محمّد البشير ساعي: الفـلاحة أساس الاقتصاد الرّيفي
لقد مثّلت برامج التنمية الريفية أولى السياسات التي توختها الدولة التونسية مباشرة بعد الاستقلال للنهوض بالأرياف وأهاليها وتخليصها من براثن الفقر والجهل والبطالة. وكان التركيز بالدرجة الأولى على النشاط الأصلي والوحيد آنذاك وهو الفلاحة وذلك بالدعم والتحسيس والتوجيه دون إغفال متطلبات الحياة التي كانت شبه منعدمة في مناطق، وصعبة المنال في مناطق أخرى مثل الماء والخدمات الصحيّة والتعليم. وقد تركّزت اهتمامات الدولة في البداية على تنمية القطاع الفلاحي إيمانا منها بأنّه المقوّم الأوّل في الاقتصاد الريفي الذي بإمكانه أن يوفّر دخلا يساهم في تحسين أوضاع سكّان المناطق الريفية والارتقاء بظروف معيشتهم إلى منزلة أفضل.
نظرا للصعوبات التي كان يعاني منها القطاع وقتئذ وأهمّها عدم استقـــرار متساكني الأرياف وفقدان أغلبهم لأبسط متطلبات العيش وحاجتهم إلى التأطير والتوجيه ،علاوة على الغياب شبه الكُلِّي للبنية التحتية ووسائل الإنتاج مثل المسالك الفلاحية وأدوات الري وغيرها ...لم تكن النتائج في مستوى التطلعات، ممّا دفع بعدد كبير من متساكني المناطق الريفية وخاصة ممن لا يملكون أراضي إلى النزوح إلى المدن القريبة بحثا عن العمل وسعيا إلى تقريب أبنائهم من المدارس، بعد أن غدا التعليم في نظرهم أهمّ مصعد اجتماعي.
الحضائر وسيلة للتصدّي للفقر
أمام هذا الوضع سارعت الدولة عن طريق الإدارة التي كانت المخاطب الوحيد بسبب غياب هياكل مختصة إلى تكثيف الجهود الرامية إلى تثمين المتاح بالنسبة إلى من يملكون أرضا فلاحية وتطوير الجانب المعرفي لديهم باستعمال الميكنة واستصلاح بعض الأراضي واختيار أصناف البذور والشتلات التي أثبتت جدواها وأحدثت من جهة أخرى ما يسمى بحضائر التصدي للتخلف والبطالة لاستيعاب أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل ممّن لم يجدوا لهم مكانا بوحدات الإنتاج الفلاحي (بالشمال خاصة) وممّن ليس لهم أراض وقد تفاقم عدد اللاجئين إلى هذه الحضائر في سنة 1968 ليصل إلى أرقام مرتفعة ناهزت 48000 عامل وهي نسبة بلغت حدّ 4.5% من القوى النشيطة بالبلاد.
ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى ما اتّسمت به سياسات الدولة من ارتجال وما طبع عمل الإدارة من نظرة أفقية، جعلها تتجاهل عن قصد أو دونه الجانب التشاركي والمعرفي للمحليين.
خلال فترة السبعينات ورغم ما بدا من تحسّن في المناطق الريفية خاصة في مستوى مرافق الحياة مثل مياه الشرب والصحة والتعليم تفاقمت البطالة واتّسعت الهوّة بين متساكني الأرياف والمدن في مستوى أغلب المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.
فعلى سبيـل المثال كانت نسبـــة البطالة 13.7% بالوسط الريفي في حين لم تتجــاوز 10% بالوسط الحضري، وبلغت نسبة التمتع بالكهرباء المنزلي 29% بالوسط الريفي، مقابل 63.4% بكامل البلاد (1980).
ووفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء بلغ في سنة 1985 معدّل الإنفاق للشخص الواحد في السنة 294 دينارا في الوسط الريفي مقابل 619 دينارا في الوسط الحضري، وتقيم هذه الفوارق الدليل على فشل السياسات المتوخّاة إذّاك في دفع التنمية في الأرياف والتي اقتصرت على تطوير الإنتاج الفلاحي.
في تلك الفترة كانت أسعار جلّ المنتوجات الأساسية بالقطاع الفلاحي تخضع لمراقبة الدولة التي كان هاجسها الأكبر في سياسات الأسعار الضغط على أسعار المواد الأساسية ذات الأولوية بدعوى مراعاة المقدرة الشرائية للطبقات الضعيفة والمتوسطة. وقد مثلت سياسة الضغط على الأسعار العائق الأساسي أمام إقلاع القطاع الفلاحي الذي كان بمثابة محرك التنمية بالمناطق الريفية وبالبلاد ككل وأعاقت هذه السياسة قدرته على المنافسة وفي بعض الحالات على الإنتاج.
ظهور برامج التنمية الريفية المندمجة
أمام اختلال التوازن بين الجهات والقطاعات وخاصة القطاع الفلاحي الذي لم يقو على مواكبة حركة النمّو الاقتصادي وحتى على الاستمرارية في بعض الحالات، وأمام محدودية منوال التنمية في مجمله سارعت الدولة عبر سياساتها إلى إيلاء التنمية الفلاحية مكانة أكبر وأهم. وكانت هذه الاستفاقة بمثابة البداية للنهوض بالقطاع الفلاحي فاستعملت الإدارة وسائل أنجع، مستفيدة في ذلك من تجربتها السابقة في الوسط الريفي حيث كانت البرامج أشمل وأنجع واستراتيجية التنمية أكثر توفيقا في الأخذ في الاعتبار علاقة الريف بالمدينة وحاجة كل منهما إلى الاخر. ومع هذه الاستراتيجية ولدت برامج التنمية الريفية المندمجة والتي مكنت بدورها على مدى الفترة 1986 - 1992 من التدخل في عدد كبير من الجهات مساهمة في خلق ديناميكية جديدة مدعومة بسياسة أسعار حرة ومنفتحة للمنتوجات الفلاحية. ويجدر التذكير بأنّ تونس انخرطت خلال تلك الفترة في برامج الإصلاح الهيكلي بإشراف صندوق النقد الدولي وسبقها إنشاء العديد من هياكل التنمية كدواوين الإحياء والتنمية والمندوبية العامة للتنمية الريفية ووكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية وغيرها.
مشاكل هيكلية وظرفية عديدة
مواكبة للتوجه العالمي الجديد الموسوم بالانفتاح وتحرير المبادلات انخرطت تونس مع بداية التسعينات في المنظمة العالمية للتجارة (1994) وأبرمت اتفاقية للشراكة مع الاتحاد الأوروبي (1995) ودخلت بذلك عالم التبادل الحر وفتح الأسواق مستثنية في ذلك تحرير المنتوجات الفلاحية نظرا لحساسيتها وخصوصيتها وذلك حتى سنة 2001 تاريخ إمضاء مذكّرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي خاصة بمبادلات المنتوجات الفلاحية مقابل إتاحة بعض التسهيلات أمام المنتوجات التونسية، ونعني مشروع اتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق الذي يتفاوض بشأنه الطرفان منذ مدّة. ويثير مشروع الاتفاق هذا اليوم مخاوف الفلاحين والمهتمّين بالشأن الفلاحي، فدخول منتوجات فلاحية مدعومة من الفضاء الأوروبي إلى الإسواق التونسية سيضع المنتوجات المحلية في وضعية تنافسية، اعتبارا لجودتها العالية، حتّى وإن كانت أرفع سعرا. وستكون لذلك حتما انعكاسات سلبية على قطاع كالفلاحة التي لا تزال تواجـه مشـــاكل هيكلية وظــرفية عديدة وتأثيرات على الوسط الريفي الذي يبقى اقتصاده وثيق الصلة بالنشاط الفلاحي.
ففضلا عن كون القطاع الفلاحي يعتبر مطريّا بنسبة 95 %، فإنّه يعاني بالخصوص من تشتّت الملكية وضيق مساحات معظم المستغلات الفلاحية التي تطوّر عددها من 471000 سنة 2000 إلى 518233 سنة 2011 وصعوبة النفاذ إلى القروض ومصادر التمويل، إضافة إلى التغيير الحاد في العوامل المناخية والضغط على الموارد المائية إذ فاقت نسبة استغلال المائدة السطحية 14 % سنة 2016 في حين تطوّر استغلال المائدة العميقة من 77 % سنة 1995 إلى 94% سنة 2011.
الحاجة إلى استراتيجية جديدة للنهوض بالفلاحة
كلّ هذه الإشكاليات تجعل الحاجة ماسّة إلى استراتيجية جديدة تزيد في مساهمة الفلاحة في الناتج الداخلي الخام والتي تقدّر الآن بحوالي 9 بالمائة وتعزّز مكانته، رافعةً من رافعات النموّ الاقتصادي في البلاد.
ولا خفاء أنّ النهوض بالعالم الريفي في تونس وتحسين أوضاع المتساكنين فيه يظلان مرتبطين ارتباطا وثيقا بتنمية الفلاحة، باعتبارها أساس اقتصاده وعصب الحياة فيه، وذلك من خلال الرفع من مردودية هذا القطاع وجعله مصدر ثروة محلية ووطنية وقاعدة لصناعات تحويلية لمنتوجات الأرض تدعم حركة التصدير وتساهم في تحقيق الأمن الغذائي في العديد من المجالات ولعلّ أكبر رهان لإدراك هذه الغاية يتمثّل في تشجيع الشباب على العمل في المجال الفلاحي والاستثمار فيه والاستقرار في الريف. من أجل ذلك لا بدّ من سنّ سياسات جريئة ومبتكرة تفتح أفقا جديدا أمام الفلاحة وتضع حدًّا لحالة التهميش والحرمان التي يشهدها العالم الريفي.
محمّد البشير ساعي
أستاذ وباحث في الاقتصاد الريفي
- اكتب تعليق
- تعليق