في مُعاصرة عَلَمٍ زيتونيّ, الشيخ محمد بشير النيفر
في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية في تونس» يصف الشيخ الفاضل ابن عاشور نظام الحماية وما اعترى المجتمع التونسي نتيجة اكتساح الجيوش الفرنسية أراضيه بأنه نكبة بغيضة اصطبغت بشعور القهر المسلّط على الدولة والمجتمع. لكن الشيخ يسارع بالقول إنّ تلك النّكبة كانت إيذانا ببداية تاريخ جديد هُدِّمت فيه معالم وسُدَّت فيه منابع إلى جانب نَواحٍ أخرى تغيّرت وجهتها وتحوّلت مجاريها.
على هـــذا فإن نخـــب تونس العالمة عاشت ذلك القرن باعتبـــاره ناطقا بتضاؤل «شــأن الشــرق الفاتر أمام صولة الغرب الناهض».
في هذا السياق الملتبس ضمن أفق كارثي وُلِد أحد أعلام الزيتونة: الشيخ محمــد البشير النيفر (1889-1974) في وسط عائلي محافظ ليَشْهَد سلسلةً من التّحوّلات الثقافية والاجتماعية والسياسية غير المسبوقة.
أبــرز ما حملته معهـــا هذه المرحلة ما أفضت إليه في المستوى الرّمزي من بروز شخصية المثّقف منافسا فكريّا وسياسيّا قويّا لما كان يمثّله الفقيه في البناء التقليدي بتونس.
لقد عاين الشيخ انهيار التوازنات القديمة بمؤسّساتها التي لم تَقـْوَ على مواجهة التّحديّات الجديدة ما كان منها ذاتيا أو وافدا. لذلك حرص على التّصدّي لمنافسة المثقّف الذي لا يعنيه الماضي إلا بصفته تراثا يمكن له أن يستبيحه ويتصرّف فيه دون أي التزام. هذا ما يفسّر حرص الشيخ النيفر على أن يكون عالِما - شاهدا ومختلفا نوعيا عن الفقيه رغم انتمائهما إلى مؤسّسة واحدة. نفس هذا المسعى مكّن للشيخ رؤيةً مميّزة لمؤسسة الزيتونية إذ اعتبرها قوّةً صلبة توازي السلطة السياسية الحديثة المدعومة بالمثقّف الصاعد. شرع في حفظ القرآن في المنزل على جدّه ولم يتجاوز بعدُ الخمس سنوات لينتقل بعد ذلك إلى الكُتّاب متمّا حفظ الكتاب العزيز ولـمّا يبلغ بعد سنواته العشر. بعد ذلك تدرّج في الجامع الأعظم فجلس إلى شيوخ مختلفين ليدرس عليهم الكتب المقرّرة في اللغة والفقه والبلاغة والأصول والقراءات ويتحصّل سنة 1905 على التّطويع مع متابعة لدروس الخلدونية في التاريخ والجغرافيا والحساب. من أشهر من أخذ عنهم من أعلام الزيتونة الشيوخ: محمد النخلي ومحمد الخضر حسين ومحمد الطاهر ابن عاشور وعثمان بن المكي ومحمد الصالح الشريف. تولّى التّدريس من الطبقة الثانية سنة 1912 فالأولى سنة 1914 ثم تحصّل على رتبة الأستاذية بمقتضى تغييرات قانون جامع الزيتونة الصّادر سنة 1935. كان من أبرز رفاقه في مرحلتي الدراسة والتدريس إضافة إلى شقيقه الشيخ إبراهيم الشيخان المالكيان محمد العزيز جعيط والطيب سيالة مع الشيخ الحنفي محمد عباس.
درّس الشيـــخ النيفـــر إلى جـــانب الجامع الأعظم بمدرســـة ترشيـــح المعلمين علمَ الكلام والفقه والإنشاء لينتقــــل بعدها مدرّسا بالصادقية فيما بين سنة 1929 حتى 1945.
أُنيطت به مهمّة المشاركة في تنظيم الكتب بجامع الزيتونة سنة 1914 ثم صار عضوا بالمجلس المختلط العقاري سنة 1926 ليُعَيَّنَ مفتيا فقاضيا على المذهب المالكي سنة 1943. طلب إعفاءه من هذه الخطط وأعفي منها سنة 1956. عيّنه رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة في مارس 1957 إماما خطيبا بجامع الزيتونة فباشر الخطة إلى سنة 1960 عندما رفض اعتماد الحساب في تحديد دخول رمضان وشوال.
انقطع الشيخ بعد هذا التاريخ عن كل نشاط عام فلازم بيته مهتمّا بشؤونه الخاصّة وأذكاره منكبّا في الجانب الأوفر من وقته على مشاغله العلمية مطالعا ومدوّنا بعض المسائل منقّحا ما كان له من الرسائل ومستقبلا بعض الخُلَّص من أقرانه وتلاميذه. فضّل رفض دعوة عميد كلية الشريعـــة وأصول الدين بتونس للانضمام إلى الهيأة العليا للتدريس والتأطير.
ترك جملة من الآثار القلمية التي ما زالت في غالبيتها مخطوطة منها: رجال القضاء والفتوى في حاضرة تونس من المالكية والحنفية في أربعة أجزاء. له تعاليق على أبواب كثيرة من صحيح البخاري والموطّأ ونقد لما يقارب ثلث تفسير الشيخ محمد مصطفى المراغى وبحث في مسألة نزول عيسى كما له ورقات من تاريخ قضاء الأهِلَّة بتونس وله رسالة في التّوسّل وديوان شعري.
الشيخ النيفر (الثاني من اليمين) مع الشيخ محمد عباس، شيخ الإسلام الحنفي (الأول من اليمين) وبجانبهما الصادق المقدم ثم الأول من اليسار القاضي أحمد بن سدرين.
طبع له «القصص في القرآن» وديوان خطب جُمَعية من بينها ما ألقاه على منبر جامع الزيتونة وله تاريخ «أسرة النيفر» ونشرت له مجموعة مقالات في مجلة المنار المصرية وجملة فتاوى نشرت بعضها في المجلة الزيتونية وجريدة الصباح. نشرت له مجلة جوهر الإسلام فى المجلد 19 محاضرة عن «الشعور الديني وأثره في بذل النفوس والمال» وقد كان ألقاها بطرابلس الغرب سنة 1963.
جملة مواقف الشيخ النيفر تعبّر عن استقلاله إزاء السلطة السياسية أيا كانت وعن ضرورة الذّود عن المؤسّسة الزيتونية لوثيق صلتها بالوضع الاجتماعي السياسي ولتعبيرها عن الخصوصيات الثقافية والعقدية للمجتمع. هو لذلك لم ينخرط في أحد المسلكين اللذين تحدّث عنهما الشيخ ابن عاشور في كتابه «الحركة الأدبية والفكرية» بعد وقوع نكبة الحماية. لقد تجنب أن يكون مع العنصر المستسلم الذي وطَّن النفس على الاقتناع بتفوّق الدخلاء وأخضــــع حياته لسلطان حياتهم ولا مع العنصـــر المتبرّم الذي استحــــكـــم في نفسه السخط واليــــأس فرأى في هذا الطّور مظهرا من مظاهر فناء الدين.
صورة عائلية لآل النيفر بفروعها الثلاثة، العالمة والوطنية والتجارية، بمناسبة تولي الشيخ البشير النيفر (وسط الجالسين) خطة الإفتاء سنة 1940
خارج هذين المسلكين كان الشيخ البشير النيفر يتحرّك ويكتب ويعبّر عن مواقفه العديدة: استقال قبل الاستقلال أكثر من مرّة من الإفتاء وكذلك من القضاء نتيجة ما صدر عن الباي من مطالب من المجلس الشرعي مما اعتبره الشيخ تجنّيا واستهانة بالمؤسسة وقيمتها العلمية والاجتماعية. بعد الاستقلال وعندما أحيل مفتي الديار التونسية الشيخ العزيز جعيط على المعاش في أفريل 1960 لغضب الحكومة عليه عندما لم يستجب لطلب إلقاء كلمة في الإذاعة في إباحة فطر رمضان للعملة والموظفين قياسا لهم على المجاهدين بأنفسهم الذين رخّص لهم الرسول عليه السلام في الفطر بجامع الجهاد في كلّ. بهذه المناسبة دعاه كاتب الدولة للرئاسة والدفاع الوطني، الباهى الأدغم، لقبول خطّة الإفتاء برغبة من رئيس الجمهورية. امتنع الشيخ عن القبول لجملة أسباب من بينها قوله «لو استفتتني الحكومة فيما لا يتفق واعتقادي فإنّي لا أساير رغبتها و لو اُستفتاني الشعب فإني لا أفتي إلا بما اعتقد أنه الحقّ وإن خالفتُ ما عليه الحكومة».
من مواقفه الأخرى الدّالّة على وعيه بما يهدّد حاضر الأمة وفاعليتها ومستقبل قيمها من مخاطر نذكر فتواه في حرمة التّجنيس بجنسية غير الجنسية الإسلامية كالجنسية الفرنسية حيث حكم بمقتضاها في مجلس التعقيب بالمحكمة الشرعية مستندا إلى جملة من النّصــــوص والمراجع المعتمدة. مؤدّى هذه الفتوى حرمان المتجنّس بالجنسية غير الإسلامية من ريع الوقف الجــاري على المنهج الشرعي.
له ثانيا مراسلة مع الرئيس بورقيبة تتعلّق بحلّ الأحباس العامة والخاصة سنة 1957. ممّا جاء فيها: «لا يخفى عليكم أن للوقف صبغة دينية فيجب الاحتفاظ به وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وأخذ به المسلمون في المشرقين والمغربين وقام بكثير من المصالح العامة التي يلزم الدولة أن تقوم بها من شؤون الدين والدنيا ...ومن الميسور على حكومتكم أن تجمع بين احترام الأوقاف كما يلزم شرعا وبين الانتفاع بها في كثير من المصالح الدولية كمصلحة الريّ ومصلحة الجندية ومصلحة الصحة وغيرها من المصالح التي لا تزال بعض أوقافها موجودة إلى اليوم وبالاحتفـــاظ بما بقي منهــــا واستثماره بالطرق المشروعة يكون لها الأثر الملمـــوس في التخفيف من كثير من أبواب الميزان».
في توديع الشيخ البشير المتجه إلى الحج (الثاني من اليمين) سنة 1947 وهو يسلم على السيد الحبيب الجلولي وزيرالعدلية بصحبة الوزير الأكبر السيد صلاح الدين البكوش الذي يسلم على الشيخ إبراهيم النيفر
أهمية هذه الإضاءات الخاطفة لهذا العَلَم الزيتوني هي شهادته المُجَسِّدة لجانب من الرهانات المُفَوَّتَة قبل استقلال تونس وبعده خاصّة. في هذا نقتصر على مـــلاحظتين: أولاهمـــا تتعلّق بمكانة النخب المعاصرةفي تونس. ما تركه الشيخ في مذكّراته المخطوطة خاصّة منها مراسلاته مع الرئيس بورقيبة الذي تربطه به علاقة خاصّة يلقي ضوءا كاشفا على طبيعة النظام السياسي الذي عرفته تونس بعد الاستقلال. لقد كان لهذا النظام إيجابيات لكنه اختار شمولية كاملة أدّت إلى تهميش النخب وإلى قطيعة تلغي الماضي ومؤسّساته من أجل البناء الجديد. رسالة الشيخ النيفر السالفة عن الأوقاف تعبّر عن أهمية مشـــــاركة النخبة في الشأن العام وعن ضرورة المحافظه على جوانب أساسية من البنية الاجتمــــاعيــــة القديمة المتوفّرة للمجتمع الأهلي بتطويرها وإصلاحها لقدرتها على الاضطلاع بأعباء لم تتمكـــن الدولة المعاصــــرة أن تتحملها في أكثر من مجال.
الملاحظة الثانية جزئية وشخصية لكنها متواصلة مع السابقة. إنّها تتصل بتكريم بلدية مدينة «المرسى» للشيخ النيفر وزميله الشيخ العزيز جعيط بعد وفاتهما. أطلقت اسميهما على شارع خلفي بالحيّ الذي كانا يقطنانه في تجاور مؤكِّدٍ مودةً جمعتهما عقودا. حمل نصف الشارع الأيمن الأقرب إلى منزل شيخ جعيط اسمه بينما سُمّي نصف الشارع الأيسر المحاذي لمنـــــزل الشيخ النيفر باسمه. بتولي الشيخ كمال الدين ابن الشيخ جعيط الفتوى سنة 1998 اختفى اسم الشيخ النيفر من النصف الأيسر ليصبح كامل الشارع باسم شيخ واحــد. هي إشــــارةٌ بليغة بأن الأعلام الحـريصين على استقلالهم لا يستحقون تكريما خاصا..
احميدة النّيفر
قراءة المزيد: الشيخ محمّد البشير النيفر: كـــان فاضلا مــن الصالحين
- اكتب تعليق
- تعليق