الزلزال العربي القادم: سايكس بيكو جديد
بعد مرور أكثر من مائة سنة على اتفاقية " سايكس بيكو 1916" و تقسيم المشرق العربي، وبعد مائة سنة على وعد بلفور 1917 الذي نصّ على تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين، يعود طرح تقسيم العالم العربي من جديد عبر توظيف مريب " للثّورات العربية" و "الحرب علىالإرهاب"، ويروّج الغرب لهذه الفكرة على اعتبارها الحل الأمثل لوضع حد للحروب القائمةوالأوضاع المتأزّمة في المنطقة.
وأمام تجاهل الدول العربية ومن ورائها المجتمعات لهذا الخطر فإن الواقع يضعنا أمام حقيقة واحدة وهي أن أجيالا عربية كاملة أصبحت لا تعرف ما هو الصواب في هذه القضية و أين كان الخطأ؟
بدأ وضع مشروع التقسيم مع إدارة جيمي كارتر( Jimmy Carter ) 1977-1981، حيث أسّس المستشرق الأمريكي الجنسية والصّهيوني الإنتماء برنارد لويس (Bernard Lewis)،وهو مستشار لدى وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط فكرة تفكيك البلاد العربية والإسلامية إلى دويلات عرقيّة ودينيّة ومذهبيّة طائفيّة، وسُلّم المشروع إلى زبيغنيو بريجنسكي (ZbigniewBrzezinski) مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر والذي سبق وأن طرح على الادارة الأمريكية سنة 1980، إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ، خلافا لما جاءت به اتفاقية سايكس-بيكو وذلك بإثارة مزيد من الحروب الطائفية والمذهبية. حظي هذا المشروع بموافقة الكنجرس الأمريكي و بالإجماع في جلسة خاصة سنة 1983 ليتم اعتماده لاحقا كأحد أهم أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية، وإلى هذا المشروع تعود الحرب الثانية في الخليج وكل التدخّلات السياسية والعسكرية الأمريكية في المنطقة بصفة مباشرة أو بالوكالة. إن جلّ الدول العربية وبعض الدول الاسلامية معنيّة بهذا التقسيم: الشرق الأقصى (إيران وباكستان وأفغانستان) والشرق الأوسط (مصر وشبه الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان والسودان)والمغرب العربي (الجزائر والمغرب وليبيا)، أي إنشاء 30 كيانا سياسيا جديدا وتحويل العالم الاسلامي إلى 88 دولة عوضا عن الـ 56 دولة الحالية.
اتضحت خلفية و أبعاد المشروع عبر كتاب شمعون بيريز (Shimon Peres) "الشرق الأوسط الجديد" الصادر سنة 1995 والذي أتى في إطار مقنّع حيث عبّر عن فشل الحروب وأهمية السلام وطرح رؤية جديدة لمستقبل المنطقة تتلخّص أبرز محاورها في : ربط إسرائيل وفلسطين والأردن في "بينيلوكس" سياسي واقتصادي على غرار هولندا وبلجيكيا واللوكسمبورغ،خلق سوق اقتصادية في المنطقة على غرار السوق الأوروبية المشتركة، خلق تحالف عسكري على غرار حلف الناتو، إنشاء سكة حديدية من الدار البيضاء إلى الاسكندرية ومنها إلى تركيا عبر تل أبيب واللاذقية، إنشاء شبكة كهربائية لا ترتبط بالحدود، انشاء منطقة حرة بين السعودية ومصر والأردن وإسرائيل تكون "ريفييرا البحر الأحمر". ويبدو أن الكتاب يعيد طرح فكرة "بيريز" السابقة " لقد جرّب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة إسرائيل إذن".
ومع إيماني بقيمة الانفتاح إلا أنني لا أرتاح إلى هذه الرؤية فهي خارجة تماما عن الالتزام الثابت للقادة الإسرائيليين بالنظرية الصهيونية للمنظّر السياسي تيودور هرتزل (Théodore Herzl) ، والتي تدعو إلى إقامة "الدولة اليهودية"، في الشرق الأوسط عبر تفكيك وإضعاف دول المنطقة إلى درجة عدم القدرة على مواجهة تواجد إسرائيل. فخلفية الكتاب هي البحث عن ثقل سياسي وأمني واقتصادي جديد في المنطقة ولكن ليس بأيد عربية.
وفي هذا السياق أعيد طرح نظرية " الشرق الأوسط الجديد" في جوان 2003 من طرف الادارة الأمريكية على اعتبار أن هذا المشروع يَضمَن أمن إسرائيل ولمدة 50 سنة قادمة،فالتخلّف العربي في نظرهم وضعف الدول العربية عموما وعدم استقرارها، يتيح الفرصة للكيان الصهيوني بلعب دور كبير على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي، ولتسريع ادخال المشروع حيز التّنفيذ، عُقدت عدّة ندوات ولقاءات علمية بالتنسيق مع جامعات ومراكز أبحاث إسرائيلية.
لست أدعو إلى تجاهل مساعي السلام في الشرق الأوسط ولكن أدعو إلى الانتباه إلى الثوابت الصهيونية ومن أبرزها أنّ أمن إسرائيل يمر حتما عبر تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي والحضاري للأمة العربية.
نشرت "جريدة نيويورك تايمز" في سبتمبر 2013 ولأهداف معيّنة وجزئية، خرائط تقسيم خمس دول عربية إلى 14 دولة، حيث تظهر تفكيك سوريا إلى ثلاث دويلات: دويلة للعلويين على الساحل، ودويلة كردية في الشمال، ودويلة سنّية، كما تكشف تقسيم السعودية إلى خمس دويلات: الشمال العربي والشرق العربي والغرب العربي (الحجاز) والجنوب العربي ودولة وهابية وسطى وتقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات. وتعمّدت الجريدة إخفاء تقسيم مصر والسودان وفقا لمقتضيات مراحل التنفيذ، ولكن الخريطة سُرّبت ويشير مضمونها إلى تقسيم مصر إلى أربع دول هي: دولة مسيحية في الصحراء الغربية وعاصمتها الإسكندرية ودولة نوبية في الجنوب (تضم شمال السودان وجنوب مصر)، ودولة في سيناء والصحراء الشرقية والتي سيتم ضمّها لإسرائيل الكبرى.
ولعله من المهم الاشارة وأن من الوثائق التي تحدّثت عن هذا المشروع وثيقة نشرتها "مجلة القوات المسلحة الأمريكية - Armed Forces Journal" تحت عنوان " الحدود العرقية، ما يجبالقيام به لتحسين الشرق الأوسط Frontières ethniques, que faire pour améliorer le Moyen-Orient " وضعها المقدم المتقاعد رالف بيترز (Ralph Peters) سنة 2006. ويطرح هذا الضابط فكرة تشكيل حدود جديدة وفقا لمعايير طائفية، وأمام احتمال عدم إمكانية رسم الحدود وفقا لهذه الخصوصيات ، يؤكد "رالف بيترز" على ضرورة الاقتراب أقصى ما يمكن من هذا المفهوم.
والواقع أن المتأمل في والواقع العربي خلال العقدين الأخيرين يجد تناغما واضحا بين الأحداث التي جدّت ومضمون هذه الخرائط، وخاصة ما يجري منذ 25 سبتمير 2017 تاريخ إعلان تنفيذ استفتاء أقليم كردستان حول الانفصال عن العراق والذي يعتبر تجسيما فعليا لمخطط الشرق الأوسط الكبير(الجديد). وعلى الرغم من كل ذلك فالوضع ليس بالسهولة التي تتبادر للأذهان، فالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وإن ارتاحوا لقصور الرد الفعلي العربي فهم يواجهون محور مقاومة شديد يعارض الهيمنة الأمريكية الاسرائيلية ويتشكل من إيران وروسيا والصين. لقد أطردت معظم الشعوب العربية قوات الاحتلال من دولها سابقا، ونأمل أن يتواصل الصّمود أمام المد الأمريكي الصّهيوني على النحو الذي تُبديه دول أمريكا الجنوبية وآسيا. نخطئ كثيرا لو انشغلنا بقضية توسّع النفوذ الايراني والحرب على داعش وتناسينا دور إسرائيل في تمزيق المجتمعات وبث التفرقة وزعزعة استقرار المنطقة و نخطئ في حق أنفسنا وأبنائنا لو انزلقنا للخوض في توجهات الشرق الأوسط الجديد عبر تقديم مشاريع مستقبلية تنسجم مع هذا المشروع الخطير.
إن تكريس انقسام الوطن العربي كان و لازال من الأولويات الاستراتيجية للقوى العظمىوإسرائيل، منذ الزعيم البريطاني "ونستون تشرشل"، الذي صرّح عند نهاية الاستعمار وبنوع من التشفي، " أننا تركنا وراءنا آثارا لا تزول بمائتي سنة"، فكيف نقبل اليوم فك عزلة اسرائيل ولم يتحصّل الشعب الفلسطيني على حقوقه و كيف نقبل التعامل معها اقتصاديا بشكل ثنائي أو في إطار عربي ضيّق لفتح الأسواق العربية لها وهي المنفذ الاقتصادي الوحيد لها والممكن استغلاله للتأثير على قراراتها، ألا يُعَدُّ هذا التسارع في تبنّي أفكار شمعون بيريز تعزيزا للصهيونية العالمية وترسيخا لاحتلال سابق وتمهيدا لاحتلال جديد.
إن المشكلة الحقيقية التي نعاني منها في الوطن العربي هي تجمّد إدراك النخب السياسية والسلط الحاكمة للعالم وإلى ضرورة إعادة صياغة نظمها السياسية والاقتصادية وفقا لرؤية إستراتيجية شاملة تقوم على جمع شمل الدول العربية. ألم يدرك بعدُ الساسة العرب أن الدول العربية وفقا للتقسيم الحالي هي أصغر من أن تصبح دولا قوية بقدراتها الذاتية، وأن التسابق على التسلح بدعوى بناء القوة العسكرية لديها هو أمر مشروط بضرورة توازنها مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى لا تتحوّل إلى كارثة، وبناء على ذلك يصبح إعادة التفكير في عوامل قوة الدّول العربية وتأثيرها سياسيا واقتصاديا أمرا ضروريا وحتميا. ألا يعني هذا أنه من حقنا أن نعيد الحياة لمؤسساتنا العربية لوضع القوانين والاستراتيجيات التي تناسب عيشنا وتؤمّن مستقبلنا. ألم يحن الوقت لنأخذ من التاريخ دروسا للحاضر ونوقف عجلة التدهور المريع في الوطن العربي؟
إن الدول العربية مطالبة في ظل إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عزمها على تغيير الخارطة السياسية للمنطقة، بترتيب أوضاعها بشكل يختلف عمّا كانت عليه، وليس ثمّة شك في أن تطوير جامعة الدول العربية وإصلاحها، ودعم التكتّل الإقليمي العربي في كل من اتحاد المغرب العربي، ومجلس التعاون الخليجي، وبعث تكتّل شرق أوسطي يضم مصر و دول الهلال الخصيب، وتفعيل التكامل الاقتصادي العربي، بات أمرا لازما لاغنى عنه.
لقد حان الوقت لنعطي لأنفسنا الوقت الكافي للتأمل في ما نحن فيه وللتفكير بوعي في تداعيات الارتماء في أحضان الدول التي تستغل بلداننا وثرواتنا وطاقاتنا لصالح هيمنتها. لقد حان الوقت لكي تشكّل الدول العربية قوّة ضاغطة على المجتمع الدولي خدمة للأمن والتنمية والسلام.
العقيد محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق