أخبار - 2017.06.21

احميده النيفر: يوم تُغـــادر الزّيتُـــونَـةُ مخـاوِفهـــا...

احميده النيفر...

1- تتكشَّف جامعة الزيتونة بتونس لمن يزورها بعد الثورة زاخرةً بالحركة والنشاط. ذلك ما لا تخطئه العين في توثّب الطلبة، التونسيين منهم والوافدين من إفريقيا جنوب الصحراء ومن آسيا وحتى أوروبا. يظهر ذلك في مختلف مناشطهم وفيما تعلن عنه الجهود المعرفية والبحثية لجانب من الأساتذة وفيما يُشرفون عليه من محاضرات وملتقيات ونوادٍ فضلا عما يمكن أن يلاحظ من الجانب الإداري من حرص على قدر من الانضباط.

2 - هذا ما عاينتُه في المرات التي زرتُ فيها الجامعة العريقة بعد مغادرتها قبل الثورة بسنوات. كنتُ ألحظ في كل مرة تغيّر حال الزيتونة بعد أن هوَتْ في استتباع سياسي مهين لم تعرفه أية مؤسسة جامعية أخرى في السنوات الكالحة. أخطر ما عانت منه الزيتونة آنذاك هي أنها حين تعذَّر عليها التغلب على مصاعبها المؤسسية معرفيا وبحثيا وتنظيميا عجزت عن التصدي لمطامع الاسترضاء السياسي ومخاوف بطش السلطة.

لذلك كانت تدهشني بعد 2011 تلك الحيوية التي أشاهدها عند حضور أحد نشاطاتها آملا إمكان القضاء على دواعي التزلّف والذَيلية وانبلاج صبح التميز الفكري والتسديد المنهجي.

غير أن هذه الدهشة سرعان ما تنكفئ عندما تحاصرها الأسئلة المُلِحَّة عن خلفيات هذه الحركية ومآلاتها فضلا عما تستوقفك من التعابير التي تبدو جزئية لكنها خطيرة من حيث الدلالة باعتبار أن «الشيطان» يكمن في التفاصيل.

3 - حين دُعيت لحضور مناقشة رسالة دكتوراه لصديق ظلّ ملفُّه مركونا قبل 2011 نتيجة الفرز والاستبعاد توالت المفاجآت المؤكدة أن عودة الروح إلى الجامعة العريقة ما يزال أملا بعيدا. ما أثار انتباهي عند المناقشة هو ما عبّر عنه عدد من الطلبة الحاضرين من تململ واضح وانزعاج مُعْلَنٍ ممّا بسطه المترشح في تقديمه لرسالته من شرح لأسباب اختياره وطبيعة عمله وما توصل إليه من نتائج. انزعاج قسم من الطلبة الحاضرين دلّ على أنهم إنما جاؤوا ليعلنوا عن موقف رافض لمعالجة تراث أحد أكبر قامات الفكر الصوفي الإسلامي في رحاب جامعة الزيتونة. مناقشةُ رسالة عن «الإنسان والحرية عند محيي الدين بن عربي» لم تكن بالنسبة إلى من عبّر عن تَبَرُّمِهِ فرصةً للاستماع والارتقاء المعرفي والمنهجي. ذلك كان مناقضا لطبيعة المشاغل العلمية والبحثية للجامعة كما يريدها أولئك ولـ»قناعاتهم «في الفهم «الصحيح» للعقيدة والشريعة كما ينبغي أن تُعالج.

أمّا قسم من أعضاء لجنة المناقشة فقد اقتصر همُّه على إثارة مسائل شكلية عامة لا فائدة تُرجى منها للمترشح وللحاضرين وللمؤسسة وخاصة في موضوع دقيق طالما أثار صراعا قديما وحادًّا. ما قدّمه الأستاذ المشرف على الرسالة وعضوٌ ثانٍ مختص دُعي من خارج الزيتونة خفّف من خيبة أملي بما قدَّماه من تقييم علمي سدّدا فيه بصورة موضوعية وإيجابية عمل المترشّح.

4 - لم تكن هذه المناسبة الوحيدة التي وقفتُ فيها على عمق المشكلة التي تواجه المؤسسة الزيتونية والمتمثلة في كيفية استيعاب سياق الحرية المتاحة لها بعد الثورة بما يُجَنِّب نخبها التمزّق الذي عانت منه طويلا والذي أدّى بها إلى فقدان مصداقيتها العلمية والاجتماعية.

دُعيتُ ثانية مطلعَ سنةٍ جامعية إلى حضور درس افتتاحي متعلق بتفسير القرآن الكريم. ما عشناه مع المحاضر والمدعوين الجامعيين وضيوف من الدبلوماسيين كان مثيرا للقلق والحرج. تجمهر جمع هام من الطلبة أمام المدرج رافضين دعوة المحاضر لما صدر عنه من تصريحات للإعلام اعتبروها مسيئة لهم ولتوجهاتهم. بعد كسر باب المدرج واقتحام الجموع القاعة ومغادرة عدد من الحاضرين اتجه الدرس لمساءلة المحاضر واستجوابه عمّا صدر منه دون أيّ التفات إلى قيمة المحاضرة وإلى مقدار ما أساؤوا به إلى الجامعة وإلى أنفسهم.

ثالثة الأثافي كانت منذ ما يزيد عن شهر حين طُلب مني أن أحاضر ضمن المهرجان الثقافي السنوي وفي أحد النوادي العلمية التابعة للجامعة عن حوار تاريخي بين عالم زيتوني ومستشرق فرنسي تعلّق بوضع المرأة والأسرة وما اتصل بذلك من أحوال المسلمين وعاداتهم وقيمهم. في هذه المرة أيضا لم يَتخلَّف قسم من الطالبات عن التعبير الصريح المناهض لحضوري ودون الاستماع لما سأقول فقُمْنَ مُنسحباتٍ معًا في حركة احتجاج يبدو أنها دُبِّرَتْ بليلٍ.

تؤكّد هذه النماذج، وغيرها كثير، ما يتناهى إلى أسماع كل من يشغله وضع التعليم في الزيتونة من أنّ مُجريات الأمور فيها لا تطمئن. فرغم ما توفّر لها من حرية واستقلالية ورغم مخاطر الغلوّ العنيف المهدد لأمن البلاد فإنّ عودة الروح للزيتونة المتيحة لخطاب معرفي معاصر أن يُشِعَّ في ربوعها ما تزال مستبعدة.

5 - في أعقاب كل مناسبة من هذه المناسبات المؤسفة كنتُ أعود إلى كتاب «أليس الصبح بقريب» الذي يبقى، رغم أنه مضى على وضعه أكثر من قرن، المرجعَ الأهم لمقاربة المعضلة الزيتونية. أعود إلى الشيخ ابن عاشور متسائلا: هل ولّى زمن الزيتونة أم أن صبحها قريب؟ في كل قراءة تسوقفني فقرات دالّة ومضيئة لما تعيشه المؤسسة اليوم. في الخاتمة التي لا تخلو من تفاؤل نقرأ: « هذا ما عنّ إثباته من أحوال العلوم الإسلامية وطرائق تعليمها وأسباب النهوض والانحطاط العارضين لها في عديد الأعصر وقد مضى بعد تقييده زمن غير قصير، وقد تحقق العمل بكثير من الملاحظات والمقترحات التي اشتمل عليها هذا الكتاب فأسفر به وجهُ الصبح الذي رجوتُ له قربا».

عند تأمّل الكتاب في ضوء ما آلت إليه أوضاع التعليم في الزيتونة  وفي ضوء التحولات العامة الاجتماعية والثقافية والسياسية تتكشَّف أربع فجوات كبرى تحول دون استقرار الإصلاح في الجامعة العريقة. هي فجوات تعبّر عن مخاوف محورية يعرض إليها الشيخ في فصول كتابه بتعابير دقيقة بالغة الدلالة مُحددةً عوامل تعذر الزيتونة عن التوصل إلى إجابة صريحة عن سؤال المعاصرة وتوجسها المتواصل منه.

6 - في طليعة هذه المخاوف نجد مسألة فقدان صفة المركز. فبعد أن كانت الزيتونة أهمّ  مؤسسة جامعية في الغرب الإسلامي من حيث زمن الإنشاء وطول البقاء وبعد ما عرفته من تألق مع الحكم  الحفصي الذي امتد لأكثر من ثلاثة قرون عرفت الزيتونة بعد ذلك انتكاسا علميا واجتماعيا لم يتوقف إلى أن استقر الحسينيون في الحكم مطلع القرن 12هـ /18 م. مع ذلك ورغم عودة الدروس وانتشار مراكز التعليم الزيتوني في القرنين 19 و 20 فقد كانت تفاقمت مخافة فقدان صفة المركز تلاحق الزيتونيين إلى أن تأكدوا من تراجع مكانة مؤسستهم إزاء بروز تعليم جامعي حديث سنة 1960. عندها لم تعد الزيتونة هي التي تصنع ثقافةً للمجتمع ومؤسساته الكبرى ولم تبق لها مكانة في بناء حياته وصوغ نظرته إلى نفسه ومستقبله.

المخافة الثانية تتعلّق بفقدان صفة الحصن المُؤْتَمَن على العلوم اللغوية والشرعية. في هذا المستوى أيضا تبيّن للمتخرج من الزيتونية أن موقعه هامشي في مجالي اللغة والتشريع وأنه لم يعد من النخب المسؤولة عن اتخاذ القرارات التي تصوغ مستقبل بلاده في هذين المجالين الحيويين.

ينضاف إلى هذه المخافة توجُّسٌ ثالث من «اختراق» الزيتونة ممن يُعتَبَرون «مُنْدَسّين». ذلك ما يعلن عنه بعض المدرسين حين يرفعون عقيرتهم بأن «الزيتونة للزيتونيين» مواجهين زملاءهم الوافدين عليهم من كليات الآداب في اختصاصات اللغة والحضارة والتاريخ وما إليها قائلين لهم «من أنتم؟ أتركونا في سَمْتِنا».

7 - خاتمة المطاف مع رابعة المخاوف المتصلة باتساع دائرة الحصول على المعارف الإسلامية. هي مخافةٌ ناجمة عن الإقبال على الجمعيات الثقافية المعتنيــة بمعالجات مجدّدة للتراث وما يتوفر إلى جــانبهـا في وسائل الاتصال الاجتمــاعي من مقـــاربات مغــايرة مضمــونا ومنهجــا.

حصيلة هذه المخاوف الكاشفة لمعضلة الزيتونة كما يهتم بها «أليس الصبح بقريب» تتحدّد أساسا في طبيعة العلم وخصوصية التعلّم في كل مؤسسة عريقة. في ذلك نقرأ «ليس العلم رموزا تُحَلُّ ولا كلمات تُحفظُ ولا انقباضا وتكلُّفا ولكنه نور العقل واعتداله وصلوحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها...وما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خدمة لارتقاء العقل لإدراك الحقائق واقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو».

من هذا الكشف يبقى الأمل في تمكّن الزيتونة من مغادرة مخاوفها متحررةً من وهم تحصين التراث ومقتدرةً على الإجابة عن ســـؤال المعاصـــرة. ذلك ما نجحت فيه مؤسسات عريقة قليلة أخرى أدركت قيمة الأصــــالة التي لا تعني تكرارا للأصل ونسخـــا لصور حائلةٍ وزائلةٍ بل هو تُخَلُّقٌ من الأصل الذي يعلو بالفكر والفعل ليتحوّل إلى نسغ حي ّ مُبدع..

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.