشّخوص والأشياء ويُلِحُّ على التّداخل بين الظّلال والأضواء (clair-obscur)، وأحيـانا أخرى يرسم الشّخوص في أوضاع مواجهة أماميّة (frontalité) حسب جماليات التّصوير والنّحت في الحضارات القديمة وفي الأيقونة البيزنطيّة. وتعكس تلك التّحوّلات في الأسلوب نضج تجربة تأليفيّة أفادت من ثقافات فنيّة مختلفة.

 

عالم أنيق هادئ وسط ضجيج العصر

بعد عودته من باريس في بداية الخمسينات، استقرّ جلال بن عبد الله منذ سنة 1953 وحتّى نهاية حياته، في قرية سيّدي أبي سعيد، متّخذا من جبل المنار رِبَاطًا يخلو فيه إلى نفسه ويفرغ إلى خيالاته الشّعريّة في شبه عزلة عن ضجيج الحياة العامّة التي كان ينفر منها. ظلّت القرية دائمة الحضور في رسومه ماديّا بعمارتها ونوافذها المفتوحة على الخليج، وروحيّا بأجوائها الصّوفيّة التي تنفذ حتّى إلى مشاهده الدّاخليّة الشّبيهة بخلوات الأولياء. ولئن شملت أعماله مظاهر مختلفة من حياة المجتمع فاهتمّ بتصوير أصحاب المهن وشيوخ العلم وغيرهم، إلاّ أنّه خصّ النّساء بالحظّ الأوفر من إبداعاته حيث يصوّرهنّ حالماتٍ في خدورهنّ، أو معتنياتٍ بزينتهنّ أو مستغرقات في العزف على الآلات الموسيقيّة، بألبستهنّ التّقليديّة الموشّاة بالذّهب والفضّة ضمن إطار معماريّ تقليديّ مزخرف؛ ونرى في ملامحهنّ صفاتٍ من الجمال العربي والتّركيّ واليوناني والإفريقيّ ممّا يجعل فنّ جلال بن عبد الله تصنيفا نموذجيّا عريضا للجمال الأنثويّ.

واللاّفت في ذلك العالم الأنيق المـُنَعَّم التحافُه بغشاء من الصّمت والسّكون والمهابة يُذكّر بأجواء الأساطير والخرافات القديمة.

ذاك هو العالم الذي حفل به مخيال المرحوم جلال بن عبد الله منذ شبابه الأوّل فعمل على تجسيده في أعماله بحثا عن صيغ متجدّدة لمفهومه المثالي للجمال؛ وبوفاته بعد عمر طويل أمضاه في صياغة صورة بين الواقع والأسطورة للحضارة في تونس، تنتهي حقبة ثريّة من تاريخ الفنّ التّونسيّ الحديث.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.