أخبار -
2017.08.19
خارطة طريق جديدة للــدبلوماسية التــونسية
إذا استثنينا فترة الاستقلال وبناء الدولة لم تكن تونس بحاجة إلى دبلوماسيتها بقدر ما هي مُحتاجة إليها اليوم، لمعاضدتها في الخروج من المضيق الذي تعبُره. ولتحقيق هذا الهدف لابُدّ للدبلوماسية، باعتبارها آلية تنفيذ للسياسة الخارجية للدولة، من خطة واضحة تكون مستوحاة من أولويات البلاد الوطنية، وانعكاسا لها.
تفرض التغييرات الإقليمية الأخيرة، وفي مقدمتها الأزمة التي تعصف بالاتحاد الأوروبي وتعطّل مسار التكامل المغاربي، مُعاودة النظر في طبيعة علاقات تونس مع شركائها الإقليميين من أجل ضبط توجهات جديدة في إطار خارطة طريق، تتضمن أولويّات البلاد في الفترة المقبلة. ويمكن القول إنّ الانعطاف المُرتقب في الدبلوماسية التونسية مهّدت له الإصلاحات التي أعادت إلى تلك الدبلوماسية تألّقها وحرفيتها ومكانتها الإقليمية والدولية، خلال السنتين الأخيرتين، بعد محو آثار مرحلة الهواية والتخبّط التي زعزعت الصورة المألوفة عن رصانة الدبلوماسية التونسية.
اختلال في التوازن
يتركّز الانعطاف المُرتقب على منح الأولوية مستقبلا للعلاقات مع القارة الإفريقية وبخاصة في المجال الاقتصادي، بعدما عرفت الشراكة مع الاتحاد الأوروبي اختلالا في التوازن ما فتئ يتعمّق، بفعل تعطّل الإنتاج المحلي وتعثّر الاستثمار. أمّا المجال المغاربي فمازال مُقفلا تقريبا في وجه فرص التعاون والتكامل الإقليمي الصناعي والتجاري. من هذه الزاوية تبرُز إفريقيا (التي نحن جزءٌ منها) مجالا بكرا وساحة مفتوحة أمام الشركات والخبرات الفنية التونسية، مثلما برهنت على ذلك التجربة المغربية، التي حازت قصب السبق في اكتشاف خصوبة إفريقيا جنوب الصحراء، وقد كسب المغاربة الكثير بفضل ذاك السبق. وفي هذا الإطار سعت الندوة السنوية الأخيرة لرؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية إلى صياغة خارطة طريق للسنوات المقبلة، انطلاقا من تشخيص الواقع الراهن.
وقد كانت تونس من أوائل البلدان التي اهتمّت بالمجال المُمتدِ جنوب الصحراء منذ ستينات القرن الماضي، إذ قام الرئيس بورقيبة بجولة في ثمانية بلدان في غرب إفريقيا استمرت خمسة أسابيع. غير أنّ ذلك الاهتمام لم يلبث أن خفت في الفترات اللاحقة، إذ أولت تونس الاهتمام الأكبر لأجندا الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (تمّ التوصل إلى اتفاق شراكة بين تونس والاتحاد في 1995، وكان الأوّل من نوعه مع بلدان جنوب المتوسط). مع ذلك كانت عناصر التاريخ والجغرافيا والثقافة تُغري بالاتجاه جنوبا، مع الإبقاء في الوقت نفسه على علاقات متميزة مع الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أنّ تونس أهدرت وقتا طويلا وثمينا بعد الثورة، فإنّ التدارك مُمكن اليوم إذا ما حدّدنا أهدافنا بوضوح وأعددنا العُدة اللازمة لتحقيقها. وعدّد السفراء الذين تحدّثوا في الندوة السنوية الأخيرة لرؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية الفرص التجارية المُتاحة لتونس في بلدان ناهضة تُحقق نسب نموّ عالية.
قوّة صاعدة
واللافتُ للنظر أنّ تلك البلدان لم تعُد عالة على المعونات الغربية، وإنّما أصبحت اليوم دولا صاعدة. بل يمكن القول إنّ البلدان الإفريقية هي التي «تساعد» البلدان الغربية اليوم وليس العكس، إذ أنّ التحويلات المالية من إفريقيا إلى الخارج وصلت إلى 60 مليار دولار، بينما لم يتجاوز حجم المعونة الدولية المقدّمة للتنمية في القارة الإفريقية 50 مليار دولار.
وكــشـف تقـرير أصدرتـــه مـؤخرا مجـمـوعـة «Group Consulting Boston» الأمريكية أنّ لدى الدول الإفريقية ميزة لا توجد لدى غيرها، وهي أنها ستُشكل سوقا واسعة في المستقبل، إذ سيبلغ عدد سكانها 1.1 مليار مستهلك بحلول سنة 2020، مع رغبة كبيرة في الاستهلاك والإنفاق، خصوصا من أبناء الطبقة الوسطى التي يتراوح دخلها الشهري بين 50 دولارا و7000 دولار. ويُعتبر هذا التصنيف أكثر صرامة من معايير البنك الإفريقي للتنمية الذي يُصنِّفُ كل من يتجاوز دخلُهُ اليومي دولارين في خانة الطبقة المتوسطة.
انتشار محدود
هناك مداخل متعدّدة لوضع قدم راسخة في المجال الإفريقي جنوب الصحراء، وهو أمر يحتاج إلى التكامل بين دور البعثات الدبلوماسية من جهة، ومبادرات القطاع الخاص من جهة ثانية. وبرهنت تجربة شركة «سوروبات»، التي عرض صاحبُها بعضا من نجاحاتها أمام رؤساء البعثات الدبلوماسية، على أنّ المؤسسات التونسية ومراكز الدراسات ومكاتب الاستشارات الهندسية والمالية والقانونية وسواها، يمكن أن تنافس كبريات الشركات الغربية وتتفوّق عليها. ولذا ينبغي أن تبادر الشركات الخاصّة بالمشاركة في طلبات العروض والمناقصات في البلدان الإفريقية.
كما أنّ «الخطوط التونسية» ضاعفت رحلاتها نحو العواصم الإفريقية على الرغم من الصعوبات التي تمرّ بها. ولديها حاليا خمس تمثيليات في القارّة، لكنه رقم غير كاف إذا ما أدركنا الدور المحوري للنقل في تعزيز الروابط التجارية بين تونس وبين تلك البلدان الإفريقيّة. ولا ننسى على سبيل المثال ما حققتهُ «الخطوط المغربية» على صعيد إقامة شبكة خطوط جوية تخدم استراتيجية التصدير.
في هذا السياق يُشكّل ضعف الشبكة الدبلوماسية في إفريقيا (افتُتحت سفارة بواڤدوڤو وستفتح سفارة في نيروبي) عقبة حقيقية أمام تعزيز حضور تونس الاقتصادي في القارة إذ لا يتجاوز عدد السّفارات التّونسيّة في البلدان الواقعة جنوب السّاحل والصّحراء ثماني سفارات. كما أنّ ضآلة الإمكانات المتاحة للدبلوماسية التونسية، تجعل حركتها مُقيدة وتأثيرها محدودا، وهو ما دفع ممثّل الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة إلى التركيز على نقطة الضعف هذه في كلمته أمام ندوة رؤساء البعثات الدبلوماسية.
ومن المداخل المهمة أيضا الانضمام إلى مجموعة «كوميسا»، التي قبلت بتونس عضوا جديدا فيها خلال دورتها الأخيرة، وهي مجموعة تتألف من 19 بلدا عضوا (480 مليون ساكن)، مع نسبة نمو تُقدَرُ بـ6 في المائة، علما أنّ مصر على سبيل المثال ضاعفت نسق التصدير أربعين مرة في أعقاب انضمامها إلى «كوميسا». وحصلت تونس أيضا على مقعد عضو مراقب في «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» المعروفة بـCEDEAO، وهي خطوة غير بسيطة. هذا بالإضافة إلى الإمكانات الزراعية الضخمة في القارة، والتي يمكن لتونس بخبرة مؤسساتها العمومية والخاصة في هذا القطاع، أن تُقدّم الكثير للبلدان الإفريقية وتكسب منها أيضا الكثير.
فرص جديدة
وعلى الصعيد المؤسسي، يُلاحظ أيضا أنّ هناك فرصا لتعزيز حضور تونس إفريقيّا، فيكفي إلقاء نظرة على أجندا الاتّحاد الإفريقي خلال الفترة المقبلة لندرك أهميّة تلك الفرص، ومنها الاجتماع التشاوري حول التدفّقات المالية غير الشرعية في أفريقيا، المقرّر لشهر أكتوبر المقبل، واجتماع لجنة المديرين العامين للإحصاء المقرّر لشهر نوفمبر، واجتماع ثالث حول الحوكمة الرشيدة في إفريقيا مقرّر لشهر نوفمبر، واجتماع رابع حول منطقة التبادل الحر القارية بين أواخر أوت وبداية سبتمبر، بالإضافة إلى العمل على فوز الأستاذة هاجر قلديش المرشحة لعضوية لجنة الاتحاد الإفريقي للقانون الدولي.
وسيتعيّن على تونس أيضا متابعة خطوات تركيز مقرّي الاتحاد الإفريقي للإحصاء والمنظمة الإفريقية للملكية الفكرية في تونس. والطريق إلى تركيز هاتين المنظمتين ليس هيّنا، فهناك حاليا منظّمتان متخصّصتان في الملكية الفكرية الأولى للبلدان الإفريقية الناطقة بالفرنسية ومقرّها في الكامرون، والثانية للبلدان الناطقة بالإنكليزية مقرّها في زامبيا.
ومن المواعيد السياسية المهمّة بالنسبة إلى تونس قمّة الاتحاد الإفريقي في جانفي المقبل، علما أنّ شعار السنة القادمة إفريقيا سيكون مُركّزا على مكافحة الفساد، كما ستُعقد قمة مشتركة بين الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي في 17 نوفمبر المقبل بأبيدجان.
من هذا الاستعراض السريع للمشهد الإفريقي المُتحوّل، يتأكّد أنّ علينا ليس فقط إيلاء الأولوية لعلاقاتنا مع القارة الإفريقيّة في المرحلة المقبلة، وإنّما رُبما إعادة اكتشاف إفريقيا..
رشيد خشانة
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات