وعد ترامب لإسرائيل: وعد بلفور جديد
خطأ كبير ارتكبه "ترامب" رئيس الولايات المتّحدة في حقّ الشعب الفلسطيني، وفي حقّ المسلمين والمسيحيين بإعلان القدس عاصمة لكيان إسرائيل. لقد أسقط هذا القرار سقف "العروبة" على أصدقائه وعلى الجميع، فالقدس لمن يريد أن يفهم الأمور في سياقها، قد صلّى سيّدنا محمد عليه الصّلاة والسلام في مسجدها وأَمَّ فيه الأنبياءَ جميعا وعرَج منها إلى السماء، وسالت دماء شهداء المسلمين لقيمتها واستُلّت السيوف الأصيلة سنين طويلة لاسترجاع شرفها.
ليس لي أن أذكّر أنّ فلسطين والقدس بشكل خاص هما في قلوب العرب جميعا. لقد قبلت الشعوب العربية وعلى مرّ التاريخ وبمبرّرات لازالت سارية، مبدأ الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره وإتمام مشروعه الوطني المتمثّل في إزالة الإحتلال وإقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.
لا أعتقد أن شرف هذه الأمّة يُمكن تجاوزه لحسابات ضيّقة وتحالفات مشبوهة يكون فيها البعض منّا على نهج أعدائنا الذين يدّعون أنهم "رُعاة سلام" وهم الذين يمارسون العداء ضدّنا بطرق خفيّة ومُعلَنة. لا شك أنّ التحوّلات التي تمرّ بها دول المنطقة وانفراط عقدها إلى دول منهارة وأخرى متناحرة مع بقية فاشلة وعاجزة أثّر سلبا على موقعها ووزنها وأدّى إلى اتخاذ هذا القرار المُهين لها رغم تعدادها وعتادها.
قد يرى البعض هذا القرار على أنه إملاء من دولة تمثّل القوّة العسكرية والاقتصادية الأولى، ولكن يمكن فهمه من زاوية أخرى، لقد عاش العالم إرباكا سابقا مع الرئيس جورج بوش الإبن بعد هجمات سبتمبر 2001 عندما رسم مسارا جديدا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال وضع مفهوم "الحرب على الإرهاب"، الذي اعتبره بعض الملاحظين في ذلك التاريخ علامة بارزة لنهاية الرّؤية التي أرستها أمريكا في العلاقات الدولية طيلة الحرب الباردة. والواقع أن الولايات المتحدة أوّلت هذا المفهوم حسب ظروفها ليس لتحديد تعريف جديد وإنما لخلق منطق حرب، أي القيام بإجراءات عسكرية والحال أنها غير قادرة على تحديد العدوّ في هذه المعركة.
واعتقادي أنّ قرار ترامب الذي يتناقض مع الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتّحدة أتى متناغما مع الظروف السياسية الأمريكية الحالية و ربما مع الصفقات المنعقدة بين مراكز القوة والسلطة فيها. فالقرار لا يتعارض مع الثوابت الأمريكية التي ليس من السّهل تغييرها مهما تغيّر الرؤساء، وأنّ ما سُجّل من مواقف منذ إقرار الكنغرس سنة 1995 قانون نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة هو مجرّد تكييف للإستراتجيّات مع الواقع وتحيّن الفرص لتنفيذ ما تقرّر. ليس هناك قفزات مفاجئة فقد سبق أن صرّح مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي: "أنا وترامب نقف بجانب إسرائيل لأن كفاح إسرائيل هو كفاحنا ولأنّ قضية إسرائيل هي قضيّتنا.. فلتأخذوا كلمتي هذه من القدس العاصمة الأبديّة والموحّدة للشعب اليهودي والدولة اليهودية".
ومن المعلوم أنّ رئاسة دونالد ترامب كان لها أثر كبير في وجهة نظر العالم تجاه الولايات المتحدة، فعديد الدراسات خَلُصت إلى أن ترامب وسياسته لا يحظيان بشعبية، وتذهب بعض الدول إلى حدّ إعتباره غير مؤهّل لتولّي منصب الرئاسة. لذلك ليس غريبا أن يصبح اتفاق "أوسلو" في دائرة السّقوط وقد ينتهي بشكل كامل. لقد أسقط هذا الموقف القناع عن أمريكا كدولة راعية للسّلام في الشرق الأوسط وكفاعلة في قضايا الأمن في العالم.
ومن المؤسف أن يُوظّف "السّلام" على هامش موقف فيه مساس بمقدّسات "الإسلام"، فبعد طمس هويّة القدس ومحو معالمها الإسلامية ودون مراعاة للشرعية الدولية يتم الإعلان عن قرار بشأنها لا يعدو أن يكون مجرّد "وعد بلفور جديد".
لقد قوّض قرار ترامب ما تبقى من جهود السلام، فهو نكبة جديدة للعرب وهديّة لحاضنة الإرهاب دولة إسرائيل التي تشجّع عليه وتكافئ من يقوم به، فجلّ مسؤوليها هم من قدماء المنظمات الإرهابية "الهاجاناه Haganah" و "شتيرن "Stern" و "الأرجون L’Irgoun". أليس بيغن وشامير وشارون وبيريز وأولمرت وأستاذهم جابوتنسكي هم قمة الارهاب الموصوف؟
أيّ سلام هذا الذي يتحدّث عنه ترامب؟ سيذكر التاريخ أنّ القضية الفلسطينية ومأساة الشعب الفلسطيني ارتبطتَا بانعقاد المؤتمر الصّهيوني الأوّل سنة 1897، وبوعد بلفور سنة 1917، وبتأسيس دولة إسرائيل سنة 1948. وسيسجّل التاريخ أيضا، أنّ الشعب الفلسطيني اختار سلام الشجعان حيث تبنّت منظمة التحرير خيار الدولتين سنة 1988، تلاه الاعتراف الرسمي بإسرائيل سنة 1993، وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني سنة 1996. مرّت 24 سنة على إتفاقية أوسلو ولازال هذا الشعب ينتظر بلورة جديدة لعملية السلام. لقد تصرّف الاحتلال منذ سنوات على أن إتفاقية "أوسلو" لم تعد فاعلة على الأرض وكشف القرار الأخير أنّ السلام الأمريكي هو مجرّد وهم.
أشاطر –اليوم- الرأي القائل أنّ "اتفاقية أوسلو كانت كارثيّة بكل المقاييس ويجب التحرّر من قيودها"، وأتساءل لماذا لم تنفّذ القيادة الفلسطينية قرارات المجلس المركزي لشهر مارس 2015 وأبرزها مراجعة كلّ الاتفاقيات مع إسرائيل. كلّ المتتبّعين علّقوا آمالا على "أوسلو" كمنطلق ينتهي إلى اتفاق نهائي يتعلق بدولتين، لكن ترامب اختار الإنحياز للاحتلال و ارتهان فلسطين.
من السذاجة الإعتقاد أنّ قرار ترامب غير محسوب العواقب، فاختيار التوقيت والاستخفاف بالموقف العربي وراءه دور صهيوني خفيّ، عمل ويعمل على صرف نظر العرب عن ممارسات الكيان الإسرائيلي الذي يغتصب مقدّساتهم ويحتلّ أراضيهم. لقد نجحت الصهيونية في تحويل العداء العربي إلى أعداء آخرين مفتعلين. لقد عشنا المواقف المسجّلة تجاه الإتحاد السوفياتي في الثمانينات ونظام صدّام حسين في التسعينات، ونتابع الفجوة التي تزداد عمقا بين الشيعة والسنّة هذه السنوات.
تحيّة مستحقّة لمبادرة توحيد الصّف الفلسطيني الذي تصدّع منذ 2007، فالمصالحة ورغم الصعوبات التي قد تحفّ بها هي الملاذُ الآن و درعُ التصدي للخطر الكبير الذي يتهدّد القضية الفلسطينية.
إنّ الإيمان بانتصار إرادة الشعوب يذكّرنا بحقّ الشعب الفلسطيني في تنزيل المقاومة الداخلية على أرض الواقع من جديد، ويعلن أنه لن يستسلم ولن يساوم، و سيبقى يدافع عن مقدساته وأرضه. وعلى الدبلوماسية الفلسطينية أن تنجح في معركتها فالنصر العسكري النهائي غير ممكن، والانتصار مرهون بكسب الرأي العام العالمي، فالنصيحة التي عمل بها نلسون منديلا والصادرة عن أحد القادة الثوار الجزائريين تتلخّص في " أنّ الرأي العام العالمي يُعتبر في بعض الأحيان أفضل بكثير من سرب طائرات قاذفات ".
ندرك حجم مسؤولية العرب تجاه فلسطين لذلك لا يمكن القبول بأن تكون "القدس" شمّاعة لجهات إرهابية أو أنظمة متواطئة لستر عيوبها أو قصورها أو تغطية تواطئها. فالقضيّة في حاجة إلى ضمائر وقرارات وليس إلى لقاءات نخبويّة وبيانات.
العقيد محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق