الهادي البكّوش في الذّكرى 64 لاغتيال الشّهيد الهادي شاكر : زعيم تعاطى السياسة وانخرط في المقاومة

الهادي البكّوش في الذّكرى 64 لاغتيال الشّهيد الهادي شاكر : زعيم تعاطى السياسة وانخرط في المقاومة

بإعتزاز كبير ﺃلبّي دعوة جمعيّة الزّعيم الوطني المقدام والشّهيد الدّستوري الرّائد الهادي بن محمود شاكر للتّحدث عنه في ذكراه الرّابعة والسّتين.

تحدّثت عنه مِرارا في السّابق عندما كنت واليا على صفاقس وقد كنت أزور كلّ سنة بيته وﺃُحيِّي مع جموع من الأوفياء السّيدة الفاضلة حرمه نفيسة شاكر عفّاس وﺃعزّي ابنته وبنيه وإخوته.

وتحدّثت عنه لمّا كنت مسؤولا في الحزب وفي الدّولة ولكن الحديث عن الهادي شاكر لاينضب فهو رجل من خيرة رجال تونس ﺁمن بحرّية وطنه وسخّر له حياته واستشهد في سبيله.

جريمة نكراء ارتكبها الاستعمار وشارك فيها التونسيان بلقروي

...في 13 سبتمبر في الصّباح الباكر تهجّمت مجموعة من الجند من الفرنسيّين ومن التّونسيّين على الزّعيم الهادي شاكر في نابل: فجّرت الباب الخارجي للبناية التي يسكنها وكسرت باب شقّته بإطلاق نار مسدّس عليه واختطفوه بعنف ﺃمام صراخ حرمه وابنته واعتراض ابنه وحملوه في سيّاراتهم حيث أطلقوا عليه وابلا من رصاص الرشّاشات والمسدّسات ونكّلوا بجثّته ثمّ رموه على حافة الطّريق على بعد 6 كم من نابل وعلّقوا فوقه ورقة كتبوا عليها بالفرنسيّة "كلّ اغتيال ﺃو عمليّة تخريبيّة يقوم بها الحزب الدّستوري في بلدة ما، تكون في المستقبل متبوعة باغتيال ثلاثة من شخصيّات الشّعبة الدّستورية بتلك البلدة، لا شيء و لا أحد يمكن ان يمنع هذا الإنتقام".

هي جريمة نكراء تهجّم أصحابها على رجل ﺃُعزِل في إقامة جبريّة بعيدا عن ﺃهله بشراسة وووحشيّة، ذنبُه ﺃنّه يدافع عن وطنه ويقاوم الاستعمار، شارك فيها التّونسيان الشّاذلي بلقروي والهادي بلقروي، ساقا انطلاقا من قصر الرّيح بصفاقس سيّارتين نحو نابل صاحبتهما سيّارة الجندرميّة حتّى لا يتعطّلا في الطّريق جرّاء قانون منع الجولان. ادّعى بعض من ﺁل بلقروي ﺃنّإغتيال الهادي شاكر هو انتقام للشّيخ أحمد بلقروي الّذي قضت المقاومة الوطنيّة بإعدامه ونفّذت فيه حكمها في 8 ﺃوت 1953 على يد المجاهد الجريّ محمّد بن رمضان.

تناسوا ﺃنّه صرّح قبل ذلك في باريس، في جوان 1953 في عنفوان المقاومة الوطنيّة للاستعمار ﺃنّه عازم على مقاومة المشوّشين وكبت أصواتهم والقضاء على قادتهم وانّه قال "إنّه ليس لبورقيبة الحقّ في التّحدّث بإسم الشّعب التّونسي. إنّ لي ﺃنصارا كثيرين وعددهم يفوق عدد ﺃنصار بورقيبة ". تناسوا أنّه شكّل عصابات تولّت سلطات الحماية تزويدها بالسّلاح وبالمال قصد الاعتداء على الوطنييّن وتدمير ممتلكاتهم. تناسوا ﺃنّ أحمد بالقروي ﺃحْيَى لدى بعض من ﺃهله عصبيّة قبليّة بدائيّة ضدّ الحركة الوطنيّة بتشجيع وإحاطة من المراقب المدني Gantès ومن حكومة فرنسا رعاية لمصالح شخصيّة وعائليّة وتمريرا لمظالم واعتداءات وإهانات ضدّ الأهالي.

في نفس الوقت امتدّت المقاومة إلى الأرياف والجبال وبرزت من العروش في تونس وفي الجنوب طاقات وطنيّة مجاهدة واجهت القوى الفرنسيّة بشجاعة وفاعليّة كبّدته خسائر جسيمة وكوّنوا النّواة الأولى لجيش تحرير وطني فرضت على فرنسا مع كلّ مكوّنات المقاومة الوطنيّة الاعتراف بحقّنا  في الاستقلال والعودة الى التّفاوض في شأنه

سقط قبله حشّاد شهيدا

سبقت جريمة اغتيال الهادي شاكر جريمة أخرى لا تقلّ عنها فظاعة وهي اغتيال فرحات حشّاد :الزّعيم النّقابي والوطني، عجزت السّلط الفرنسية عن إيقافه أو محاكمته لأنّها كانت تخشى ردود الفعل التّضامنيّة لفائدته من الشّعب التّونسي ومن المنظمّات النّقابية في العالم وفي فرنسا وفي الولايات المتّحدة فاذنت لليد الحمراء الجهاز الموازي لمؤسّساتها الرّسمية بالتّهجم عليه وهو متّجه الى مكتبه في تونس وإطلاق نيران سلاحها عليه على مرّتين حتّى يتمّ التّأكّد من ﺃنّه مات.

فرنسا ورجالها اغتالوا فرحات حشّاد وفرنسا ورجالها أوحوا ودبّروا ونفذوا اغتيال الزّعيم الهادي شاكر لتنشر الخوف والذّعر في البلاد وفي صفاقس وفي الجنوب حيث كانت المقاومة ناشطة واشتدّ عودها لانّ الهادي شاكر خطر على بقائهم لما له من تأثير على رجال المقاومة وعلى تنظيماتها. ولانّ للهادي شاكر في القيادة الوطنية لمعركة التّحرير مكانة بارزة تقلق السّلطة وقد اكتسبها بفضل مسيرة نضاليّة طويلة بدﺃت عند حضوره مؤتمر بعث الحزب الدّستوري الجديد في قصر هلال في 2 مارس 1934 وتواصلت إلى 13 سبتمبر 1953 يوم استشهاده.

صفاقس تلتحق بالحزب الدستوري الجديد

اصطفاه الزّعيم الحبيب بورقيبة ودعاه للمشاركة في قصر هلال ورشّحه لعضويّة المجلس الماليّ للحزب الجديد ممثّلا لصفاقس ونائبا عنها. وعند تقديمه للدّكتور محمود الماطري و للأستاذ الطّاهر صفر قال لهم "صفاقس التحقت بنا".

وعاد إلى صفاقس وفي أقلّ من ثلاثة ﺃشهر كوّّن شعبة دستوريّة جديدة ضمّت 680 منخرطا كان رئيسا لها والحال ﺃنه لم يكن من السّهل انتشار الحزب الجديد فللحزب القديم قاعدة صلبة تشرف عليها كفاءات مشعّة.

استطاع الفقيد الهادي شاكر بفضل اختلاطه بعامة النّاس وإحاطته بالشّباب وصبره على الحوار أن يجعل من الحزب الجديد في صفاقس قوّة شعبيّة مؤثرّة ظهرت فاعليّتها في حملات الإحتجاج والتّضامن التّي نظّمتها عند إيقاف زعماء الحركة الوطنيّة وفي مقدّمتهم الزّعيم الحبيب بورقيبة في 3 سبتمبر 1934.

في تظاهرة كبيرة انتظمت عند تسليم احتجاج للمراقب المدني وللقائد قال الهادي شاكر وقد حملته الجماهير الشعبيّة على الأكتاف : "نحن مصرّون على القيام بواجبنا نحو زعمائنا الابرار والوطن المقدّس كلّفنا ذلك ما كلّفنا وإن سيق بنا إلى المشنقة فالموت والحياة عندنا سواء".

الهادي شاكر يلتحق بالزعماء في المنفى

واصل المقيم العامّ Peyrouton قمعه للحركة الوطنيّة، حلّ الحزب الدّستوري وﺃغلق نواديه وتوسّع في الإيقافات. نُفِي الهادي شاكر إلى مطماطة ثمّ إلى مدنين ومنها إلى برج الباف حيث التحق بالزّعيم الحبيب بورقيبة ومحمود الماطري ومحمّد بورقيبة وصالح بن يوسف.

تصدّى الوطنيّون لهذا القمع بشدّة وبدون انقطاع ممّا ﺃجبر فرنسا على تغيير سياستها فبعثت مقيما عامّا جديدا Armand Guillon، أطلق سبيل الموقوفين وفتح حوارا مع الحزب الجديد. والتقى بورقيبة في باريس بوزير من حكومة الجبهة الشعبيّة Viénot ثمّ في تونس وقدّم له برنامج إصلاح وقد لقي منه استعدادا حسنا ولكنّ المتطرّفين في تونس وفي باريس حالوا دون الوصول إلى اتّفاق. أعلن الحزب الدّستوري نهاية سياسة حسن الظّن وﺃعلن القطيعة مع فرنسا ودخل في مواجهة هي الثّانية معها كانت مجزرة 9 ﺃفريل 1938 أبرز فصولها.

وترتّب عن ذلك إلقاء القبض على الزّعيم بورقيبة من جديد صحبة رفاق له من الحزب من بينهم الهادي شاكر وسجنوا في تبرسق. ولما اندلعت الحرب العالميّة الثانيّة نقلوا إلى سجون فرنسا في مرساي وفي ليون في انتظار محاكمتهم التي إن تمّت تؤدّي بهم إلى الإعدام.

حرّرتهم ألمانيا وسلّمتهم إلى إيطاليا الّتي أرجعتهم إلى تونس في 7 ﺃفريل 1943

قضى الهادي شاكر بعد رجوعه من إيطاليا ليلة واحدة في بيته، فقد ﺃخذه الفرنسيّون إلى الجزائر ووضعوه في إقامة جبريّة انتهت بعد ثلاثة ﺃشهر بفضل تدخّل أنقليزيّ وﺃمريكيّ قاما به لاقتناعهم بانّه لم يكن مواليا للمحور وكان مناصرا للحلفاء مثله مثل الزّعيم بورقيبة وقيادة الحزب.

دور حاسم في المقاومة

كانت مسيرة الشّهيد الهادي شاكر بعد سجون فرنسا ومنفى الجزائر حتّى رسالة 15 ديسمبر 1951 زاخرة بالنّشاط ومملوئة بالأحداث، كان دوره فيها حاسما وتأثيره عليها كبيرا ﺃذكر منها:

الحدث الأوّل: وهو تكوين اتّحاد النّقابات المستقلّة بالجنوب التّونسي في 6 نوفمبر 1944 برئاسة الزّعيم الكبير فرحات حشّاد النّواة الصّلبة للإتّحاد العامّ التّونسي للشّغل، كان للهادي شاكر وللدّستوريّين فيه دور أساسي أكّده الزّعيم الحبيب عاشور بطل إضراب 5 أوت في مذكّراته حيث قال: "لم أكن قادرا وﺃنا الدّستوري والمسؤول بصفاقس منذ عام 1935 على تحمّل هذا الجوّ المعادي لتونس وللتّونسيّين داخل المنظّمات الفرنسيّة وباعتبار انتمائي للحزب الدّستوري الجديد فقد وقعت اتّصالات مع الهادي شاكر رئيس جامعة صفاقس الدّستوريّة وكان بالطّبع جدّا مرتاحا لميلاد هذه المنظّمة في صفلقس بالذّات ولحسن سيرتها".

الحدث الثّاني: إضراب 5 اوت 1947 الّذي واجهته السّلطة ببطش وبقوّة وقد خلّف 32 شهيدا و500 جريحا. تجنّدت المدينة بدعم من الهادي شاكر للتّعبير عن احتجاجها وسخطها وتضامنها مع الضّحايا والإحاطة بهم وبعائلاتهم.

الحدث الثّالث: هو فشل التّفاوض مع فرنسا الّذي باشره الوزير الأوّل محمّد شنيق بمعيّة الزّعيم صالح بن يوسف والّذي انتهى برسالة 15 ديسمبر. تراجعت فرنسا في هذه الرّسالة عن وعدها من تمكين تونس من استقلالها الدّاخلي وأكّدت عن أنّ ارتباط فرنسا بتونس أبدي وأنّ السّيادة في بلادنا مزدوجة يباشرها على السّواء التّونسيّون والفرنسيّون المقيمون بيننا.

والحدث الرّابع: المواجهة مع فرنسا إثر القطيعة معها إثر رسالة 15 ديسمبر، كان الهادي شاكر ناشطا في إعداد جند الشّباب وجمع الأسلحة والمفرقعات والذّخيرة ووفرة الأموال. بدأت المواجهة مع فرنسا لمّا جاء المقيم العامّ الجديد De Hauteclocque إلى تونس في باخرة بحريّة مهدّدا متوعدّا وﺃمر بإيقاف زعيم الحزب الحبيب بورقيبة وجمع من رفاقه ونفاهم إلى طبرقة ومنع إنعقاد مؤتمر الحزب المقرّر ليوم 18 جانفي 1953 والّذي انعقد رغم ﺃنفه ودعا الشّعب إلى المقاومة. ترﺃّس الشّهيد الهادي شاكر هذا المؤتمر الّذي كنت عضوا فيه والّذي اقتصر على تلاوة اللّائحة العامّة وإجراء نقاش حولها.. اكّدت هذه اللّائحة "ﺃنّه لا يمكن قيام تعاون ودّي ومثمر بين البلدين فرنسا وتونس إلّا بإنهاء الحماية والاعتراف باستقلال تونس وإبرام معاهدة ودّ وتحالف على قدم المساواة". في نهاية هذا المؤتمر دعا الفقيد الهادي شاكر الحاضرين إلى العودة إلى مناطقهم ومباشرة مسؤوليّاتهم في إنجاح المقاومة.

إقامة جبرية في نابل

وانطلقت المقاومة عارمة شاملة قويّة في المدن والأرياف والجبال في الدّاخل والخارج. وقاسى الشّعب مجاهدا صابرا ردود فعل الاستعمار وقمعه الوحشي. و في الأثناء ﺃوقف الهادي شاكر مرّة ﺃخرى مع بورقيبة ونقل إلى جربة ثمّ إلى تطاوين ومن هناك وضع في إقامة جبريّة في نابل و لمّا كان مباشرة أو بصفة غير مباشرة مسؤولا في هذه الثّورة، مشجّعا لها، منظّما لتحرّكاتها، قرّرت السّلطة الإستعماريّة اغتياله وأنهت بذلك مسيرته النّضاليّة في سبيل تونس.

مات الهادي شاكر ولكنّ ثورة التّحرير الّتي ساهم في بعثها وتنظيمها وتوسّعها لم تمت، فبعد عام من اغتياله إعترفت فرنسا عن طريق Mendès France بحقّنا في الاستقلال الدّاخلي الّذي كان خطوة حاسمة إلى الاستقلال الخارجي التامّ في أقلّ من عام.

زعيم لم يأخذ حتّى الآن المكانة التي يستحقّ

انتصرت الثّورة وتولّى التّونسيون شؤون بلادهم بحريّة واستقلاليّة وبنوا دولة عصريّة ذات سيادة واجتهدوا في بعث مجتمع مزدهر متقدّم فتوفّر لكلّ أبناء الشّعب الرّفاهة والكرامة والعزّة.

يرجع هذا الانتصار إلى الشّعب التّونسيّ بأكمله ويرجع إلى قيادته والهادي شاكر أحد أعضائها البارزين له منزلة خاصّة فهو زعيم وطني يشعّ على كلّ البلاد وفي الآن نفسه زعيم ذو قاعدة جهويّة واسعة، وهو زعيم شارك في كلّ المعارك الّتي خاضها الحزب الدّستوريّ ضدّ الاستعمار، وهو زعيم تعاطى السّياسة والحوار والتّظاهر والاحتجاج و في الآن نفسه انخرط في المقاومة المسلّحة وسخّر كل جهده لإنجاحها، هو زعيم قضى جزأ كبيرا من حياته في السّجون والمنافي وضحّى بعائلته وأبنائه و أهمل مصالحه الشّخصية في سبيل تونس.                                                       

لم يأخذ حتّى الآن المنزلة الّتي يستحقّها في الذّاكرة الوطنيّة و لا بدّ من تدارك هذا الأمر اعترافا بالجميل للّذين حرّروا الوطن و تمكينا لشبابنا من معرفة صفحات تونس اللّامعة، صفحات البطولة، صفحات المجد و ﺃخذ بما جاء في القرﺁن :"وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين".

الهادي البكّوش

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.