المصالحة الوطنية الفلسطينية: هل هي انعطافة حقيقية نحو الوحدة الفلسطينية؟
ما من مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية إلا واستبشر خيرا ببوادر المصالحة الوطنية الفلسطينية... وما من متضامن مع الشعب الفلسطيني وغيور على مصلحته إلا ويتمنّى أن تشكّل هذه المصالحة انعطافة حقيقية نحو إعادة اللحمة إلى الصف الفلسطيني، بعد سنوات الانقسام والفرقة العشر التي أضرت أيما ضرر بالقضية الفلسطينية وفاقمت مصاعب الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة الذي ما فتئ يعاني من حصار إسرائيل وعدوانها المتكرر عليه...غير أن «نيل المطالب لا يكون بالتمني وإنما تؤخذ الدنيا غلابا»، فهل تدرك أطراف المصالحة الوطنية الفلسطينية هذه الحقيقة الأزلية الأبدية؟ وإذا كانت تدركها فهل ستعمل بها وستعمل على تلبية مستلزماتها الذاتية والموضوعية والداخلية والخارجية على حد سواء؟
إنّ التحليل الموضوعي للخطوات الأولى التي خطتها المصالحة تؤشر الى أن تحركات أطرافها لم تأت من فراغ وانما جاءت نتيجة لجملة من الدوافع الموضوعية التي باتت تحتّم العمل على الخروج من مأزق الانقسام كتمهيد ضروري للخروج من الورطة التي تردت فيه عملية البحث عن السلام. وربما أمكن تلخيص هذه الدوافع بالنسبة إلى حركة حماس في تدهور الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في قطاع غزة، واحتمال تدهورها أكثر فأكثر مستقبلا بعد أن بات من المتعذّر على دولة قطر خاصة أن تستمر في مساعدتها بسبب الأزمة التي اندلعت في مطلع شهر جوان الماضي بينها وبين الرباعي الخليجي المصري الذي صنّفها ويدعو العالم بأسره إلى تصنيفها دولة داعمة للإرهاب وراعية للإرهابيين.
ثم إن تراجع المدّ الذي عرفته حركات الإسلام السياسي بعد ما سمّي بثورات الربيع العربي، وفشل تجارب حكمها في أكثر من بلاد عربية، لا بد أن يكون دفع بحركة حماس إلى مراجعة خياراتها، وقد تجلت هذه المراجعة في «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» التي أصدرتها الحركة في مطلع شهر ماي الماضي. وواضح أن إصدار هذه الوثيقة هو الذي فتح الباب أمام التقارب مع القاهرة، وبالتالي استئناف مصر لدورها في معالجة الشأن الفلسطيني، كما ساعد على رفع الفيتو الأمريكي والإسرائيلي عن المصالحة الفلسطينية التي ترى وتريد واشنطن وتل أبيب أنها ستفضي إلى إعادة سيطرة السلطة الوطنية على قطاع غزة.
وإلى ذلك كله فإن حركة حماس كانت تخشى من أن تشن إسرائيل حربا ثالثة على القطاع فتفاقم من معاناة سكانه خاصة وأنها ما انفكت تلوح بذلك في الآونة الأخيرة... وأما عن دوافع السلطة الوطنية الفلسطينية فيمكن إجمالها في انسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، ووصول عملية السلام إلى طريق مغلق، عقب تخلّي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن مسار أوسلو.
وانطلاقا من أن الولايات المتحدة، حسـب ما يتوقّع الملاحظون، تعتزم طرح خطة سلام جديدة، قد لا تلبّي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، فإن الوقوف في وجه هذه الخطة يتطلّب وحدة الموقف الفلسطيني.
وربما يكون ذلك هو الذي يفسّر سعي قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى تحقيق المصالحة الفلسطينية التي تعتبر أمرا ضروريا لعقد دورة جديدة للمجلس الوطني، بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي. والمتأمل في جملة هذه الدوافع يلاحظ أن بعضها ظرفي وبعضها الآخر وظيفي، ومن المفترض أن تكون الغلبة للثانية على الأولى بما يساعد على النجاح في تحقيق المصالحة وفي ضمان ديمومتها وخاصة في معالجة التحديات والعقبات التي تقف في طريقها، وهي لا شك كثيرة ومتنوعة، فهي تتعلق بالسياسة والأمن والإدارة والاقتصاد والمعابر وتردّي الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة.
ويرى الملاحظون أن أكبر هذه التحديات هو تحدي الاتفاق على مقومات الشراكة السياسية التي ينبغي أن تقوم بين السلطة الوطنية وبين حركة حماس، ذلك أن برنامجيهما السياسيين مختلفان، ففي حين تعتبر السلطة أن الحل السياسي السلمي والمقاومة الشعبية والاشتباك السياسي مع الاحتلال في المحافل الدولية، بالإضافة إلى المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية هي السبيل الوحيد لإقامة الدولة على حدود عام 1967، ترفض حركة حماس الاعتراف بإسرائيل ولا تؤمن بالتسوية السلمية معها، وتؤكّد على ضرورة المضيّ قدما في المقاومة المسلحة للاحتلال.
غير أنّ وثيقـــة المبادئ والسياسات العامة الجديدة قرّبت الشقّة، على ما يبدو، بين هذين البرنامجين السياسيين المتباينين، وساعدت على تقريب الطرفين من تبنّي خيار الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وهذا ما من شأنه أن ييسّر الوصول إلى الشراكة السياسية المنشودة، والاتفاق على استراتيجية وطنية موحدة. ويرتبط بتحدي الشراكة السياسية تحدٍّ كبير آخر هو تحدّي تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، واجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
أما التحدي الكبير الثاني فهو يتعلق بالملف الأمني وسلاح الفصائل فهو من المسائل الشائكة والمعقّدة في ظلّ وجود أجهزة أمنية وشرطية تتبع بشكل مباشر حـركة حماس وفي ظل انتشار المجموعات المسلحة الفلسطينية في قطاع غزة وخاصة في ظل إصرار الحكومة الفلسطينية على استلام كافة المهام والمسؤوليات في غزة، بما فيها المهام الأمنية. وقد اتفق الجانبان على تأجيل النظر في هذا الملف إلى ما بعد الانتخابات، غير أن إنهاء حالة الازدواج الأمني والعسكري وضبط سلاح الفصائل يظلان يشكلان تحديا كبيرا خاصة وأن السلطة الوطنية الفلسطينية ترفع شعار «سلطة واحدة... قرار واحد... أمن واحد» بينما تؤكد حركة حماس أن سلاح المقاومة لا يمكن المساس به.
وإلى ذلك وعلى الصعيد الإداري، فإنّ إعادة توحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية التنفيذية والتشريعية والقضائية يمثل تحديا آخر لأنّ الانقسام الذي استمر عشر سنوات، تولد عنه انقسام في مؤسسات الدولة بين بين قطاع غزة والضفة الغربية.
ومن المشاكل الكبرى التي سيتعين على الطرفين معالجتها في هذا النطاق مشكلة عودة الموظفين السابقين، وتسوية أوضاع الموظفين الجدد الذين قامت حكومة حماس خلال سنوات الانفصال العشر بإحلالهم بدلا منهم، وقد كان هذا الملف، من أبرز معوقات نجاح «اتفاق الشاطئ» الذي أبرمه الجانبان سنة 2014. أما على الصعيد الاقتصادي فإن الحكومة ستكون مدعوّة اإلى معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية في القطاع وإيجاد الحلول السريعة اللازمة لمشاكل الفقر والبطالة وخاصة بطالة الخرّيجين من الشباب...
هــذا على الصعيـــد الداخلي أمّا على الصعيـــد الخارجي، فإنّ الضغوط الإقليميــــة والدولية التي لعبت خلال السنوات الماضية أدواراً سلبية في تكريس الانقسام، قد تستمرّ مستقبلا وقد تعرقل تحقيق المصالحة. ومما لا شك فيه أن إسرائيل، من حيث المبدإ، تفضل أن يستمر الانقسام وعدم التقارب بين السلطة الوطنية وبين حــــركة حماس... غير أنّها قد تجد في المصالحـة الفلسطينية مصلحـة إذا أدت إلى تسلم السلطة الوطنية المهام الأمنية في قطاع غــزة، والمعابر على حدوده...
ولأنّه من المنتظر أن تحرص حركة حماس على التمسك بدورها المقاوم وألا تقبل التخلي عنه، فإن إسرائيل ستستغلّ هذا التمسك في الترويج لمقولة أن حركة حماس تريد «لبننة» الساحة الفلسطينية، (أي أن تكون في قطاع غزة بمثابة حزب الله في لبنان)، وأن تتذرّع بذلك للاستمرار في المماطلة وفي تجميد العملية السياسية بدعوى أنّ الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يتحالف مع حركة تعتبرها هي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حركة «إرهابية».
وفي الأثناء ينتظر أن تعمل إسرائيل، بمكرها المعروف، على الاستفادة من المرحلة الراهنة التي تحاول فيها حركة حماس «ضبط نفسها» للبرهنة على صدق رغبتها في تحقيق المصالحة مع السلطة الوطنية من خلال القيام ببعض العمليات ضد الحركة وهو ما ظهر مؤخرا أولا في محاولة اغتيال اللواء توفيق أبو نعيم، مدير قوات الأمن الداخلي بغزّة، وثانيا في تفجير نفق على الشريط الحدودي في جنوب قطاع غزة أسفر عن استشهاد سبعة فلسطينيين من بينهم ثلاثة قادة ميدانيين في الجناحين المسلحين لحركتي حماس والجهاد الاسلامي. واعتبرته حركة حماس جريمة صهيونية جديدة وتصعيدا خطيرا ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، ومحاولة يائسة لتخريب جهود استعادة الوحدة الفلسطينية. أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة فإن رفعها الفيتو عن المصالحة الفلسطينية جاء لأسباب عديدة، لعلّ أهمها التمهيد لتحقيق ما سمي بـ«صفقة القرن».
وفي هـــذا الإطار تجـــدر الإشـــارة إلى أنّ بعض المصادر الفلسطينية أفادت بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومبعوثيه طرحوا منذ البداية، وفي كل اللقاءات التي عقدوها مع الرئيس محمود عباس وغيره من المسؤولين الفلسطينيين، ضرورة عودة السلطة إلى قطاع غزة. ومع أن هذا التطور يعتبر تغييرا في الموقف الأمريكي فإنه يبقى تغييرا محدودا حيث أنّ واشنطن ما تزال تتمسك بالتزام حركة حماس بشروط اللجنة الرباعية وعلى رأسها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ووقف المقاومة، والموافقة على ما وافقت عليه منظمة التحرير بشأن مسار التسوية السلمية، كخطوة ضرورية للموافقة على تشكيل حكومة الوحــدة الوطنيــة القادمة.
والحقيقة أن الهدف من هذا التغيير المحدود في الموقف الأمريكي هو السماح للسلطة الوطنية بالعودة إلى حكم غزة لمنع انهيارها وانفجارها، وهو أمر لا يريده أحد، وتوظيف ضائقة حركة «حماس» وإشارات الاعتدال التي أرسلتها في العمل إمّا على احتوائها، أو على عزلها، هذا فضلا عن أنّ التقارب والتعاون بين مصر والحركة يمكن أن يشكّلا أداة إضافية لمكافحة الإرهاب في سيناء.
وفي مقابل الموقفين الإسرائيلي والأمريكي تبقى مواقف كل من إيران وتركيا وقطر ذات أهمية خاصة، فهذه الأطراف الثلاثة لا تنظر بعين الرضا إلى عودة التقارب بين حركة حماس وبين القاهرة من ناحية، وبينها وبين السلطة الوطنية من ناحية أخرى، وليس من المستبعد أن تعمل بطريقة أو بأخرى على النيل من هذا التقارب.
ويرى الملاحظون أن هذه الدول لا تستطيع أن تذهب بعيدا في ذلك لأنّها لا ترغب في الاصطدام بإسرائيل والولايات المتحدة.
وفي خضمّ مجمل هذه التحديات الداخلية والخارجية الإقليمية منها والدولية ستكون السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس بحاجة ماسّة لضمان أسباب النجاح في تحقيق المصالحة بينهما إلى التحلي أوّلا وقبل كل شيء بصفاء النية وصدق العزيمة والصبر الطويل وأيضا وفي نفس الوقت الى التجرد من أيّ نزعة إلى غلبة الطرف الآخر أو الانتصار عليه... إن المنطلق السليم لعملية المصالحة الحقيقية ينبغي أن يكون تقاسم المكاسب التي ستتمخض عنها وليس الاستئثار بها من قبل أحد الطرفين دون الآخر، وعندئذ سيتسنّى لهما، ولو بعد لأي، ومن خلال تقديم التنازلات المطلوبة من كل منهما، التوافق على جملة من الثوابت والمرجعيات المشتركة وعلى برنامج وطني موحّد ذي أولويات واضحة ومحدّدة ينخرط الجميــع في السعي الجاد الى تحقيقها.
وربّما سيكون من الضروري لبلوغ هذه الغاية، التعجيل بعقد حوار وطني تشارك فيه كافة القوى الفلسطينية دون استثناء، بغية بلورة رؤية شاملة لمستقبل الشعب الفلسطيني ولكيفية تحقيق هذا المستقبل لا سيما من خلال إعادة اللحمة بين الفلسطينيين، وتجميع كافة طاقاتهم من أجل مواجهة ما يحاك لهم من مخططات صفّا واحدا ويدا واحدة، وما أحوجهـــم إلى ذلك اليوم وغدا حتّى لا يتمّ استئناف مسيرة البحث عن السلام المضنية وفقا للشروط الإسرائيلية وطبقا لمستلزمات «صفقة القرن» التي تسعى واشنطــن إلى فـــرضها على الشعب الفلسطيني وعــلى دول المنطقــة.
محمّد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق