احميده النيفر: مدارج استشراقٍ أُوروبي جــديد
1 - لماذا يتنادى باحثون فرنسيون شبانا للقاء بجامعيين مختصين في التاريخ الحضاري الحديث والمعاصر للعالم العربي الإسلامي؟ ولماذا يساهم معهم ناشطون فرنسيون وأوروبيون في مجال البحوث والدعوة الإسلامية لإقامة ندوة علمية دولية في باريس عن «الإصلاحيين المسلمين وإشعاعهم في الفضاء الفرنكفوني»؟ وما الذي يدفع القائمين والداعمين للندوة الدولية لطرح أسئلة عن الخصوصية الإسلامية المميزة لحركة الإصلاح التي ظهرت منذ أكثر من قرن؟ وأي مكانة ينبغي إحلالها للعلوم الإنسانية ضمن مشاريع إصلاح مؤسسات تعليم الإسلام في أوروبا؟
2 - من المفيد، للإجابة عن هذه الأسئلة التي تثيرها أعمال الندوة الدولية، التذكير ببعض المعالم التي تساعد على إضاءة هذا الحدث الهام والمهم في دلالته الأكاديمية والفكرية والسياسية المستقبلية.
الحدثُ هامٌ في ذاته لأنه يكشف مجالا لا تكاد تلتفت إليه المشاغل الجامعية والبحثية عندنا فضلا عن تجاهل وسائل إعلامنا التـي لا تُعيره الاهتمام لوَلَعِها المُفرط بالشأن السـياسي في تعبيراته الجزئية والعَرَضِيّة.
الحدث مُهمٌ من جهة أخرى بما يثيره من تساؤل لأنّه يستعيد موضوعا حضاريا وعلميا طواه النسيان مشرقا ومغربا. لذلك تبدو العودة إليه اليوم في ضوء الأسئلة المستجدة التي يطرحها حصاد عقود من التجربة التحديثية العربية أمرا لافتا للانتباه لدلالاته المُؤسِّسَة. عند التمعُّن في من أشرف على هذه الندوة ودعَّمها نجد تشبيكا مؤسسيا هامّا يجمع بين أحد المخابر العلمية التابعة لجامعة باريس 13 ومعهد دراسات الإسلام ومجتمعات العالم الإسلامي وباشتراك معهد البحث في شأن التعدد الديني بجامعة مدينة « نانت» وبدعم مالي من وزارتي التعليم العالي والبحث والإبداع مع المكتب المركزي للأديان بوزارة الداخلية الفرنسية.
3 - بالنظر إلى خطة الندوة وإلى المدعويين للإسهام فيها تستوقفنا محاورها الأربعة وهي:
- تاريخ حركة الإصلاح وقضاياه مع سؤالها الإشكالي المتعلق بالدلالة «الإسلامية» للإصلاح
- علاقة الفاعلين الإصلاحيين بالدارسين للحركة من خارجها
- واقع التيار الإصلاحي اليوم في تعبيراته ومشاغله وسيرورته الأروبية
- مكانة العلوم الإنسانية في مسارات إصلاح تعليم الإسلام والتعريف به في أروبا.
دُعي للمحاضرة والتدخل تونسيون وجزائريون ومغاربة مع باحثين ودعاة مسلمين أوروبيين يواجهون، كلٌ من موقعه، تحديات معرفية/ثقافية وأخرى مؤسساتية/سياسية. أوّل ما أبرزته أعمال الندوة اعتبار أن الصيغة المثلى لمعالجة هذه الإشكالية تقتضي الحرص على مواصلة التحرر من الانغلاق الأكاديمي التخصصي ومن التقديرات المؤسسية السياسية التي هيمنت لفترات على دراسة مثل هذه القضايا الشائكة في فرنسا وأوروبا الغربية. لقد تَبَنَتْ الندوة صيغة علمية ديناميكية لدراسة هذا الجانب من «الشأن الإسلامي في فرنسا» من خلال تفاعل بين الباحث الأكاديمي المتخصص(Observateur) والفاعل الحركي في الواقع (Acteur) بحضور جمهور عريض مهتم، يتابع ويشارك، يسائل ويضيف. هي صيغة ثلاثية الأبعاد تدفع كل طرف من أطرافها إلى الإنصات والتساؤل واستيعاب وجهات مختلفة ومتباينة. بهذه المقاربة التركيبية يزيد الوعي بالتمكُّن في ضبط الإشكال واتساع أفق الرؤية للجميع وصولا إلى مُمكنات وبدائل عديدة.
4 - إذا نظرنا من جهة المضمون فقد اختار الباحثون والقائمون الفرنسيون هذه المقاربة التركيبية لهذا الموضوع لإدراكهم أن أروبا تعيش مع الإسلام والمسلمين الأوروبيين، فضلا عن الوافدين واللاجئين، لحظةً حضاريّة مغايرة جذريّا للحظة الكولونيالية السابقة وما تبعها في فترات التحرر الوطني ثم نشوء الدول العربية الحديثة ومآلات تجاربها. هي لحظة حاسمة تطرح على الباحث والفاعل والجمهور أسئلة نوعية مختلفة تماما عن أسئلة اللحظة الفارطة.
على هذا يتبيّن أن العودة إلى الفكر الإصلاحي الإسلامي بمعنى استنساخه أو إحيائه في السياق الأوروبي متعذرة، إنما تكمن أهمية ذلك الفكر فيما قدّمه من وعي تاريخي بخصوصية العصر وما يقتضيه هذا الوعي في العلاقة مع الآخر المختلف واستتباعات ذلك في أكثر من مجال.
للتذكير فقد انطلق الإصلاح الإسلامي في نظرته الحضارية وفكره السياسي من سؤال مركزي هو: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرُهم؟ تَكمنُ أهمية السؤال في إقراره الواعي بتخلّف المسلمين من جهة وفي ضرورة استيعاب إيجابيات الآخر من جهة ثانية.
من ثَمّ قدّم الطهطاوي أطروحة «المنافع العمومية» بينما ركّز خير الدين على أطروحة «التنظيمات» الأمر الذي ألزم الإصلاحيين أن يفصلوا نظريا وعمليا بين الثقافة الأوروبية ومعارفها ومبتكراتها وبين سياساتها التوسعية الاستعمارية. لذلك أقرّ الإصلاحيون بأن الحضارة الغربية حضارة عالمية فلا بد من الإفادة من منتجاتها في كل المجالات إسهاما في ارتقاء المسلمين معرفيا ومؤسساتيا. هدف هذا التوجه الرامي إلى الاستفادة من المنجزات الحضارية هو الوصول إلى نِدِّيَّةٍ ثقافية وفكرية يمكن بها مواجهة السياسات الغربية المعادية للمسلمين.
5 - مع أحداث العقدين الأولين للقرن العشرين انحبس المشروع الإصلاحي الإسلامي في هذه المقولة ولم يتمكن من تركيزها وأجرأتها. لقد اتسعت الهيمنة الأروبية على البلاد الإسلامية وتمّ تدمير السلطنة العثمانية واقتسام الأقطار التي كانت تابعة لها وأضحت التفرقة بين السياسي والثقافي الحضاري مرفوضة.
هذا أتاح لبعض تلاميذ محمد عبده القول بوجود إشكال في العقلية الغربية وضمن البناء الثقافي الغربي نفسه وبأنها حضارة غير إنسانية تسترجع نسقا تاريخيا طويلا فيه معاداة الإسلام باعتباره ظهر على حساب الآريين الفرس والبيزنطيين ثم تواصل مع الحروب الصليبية. غير أن العنصر الذي أجهز على الفكر الإصلاحي اجتماعيا وسياسيا هو استبعاده عن مشروع الدولة الحديثة القومية في تركيا والقُطرية في البلاد العربية. لم تكن هذه الدول تبحث عن مشروعيتها في مصادر إسلامية سواء أعلنت عن مواقف عدائية من الإسلام وتراثه أو استخدمت «إسلاما تقليــديا» لا صلة له بالفكر الإصلاحي.
6 - هذا الاستبعاد للتوجه الإصلاحي دفع بفكره إلى الضمور والتراجع إلى مواقف محافظة ودفاعية تمجيدية لا تتمكن من أن تبلور طروحات مواكِبة للمستجدات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
اليوم يجد الأكادميون والدارسون بمعية ساسة في المجال الجامعي والأمني الفرنسيين أن الشأن الإسلامي في فرنسا بحاجة إلى ذلك الوعي التاريخي الذي ظهر مع الإصلاحين ولم يذهب بعيدا وأن نفس الشأن يتطلب مقاربة تركيبية جديدة وجدّية تختلف عن المعالجة السياسية- الأمنية الخالصة. لقد أضحى من غير المُجدي الاكتفاء بالتخويف من مخاطر «الجهادية الإسلامية» على فرنسا ومما تفرضه من «شرخ» بين الفرنسيين.
المطلوب مغادرة النزعة التأثيمية للمسلمين التي لا تتردد في إدانة عموم نشاطهم الجمعياتي المدني بتعبيراته المختلفة والتي تزعم أنها إما مُفضية للعنف المعلن أو مؤدية له بصورة غير مباشرة أو مغذية للـ«إسلام السياسي».
ما انتهى إليه السياق الفرنسي موضوعيا هو ضرورة بناء وعي جديد وتفاعل علمي وحركي وجماهيري واسع عبر عناية مركزة تساهم في صناعة «كتلة إصلاحية» ناشئة. ذلك أن فرنسا التي يقطنها جيل من المسلمين المتعلمين والفاعلين شهدت سقوط ما يناهز الـــ240 قتيلا فرنسيا ما بين جانفي 2015 في اعتداء «شارلي إبدو» وجويلية 2016 مع حادثتي مدينة «نيس» والاعتداء على راهب في الكنيسة قرب مدينة «روان».
هي مفارقة مُحرجة للغاية، أكاديميا وفكريا وسياسيا وأمنيا. لذلك تُعدّ ندوة باريس عن الإصلاحية الإسلامية ومقتضياتها الآنية إسهاما نوعيا لتجاوز هذه المعضلة وإمكان التدرُّج نحو نوع من استشراق أروبي جديد.
7 - تتيح دراسة الإصلاحية الإسلامية استحضارا للوعي التاريخي المنشود ومقتضيات ذلك الوعي المعرفية والتواصلية مع إسهام لكفاءات الكتلة الأروبية/ المسلمة بالأساس. على هذا يمكن للاستشراق الذي كان اكتشافا مُتحيِّزا للعالَم أن يتحوّل ليكون إعادة لفهم الذات والهوية الأوروبيتين الجديدتين بتعددها الثقافي والإثني والديني وعملا على بنائها.
هو تدرُّجٌ صعب يقتضي مغادرةَ مركزيةِ الثقافة الأوروبية التي عملت على أن يكون الاستشراق في عمومه تشكِّلا للشرق على أسس تلك المركزية من أجل الهيمنة عليه. هذا التدرج قادر على الترسخ بفضل المؤشرات الأولية متفاوتة القيمة والتي منها هذه الندوة وعدد جيد ممن دعوا إليها من الباحثين المسلمين الفرنسيين والأروبيين خاصة. ما تجريه بعض أكاديميات ألمانيا وإسبانيا وسويسرة وأنجلترا إضافةٌ نوعية تنخرط بها أوروبا في مسار نهوضها الثقافي- الاجتماعي تتجاوز به مشاغلها الداخلية وتواجه به مخاطر الصراع العربي المجاور. هو سياق انفتاح وتواصل تتجدّد به أوروبا بمكوناتها المتعددة بما فيها عنصرها الإسلامي الصاعد عندما يصبح من محفّزات طاقاتها الإبداعية.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق