نهاية داعش لا تعني نهاية الحركات الجهاديّة
مع تحرير القوات العراقية للموصل من قبضة داعش وقرب تحرير الرقة، يُطرح التساؤل حول مستقبل الإرهاب ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية، ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما أيضا في العالم بأسره. فانتهاء الحرب على داعش يفرض واقعا جديدا معقدا في المنطقة لا يؤذن بأي حال من الأحوال بانحسار ظاهرة الإرهاب عما قريب، بما أن الأسباب والأزمات التي مهّدت لوجوده لا تزال هي نفسها. ولعل المتوقع هو أن يأخذ أشكالا جديدة لتظهر تنظيمات أخرى قد تكون أكثر دموية منه.
عودة الخلايا النائمة إلى النشاط في العراق
توشك القوات العراقية على طرد داعش بالكامل من العراق، بفضل تضافر جهود الجيش العراقي والحشد الشعبي والقصف الجوي لقوات التحالف الدولي ضد الإرهاب. كما تمت محاصرته من كل جانب بإغلاق كل المنافذ الحدودية بين العراق وسوريا حتى لا يتقهقر الى مناطقه في سوريا. وبذلك، فإن مسألة سيطرته على الأراضي العراقية لم تعد إلا مسألة وقت قصير. ولكن هل يعني ذلك حقا أن نفوذ التنظيم انتهى بالفعل في العراق؟
لا يبدو الأمر كذلك فجيوب داعـــش لا تزال ناشطة في المناطق السنية مــن البلاد، وخاصة المنــــاطق ذات الطابع الصحراوي مثل الأنبار أو الريفي مثل ديـــالى، وهـــو ما يفســـر الهجمات المتكـــررة على هـــذه المناطق رغم تحريرها من قبـــل داعــش.
ففي ديالى مثلا والتي تم تحريرها قبل عامين من قبضة التنظيم، عادت عناصره إلى النشاط فيها، حيث قامت مؤخرا بعمليات اختطاف وقتل ضد قوات الأمن، كما أنشأت تحالفات جديدة مع المجموعات المتطرفة القديمة الموجودة هناك من أنصار «القاعدة» ومجموعات جهادية أخرى. وحسب تصريح لضابط في الاستخبارات العراقية لموقع «نقاش»، فإن مقاتلين عربا وأجانب من عناصر داعش عادوا إلى الاستقرار في ديالى، بعد هروبهم من الموصل، بغرض تكوين خلايا نائمة واستعمالها لشن هجمات على الجيش وعلى قوات الحشد الشعبي. الوضع في صحراء الأنبار لا يقل خطورة عما يحصل في ديالى، إذ تشكلت خـــلايا نائمة لعناصر داعش تقــــوم مــن حيــن لآخر بمهاجمة القوات العراقية أو بعمليات انتحارية في مخيمات اللاجئين. كذلك، فإن عناصر من التنظيم تسللت بين اللاجئين من الحرب في الموصل ومن غيرها من المحافظات العراقية ولن تتوانى هذه الأخيرة عن تنظيم نفسها من جديد والقيام بتفجيرات وعمليات انتحارية لزعزعة الاستقرار الهشّ في البلاد، متحججة بمقاومة «المد الشيعي». بالتالي، فإن استراتيجية داعش الجديدة تنحو أكثر نحو التخفي والقيام بعمليات نوعية وعدم خوض معارك مباشرة ومكشوفة، مما قد يعقّد أكثر عمل القوات العسكرية العراقية في كشفها.
من جهة أخرى، فإن انتهاء الحرب على التنظيم وتحرير كل الأراضي العراقية، سيترك وضعا معقدا على الأرض لأنه سيجعل كل الخلافات السياسية بين مختلف الأطراف تطفو على السطح من جديد، فالسنة الذين تم تحرير أراضيهم من قبل الحشد الشعبي الموالي لإيران، لن يقبلوا أن يعود الوضع كما كان عليه سابقا قبل داعش وأن يستحوذ الشيعة على كل المزايا وعلى أغلب المناصب السياسية في الدولة والجيش والأمن. والأكراد في الشمال يستعدون بدورهم للاستقلال عن الحكومة المركزية، حيث من المنتظر أن ينظّموا استفتاء حول الاستقلال في 25 سبتمبر المقبل، كما أنهم يرفضون التخلي عن المناطق التي حرروها من قبضة التنظيم وإرجاعها إلى حكومة بغداد، مما يهدد بخلق صراعات سياسيـــة بين الطرفين.
والوضع يتعقد أكثر مع المصير المجهول لقوات الحشد الشعبي ما بعد القضاء على داعش، فهذه الفصائل والميليشيات التي تدين في معظمها لإيران أصبح من العسير على الحكومة العراقية التحكم فيها، وإن بادرت بإدماج بعضها في الجيش العراقي ولكن الأغلبية تبقى خارج سيطرتها، كما أنها تتلقى أوامراها مباشرة من إيران. وهذه الميليشيات لا تلتزم بالقتال فقط فوق الاراضي العراقية وإنما تتجاوزها أيضا للمشاركة في الحرب في سوريا، في محاولة لتحقيق الحلم الإيراني بفتح طريق من إيران إلى سوريا مرورا بالعراق. طبعا هذا الوضع لن يرضي الحلفاء الآخرين للحكومة العراقية مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تضغط في اتجاه التقليص من النفوذ الايراني. كما أنه لن يرضي أيضا تركيا والسعودية. كل هذه العوامل قد تقود إلى تأجيج صراع طائفي جديد في المنطقة يكون الإرهاب أحد أسلحته الفتاكة.
عدم التّوافق الدولي حول حلّ الأزمة السّورية المالية
في سوريا، دحر داعش لا يعني أيضا نهاية الحرب، فالأطراف السياسية المتدخّلة في المسألة السورية لا تبدو متّفقة حول حلّ للأزمة، حيث تستمرّ التجاذبات بين معسكر روسيا – إيران المساند للنّظام السوري ومعسكر الولايات المتحدة – تركيا - السعودية المساند للمعارضة السورية. ولئن جمعت الحرب على داعش المعسكرين، فإنّ نهايتها ستؤجّج الخلافات بينهما من جديد. فالحكومة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب تسعى جاهدة إلى فرض حلّ للأزمة السورية يتّفق مع مصالحها بغضّ النظر عن موافقة الرّوس أم لا. وقد بدأت فعلا في هذا المسار من خلال محاولات إزاحة الأسد، إذ أنها لا تنفكّ تنددّ باستعمال النّظام للسلاح الكميائي ضدّ بعض الفصائل المقـــاتلة وتحــــديدا «فيلق الرّحمن» بالغوطة الشرقية لدمشق، في حين تعتبر روسيا أنّ الشّريط الذي بُثّ حول هذا الموضوع مفبرك وأنّ «هناك حملة إعلامية جديدة تزعم استخدام دمشـــق سلاحا كميائيّا قد بـــدأت»، كما عبّرت عن ذلك المتحــــدّثة باســـم وزارة الخارجية الرّوسية، ماريا زاخاروفا، في إشارة للضّغط الأمريكي لتنحية الأسد. وقد توقّع الرّوس أن تستعمل الولايات المتحدة هذه الذّريعة للتدخل مباشرة في سوريا وتنحيته. ولو حصل ذلك، فمن المحتمل أن يتكرّر في البلاد السيناريو العـــراقي ما بعد سقـــوط صـــدام حسين، مما يزيد في فرص انتشــار الإرهاب.
من جانب آخر، فإنّ طموح أكراد سوريا بالاستقلال يلقى حاليا مواجهة شرسة من قبل تركيا التي تعمل على استعادة المناطق التي سيطرت عليها قوّات سوريا الديمقراطية (ذات الغالبية الكردية) في شمال البلاد. تركيا التي لم تستسغ تسليح الأمريكان للأكراد لمواجهة داعش تنوي مع قرب انتهاء الحرب على التنظيم قطع الطريق أمام أي نوايا استقلالية كردية. ويبدو أنها تحظى في ذلك بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا اللتين ترفضان تقسيم سوريا.
في ظلّ هذه الظّروف، هل سيسكت الأكراد بعد أن مثّلوا الخصم الأساسي لداعش على الأرض والقاهر له؟ وهل سيقبلون بإرجاع الأراضي التي سيطروا عليها إلى الحكومة المركزية ما بعد الأزمة السورية؟
الأكيد هــو أنّ عـــدم الاستجــابة إلى الطّموحات الاستقلالية للأكراد سيكون عاملا إضافيا لزعزعة الاستقرار في سوريا الجديدة وقد يخلق بيئة ملائمة لإعادة إنتاج منظومة الإرهاب.
نهاية الحرب مع داعش تطرح أيضا مسألة مصير المقاتلين العرب والأجانب الذين انتموا الى داعش وإلى التنظيمات المتطرّفة الأخرى. طردهم من سوريا والعراق سيدفع إلى اللجوء إلى البلدان المجاورة أساسا تركيا التي يوجد بها حاليا عدد لا بأس به من المنتمين الى التنظيم والذين لم ينتظروا نهاية الحــــرب على الإرهاب حتـــى يعلنــوا عــن تواجـــدهم والقيام بعمليات إرهابية. ولكن قد يلجؤون أيضا إلى بلدان مثـــل الأردن والسعودية ومصر وأفغانستان واليمـــن وليبيا وحتّى تونس حيث توجد لديهم عناصر ناشطة. هذا التوجّه قــــد يوسّـــع رقعة الإرهــــاب أكثر في العالم، بالإضافة إلى خطر التّحـــالف بين المجموعات الإرهـــابية المختلفـــة. فقد شهدنا خلال السنـــوات الأخيــــرة التّحالف بين داعش وجماعة بوكو حــــرام في كينيا، ويمكن أن تتـــوسّع التّحالفات أكثر.
تواصل ظاهرة «الذّئاب المنفردة» في الغرب
انعكاسات الحروب والأزمات في الشرق الأوسط لا تنفكّ تلقـــي بظلالها على الوضع الأمني في البلدان الغربيـــة. ويشهد على ذلك تواتر العمليات الإرهابية من دهس بالشاحنات وطعن بالسّكاكين لمواطنيها وتفجيرات في محطّات القطارات والمطارات والمراكز التجارية، في نسق متزايد يؤذن بأنّ الحرب على الإرهاب مـــازالت طـــويلة وستستنزف طاقات الجميع.
من المرجح أنّ ظاهرة «الذئاب المنفردة» التي ظهرت في الغرب ستتواصل بنسق أكبر، خاصّة بعــد القضاء على داعش، على الأقلّ في شكله العلني، ولكن ذلك سيدفعه الى النّشــاط أكــثر في الخفاء واستهداف أهداف أكبر لإسماع صوته في العالم والتّدليل على أنّه لا يزال قوّة ضاربة في أيّ مكان.
من جانب آخر، فإنّ استمرار الأزمات في الشّرق الأوسط والتّهديد بحروب طائفية وتقسيمات لدول المنطقة، سيزيد من منسوب الغضب من الغرب والرّغبة في الانتقام من قبل شباب مسلم يبحث عن هويّة مفقــــودة في البلدان الغربية. وبدورها، فإنّ الحـــركات اليمينيــــة المتطرّفة لن تقـــف ساكنة أمام هذا الاستهداف المستمر لشعوبها وسترد بمزيد تأجيج الشعــور القومي والعدائي ضـــد الأجـــانب والمهــــاجرين. وذلك سيُتـــرجم بدوره بأعمال عنف تستهدف العرب والمسلمين.
نهاية داعش لن تسجّل نهاية الإرهاب وإنّما ستحوّله من العلن إلى الخفاء ومن المتوقّع أن ينتج تحالف بقاياه مع تنظيمات متطرّفة أخرى في العالم تنظيمات جديدة أكثـــر تطرّفا منه وأكثر دمويّة.
حـنـان زبــيــس
- اكتب تعليق
- تعليق