إن هذا لشيء عجاب: الذكاء الدبلوماسي
تطرّق رئيس الجمهورية في الخطاب الذي ألقاه يوم الأحد 13 أوت الجاري بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة إلى مسالة العلاقات التونسية السورية، فأكّد على أهم النقاط التالية:
- أن الشؤون الخارجية من صميم صلاحياته، غير أن هناك من يريد أن يشاركه فيها، حتى في صلب مجلس نواب الشعب...
- أن العلاقات مع سوريا ليست مقطوعة.
- أن سوريا تعيش حالة حرب، فهل يعقل أن يرسل إليها سفير "لكي يقتل هناك"؟..
- أنه يوجد "قنصل عام" في دمشق للعناية بشؤون الجالية...
- أن المسألة السورية مسألة معقّدة بحكم تدخل العديد من الأطراف الدولية من أمريكيين وروس وأوروبيين فيها...
- أنه ما يزال ينتظر "استنتاجات" الوفود التي سافرت إلى دمشق مؤخرا، غير أنه لا يملك الوقت ليستمع إليها هو شخصيا، ولذلك فإنّه يوكل مهمة الاستماع إليها لوزير الشؤون الخارجية...
ولأن الاهتمام انصبّ بصورة تكاد تكون كلية على مسألتي المساواة في الإرث وزواج التونسية بغير المسلم فإن ما قاله رئيس الجمهورية عن العلاقات مع سوريا، على خطورته، لم يسترع الانتباه، أو على الأقل لم يسترعه بما فيه الكفاية...
لقد حاول رئيس الجمهورية مثلما فعل وزير الشؤون الخارجية قبله أن يهوّن من شأن استمرار العلاقات بين البلدين على حالتها الراهنة، فكرّر التأكيد على أنها ليست مقطوعة وكأن الوفود التي سافرت إلى دمشق لا تعرف أنها ليست مقطوعة... وهذا، في الحقيقة، نوع من الهروب من استحقاق سيحين وقته إن عاجلا أو آجلا، لأن المطلوب ليس إرجاع العلاقات، وإنما "تطبيعها" أي جعلها علاقات طبيعية كأي علاقات بين أي بلدين شقيقين أو صديقين لا سيما من خلال تبادل التمثيل الدبلوماسي على أعلى مستوياته...
والمؤسف أن رئيس الجمهورية برّر عدم إرسال سفير إلى دمشق بحجة متهافتة، فهو خائف على السفير من أن يذهبضحية الحرب القائمة في سوريا، ولكنه مع ذلك يشير إلى وجود "قنصل عام" فيها، وكأن حياة القنصل العام أقل شأنا من حياة السفير... أو كأن الحرب لا تقتل الا السفراء أما القناصل العامون فهم في حصانة منها...
وبقطع النظر عن كل ذلك، فإن المؤسف أكثر هو ان يعتبر الرئيس تحرّك الوفود التونسية في اتجاه دمشق نوعا من "الاعتداء" على صلاحياته أو على الأقل نوعا من المنافسة له في ممارستها، وذلك في الوقت الذي كان يُفْتَرَضُ فيه أن يلتقي هذه الوفود، أو أن يعهد إلى بعض مستشاريه، وهم كُثْرٌ، بالتقائها قبل سفرها، وبعد عودتها من السفر، إن لم يكن للتشاور معها فعلى الأقل من باب "حب الاطلاع"...
إن الحقيقة الجديدة التي ينبغي أن نعيها جيدا هي أن البلاد أصبحت تعيش في ظل دستور جديد، وفي ظل جغرافية سياسية وإعلامية واتصالية غير مسبوقة،وكذلك في ظل علاقات إقليمية دولية سريعة التحوّل، وهذا ما يتطلب اعتماد قواعد وضوابط جديدة في العمل الدبلوماسي التونسي تختلف تمام الاختلاف عن القواعدوالضوابط التي كانت سائدة في ثمانينات القرن الماضي عندماكان الرئيس يشغل منصب وزير الشؤون الخارجية...
وفي رأيي فإننا إن لم نَعِ هذه الحقيقة فإن عملنا الدبلوماسي سيظل عرضة للتداخلات والتجاذبات والصراعات غير المجدية سواء بين مكوّنات السلطة نفسها أو بينها وبين فعاليات المجتمع المختلفة...
ولقد سبق أن نبّهت إلى هذه الحقيقة في مقال نشر على موقع "ليدرز العربية" تحت عنوان "الدبلوماسية الشعبية" في 16/09/2016 أي قبل ما يقارب السنة، حيث قلت بالحرف الواحد "إن المفترض أن يسارع رئيس الجمهورية الذي أوكل له الدستور مهمة "تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي... وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة" بالعمل على وضع ضوابط لهذه الدبلوماسية وإيجاد آلية للتواصل المنتظم والتنسيق المستمرّ وتبادل المعلومات السابق واللاحق بينه وبين الأحزاب حتى يكون الجانبان باستمرار على بيّنة مما ينفع تونس ولا يضرّها".
غير أن هذه الدعوة لم تجد حتى الآن آذانا صاغية، ولذا فإنني أكرّرها اليوم لأنني ما أزال اعتقد أن الدبلوماسية التونسية ينبغي أن تتجاوز الحساسيات،وأن تنظر إلى تحرّكات الفعاليات المجتمعية نظرة إيجابية، وأن تعمل على أن تكون مكمّلة لعملها لا منافسة له...
وتأسيسا على ذلك، فإن الأمر المؤكّد عندي أن "الذكاء الدبلوماسي" كان يُفْـتَرَضُ ألاّ يقود إلى انتقاد التحركات الأخيرة، وإنما إلى اعتبارها نوعا من الرصيد الذي يمكن الاستفادة منه مستقبلا في تيسير عودة العلاقات التونسية السورية إلى طبيعتها. /..
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق