عبد الحفيظ الهرقام: ما بقي أعظم
الآن وقد انتصفت العهدة الرئاسية والمدّة النيابية لمجلس نوّاب الشعب حريّ بنا أن نتساءل: كيف السبيل إلى استحثاث الخطى لرسم أفق وطني أفضل قبل موعد 2019؟ فالانطباع السائد اليوم هو أنّ فرصا أُهدرت منذ انتخابات 2014 لتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية وللتقدّم بثبات على درب إصلاحات عميقة في مختلف المجالات تساهم في إخراج البلاد من نفق أزمتها الخانقة. ومن بين أسباب ذلك معارك سياسوية تغذّيها الانتهازية والأطماع الشخصية والمصالح الحزبية الضيّقة، وزيغ عن أصول العمل النقابي، وضمور الوعي المواطني، واحتجاجات اجتماعية باسم الحقّ في الشغل والتنمية- لئن بدت مشروعة في ظاهرها- إلّا أنهّا تخفي وراءها أحيانا مخطّطات دعاة الفتنة وأتباع التيارات الفوضوية والشعبوية الذين لا يقبلون بقواعد اللعبة الديمقراطية.
وعلى الرغم ممّا بذله الحبيب الصيد، أوّل رئيس للحكومة بعد انتخابات 2014، من جهود لإصلاح أوضاع معقّدة موروثة عن حكومات سابقة، بالتوازي مع شنّ الحرب على الإرهاب، ومع أنّ يوسف الشاهد أبدى، منذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في أوت الماضي، العزم على تنفيذ ما حُدّد في وثيقة اتفاق قرطاج من أولويات للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، فإنّ الشعور بالإحباط والتشاؤم ظلّ إلى حدود الأسابيع الأخيرة يلازم معظم التونسيين، أمام ضبابية المشهد وتعثّر مسار الإنقاذ الوطني، إلى أن شُرع، من خلال إيقاف عدد من رجال الأعمال وبارونات التهريب، في تشديد محاصرة الفساد وضرب رؤوسه..
عمليّة ساندتها بقوّة أغلبية الشعب التونسي فتبدّل المزاج العام من سوداوية غالبة إلى أمل في المستقبل يشوبه الحذر..
ومردّ هذا الحذر خشية من أن لا يكون الأمر سوى حملة ظرفية، انتقائية، لا تطال كلّ من تلاحقهم شبهات فساد من سياسيّين ورجال أعمال وموظّفين عمومين وإعلاميين...
ولا نشكّ لحظة في أنّ يوسف الشاهد، بإعلانه إحراق مراكب العودة إلى الوراء في الحرب على الفساد، يدرك جليّا أنّ الارتداد عن ذلك سيكون مؤذيا للدولة ولديمومتها ومضرّا بمستقبله السياسي وأنّ الخيار الأوحد يكمن في مقاومة هذه الظاهرة دون هوادة، كلّفه ذلك ما كلّفه، حتّى ولو تستهدفه «النيران الصديقة»، المتوجّسة خيفة من تداعيات هذه الحرب عليها، وحتّى لو تتقاعس الأحزاب عن تمتين الحزام السياسي الداعم لجهود حكومته في خوض غمارها. فلا مِراء في أنّ الحكومة ستجد دوما في انخرط الرأي العام في توجّهها هذا خير سند لها في المضيّ قدما في مكافحة آفة الفساد التي تشكّل إلى جانب الإرهاب والتهريب ثالوثا، هو اليوم أكبر خطر يتهدّد تونس. إنّها محطّة مفصليّة في طريق وعرة، مزروعة بالألغام، تتطلّب مواصلتها المثابرة وطول النفس، لأنّ ما بقي أعظم..
هي بداية تحرّك ينبغي أن يشمل جبهات عدّة، في إطار مشروع وطني جامع، مترابط الحلقات يقطع مع الانشغال بإدارة إكراهات الحاضر لينصهر ضمن رؤية بعيدة المدى، حاملة لحلول ناجعة لمشاكل البلاد.
ولعلّ من أوكد أولويات المرحلة الراهنة البناء على الانتعاشة الاقتصادية النسبية التي لاحت بواكيرها خلال الثلاثي الأوّل للسنة الجارية، بالعمل على تحسين مناخ الاستثمار وزرع الثقة في نفوس الفاعلين الاقتصاديين ودفع حركة الإنتاج في قطاعات استراتيجية كالفلاحة والخدمات، فضلا عن إدماج الاقتصاد الموازي في منظومة الاقتصاد المهيكل، إذ لا يكفي تجفيف منابع التهريب، بل يتعيّن التفكير بجديّة في إيجاد موارد رزق لأعداد وافرة من صغار التجّار والباعة الذين اعتادوا منذ سنوات طويلة امتهان نشاط هامشي.
كما بات من الضروري الإسراع بإنجاز خطّة واسعة للحوكمة الإلكترونية تقرّب الخدمات من المواطن وتضمن شفافية المعاملات لسدّ أبواب الرشوة والفساد في الإدارة وأجهزة الدولة واعتماد مقاربة مجدّدة للتنمية الجهوية تأخذ في الاعتبار خصوصيات الجهات وتقوم على التكامل بين اقتصادياتها في إطار أقاليم نصّ على قيامها الدستور، علاوة على تعزيز منظومة الأمن القومي وتطوير قدراتها على مواصلة مكافحة الإرهاب وصيانة سلامة ترابنا.
ومن الرهانات المطروحة، على صعيد آخر، تثبيت دعائم الجبهة الداخلية، في ظلّ التحديات الخارجية، والتعامل العقلاني والرصين مع ما نجم عن التحوّلات المتسارعة في الفضائين الدولي والإقليمي من معطيات جيو استراتيجية جديدة لا مناص من استقراء خفاياها واستكناه أبعادها دعما لـمكانة تونس وحفاظا على مصالحها.
تلك هي، في تقديري، البعض من ملامح الطريق نحو 2019. فإلى ذلك التاريخ، هل ستتغيّر أوضاع البلاد إلى الأحسن؟
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق