سيدي إبراهيم الرياحي ( 1766 – 1850 ): عالم سُنِّيٌّ فريد زمانه
سلك الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي (أبو اسحاق بن عبد القادر الرياحي) سبيلا في الحياة مثيرا بحق. ذاع صِيتُه وعلا شأنُه خلال الفترة الممتدّة بين مولده في سنة 1180 هجري (1766م) بتستور في أسرة متواضعة؛ وسطوع نجمه في سماء الفكر، وسموّ رتبته في الخلق، لا فقط باعتباره قطبا لنخبة من الحاملين للِواء العلم والعِرفان وقد تولّى خطة قاضي القضاة المالكيين، بل لكونه كذلك من أجَلِّ أولياء الحاضرة الصالحين، عظيم القدر، رفيع المنزلة. لا شَيْءَ على الإطلاق كان يوحي بداية بأنّ النجاح سيكون حليف هذا الذي هاجر إلى الحاضرة، عاصمة الحسينيين، صاحبة الإباء والفخار. ولم تكن البدايات رخِيَّة اللبب بالنسبة إليه، فلم يخْلُ مقامه من عسر وضيق حال.
يذكر بن أبي ضياف وآخرون ممن ترجموا للشيخ من أمثال حفيده عمر الرياحي، صاحب تعطير النواحي ( تونس 1902 - 1320)، وكذلك المؤرخ الطاهر الجزيري، مؤلف رسالة قيمة حول حياة سيدي إبراهيم الرياحي وأعماله، يذكرون أنّه رغم تألقه في طلب العلم، وما حباه به كبار شيوخ الزيتونة من تقدير، ونبوغه في مجال التدريس؛ وبعد نيّف وعشرين سنة من قدومه، سئم ضيق العيش والوحدة في الدار الصغيرة التي كان يسكنها طيلة فترة الدراسة. وعزم على مغادرة الوطن، وحَطِّ الرحال في بلاد الله الواسعة حيث تحسن وفادته ويطيب عيشه. هل كان فعلا مصمما على السفر، أم أنه كان يريد جلب عطف أصحاب النفوذ حتى يشفقوا لحاله؟ وبلغ ذلك للوزير العظيم الشأن في عهد الباي حمودة باشا، يوسف صاحب الطابع نصير العلماء، فأسند إليه خطة التوثيق، واشترى له دارا بكل ما يلزمها من ضرورات، وأعطاه نفقة تكفيه للتزوج وإصلاح الحال. فتهيأت بذلك لهذا الشيخ الشاب كل الظروف المادية للنجاح في الحاضرة، وكان نصيبه منه وفيرا والفرص متاحة.
سفارة لدى سلطان المغرب
سنحت الفرصة الأولى في سنة 1804 على غَيْر توقع. لقد وقع تكليفه بسفارة لدى سلطان المغرب على عهد الربيع مولانا سليمان (1792 - 1822 ). جرت العادة حتى ذلك الوقت على أن يوكل الباي لأفراد حاشيته وأعيان مماليكه بالخصوص القيام بسفارات إما للباب العالي، وإما لدى الدول الأوروبية الكبرى. كانت البلاد التونسية حينذاك في مسغبة، وكانت حروب نابليون تَحُول دون شراء القمح من أوروبا. فكُلِّف الشيخ إبراهيم الرياحي بجلب الميرة ( الحبوب ) للإيالة لسد حاجة الأهالي منها. إلا أن الأمور كانت على قدر من التعقيد مردُّه الى ما كان يتردد في قصر باردو من كلام مؤتاه أن سلطان المغرب لا يسمح بخروج الحبوب من السلطنة . فكان لا بد من الدخول في مفاوضات صعبة والذهاب في ذلك بحذر شديد؛ فليس من الهين مجادلة سلطان واسع الاطلاع، ومحاطا بجمع من العلماء وكتبة من أصحاب الجدل، لهم مشاركة جيّدة في المجالس يتحاورون فيها ويتناقشون في الأدب والفقه والدين، وتعلُّقٌ بنقاوة اللغة العربية. فلا مندوحة والحال تلك من الاعتماد على شخص متمكِّن، جدير بأن يكون موضع اعتبار وتقدير في المسائل الأكاديمية، وله من سعة المعارف ومن حسن البلاغة ما به يستطيع التأثير على السلطان وعلى الجماعة من حوله، ولا يمكن الاعتماد على وزير من المماليك قد يجد صعوبة وحرجا في وَضْعٍ كهذا. فصرَف الباي نظره إلى علماء الزيتونة، وكانوا على صلة قوية بحاشيته باعتبار أنّ جل الكتبة في ديوانه كانوا من قدماء طلاب تخرجوا على أيدي شيوخ الجامعة الزيتونية. وبعد أبحاث ومشورات، استقر الرأي على إسناد هذه السفارة الجليلة للشيخ الرياحي. ترى! لماذا وقع الاختيار على شخص يُدرِّس علوم الدين واللغة العربية والأدب، وله في ذلك شهرة وصيت، لكنه كان خالي الوفاض من كل مهمة رسمية ذات شأن؟. فلربما حصل شيء قاهر جعل الأمور تسير على هذا النحو!
كان الشيخ إبراهيم التقى في سنة 1801 أحد مريدي سيدي أحمد التيجاني ( 1814- 1737 ) صاحب الطريقة التيجانية في التصوف، وهو الشيخ علي حرازم من المغرب. كأن سيدي أحمد التيجاني يقيم في مدينة فاس، وهو جزائري الأصل حلّ بالمغرب لدى السلطان لاجئا. وكانت لإبراهيم الرياحي مشاركة في الحركة الصوفية على عادة جل علماء زمانه، وكان من مريدي الولي الشيخ سيدي بلحسن الشاذلي بالخصوص، لكنه وجد ضالته في الطريقة التيجانية نظرا لتجردها، ولما تنطوي عليه من روحانية، ولخُلوِّها من مظاهر الإرهاص والانتشاء. وتعَلّم قواعد الطريقة وأتقنها وسرعان ما أصبح من أبرز أتباعها وحامي ذمارها في الإيالة، فجمع بين مناقب العالم السني المالكي والانتماء إلى طائفة لها شأن ومنزلة في رحاب السّلْطنة المغربية. كان الشيخ إبراهيم خلال مقامه بالديار المغربية محطَّ أنظار الجميع بفضل فصاحته وحسن بيانه وأناقة مظهره، فلم يلبث أن نال منتهى المرام. لقد تركت تلك المبارزات الشعرية والمنافسات اللغوية التي تخللت المفاوضات أطيب الوقع في نفس السلطان ونالت رضاه. ومشى عالمُنا التونسي في أثناء مقامه بالمغرب لدار سيدي احمد التجاني بفاس زائرا، والتقى علماء المغرب ومثقفيه من مختلف المدن فقوبل بوافر الاجلال والإكرام، وقضى وطره من الزيارة وكان بها قرير العين. ووصلت شحنة الحبوب.
الشيخ إبراهيم الرياحي مدرّسا
رجع الشيخ الرياحي بالسلامة إلى قراره، متصدّرا للتدريس كعادته ومواصلا لجهوده مناصرا طائفته. كان جام نشاطه الفكري قائما على النقل شفاهة، أسوة بعلماء زمانه. كان يخصص جُلَّ وقته لدروسه التي كان يلقيها في الزيتونة وفي غيرها من الجوامع وأماكن الصلاة الأخرى أو المَدْرسات، قبل أن يقر له القرار في سنة 1814 بالجامع الذي بناه وليُّ نعمته يوسف صاحب الطابع بالحلفاوين، بمعية جل شيوخ الزيتونة. كان الشيخ الرياحي يخصّص جل وقته للتدريس كما بَيَّنَّا، متنقلا بين علوم مختلفة، كما هو حال معظم المُدرسين أمثاله، لكنه كان مُقِلًّا في فن التدوين والكتابة ( بعض الرسائل ، نقل بعض الإجازات في التدريس وبعض المآثر والأشعار والمتون، بعض النصوص على سبيل التذكار). ظاهرة النقل الشفوي هذه كانت منتشرة على نطاق واسع بين رواة الملاحم والبطولات في عهود الإسلام الأولى، وذلك قبل ظهور الطباعة في سنة 1860.
كان نظام التدريس بجامع الزيتونة تقليديا يغلب عليه التكرار والحفظ، لكن الشيخ إبراهيم الرياحي كان يتّبع طريقة مبتكرة على كيفية تبعث النشاط في النفس، فازدحم الطلاب على دروسه، وقد تألق كثير من هؤلاء فيما بعد، وتكونت منهم نخبة لامعة من فحول علماء الدين وأهل الفكر والمتضلعين في السياسة من أمثال ولديْهِ الطيب وعلي، ومحمد بيرم الرابع، والطاهر ابن عاشور، وأحمد بن ضياف، وسالم بوحاجب، ومحمد العزيز بوعتور وغيرهم.
(النصّ الأصلي بالفرنسية بقلم الدكتور محمّد العزيز ابن عاشور)
- اكتب تعليق
- تعليق