مـاء الـزّهـر وزيــت النيـرولـي في حاجة إلى تثمين
تهبّ على ولاية نابل في ربيع كل سنة النّسائم العطرة ممتزجة بروائح القوارص وذلك عندما تحتفل المدينة بموسم جني الزهر بالجهة (زهر شجرة النارنج أو الأرنج) وهو الموسم الـخامس والخمسون. وتحتلّ شجرة النارنج هذه المكانة الخاصة نظرا لما تدرّه على الجهة من فوائد بفضل زهرتها البيضاء التي تنتج الزيت الروحي وماء «الزهر» أو قل ماء «الحظ» حسب المعنى العامي للكلمة باعتباره يعود بالفائدة على ولاية نابل ويساهم في تنشيط الحركة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية فيه.
انتقلت زراعة شجـــرة النـارنج إلى تــونس مـــن بلاد الأندلس حيـــث ازدهـرت في مدينة إشبيلية خاصة وكان يطلق عليها تسمية برتقـال إشبيلية. وعـــادة ما تزيّن شجرة النارنج وسط ساحة البيت الأندلسي لذلك نجدها منتشرة في البيوت في حــدائق الســكّان في عــدّة مناطق في نابل. ويــؤكد المؤرخون أنّ هذا النّوع من القوارص أدخله العرب إلى إسبـانيا قادما من الصين. وقد اهتمّ الإسبان بزراعة النارنج قبل زراعة البرتقال بعدّة سنوات وانطلق نشاط أوّل وحدة تقطير منذ بداية القرن التاسع عشر. وقد كان للأندلسيين الذين هاجروا إلى تونــس واستوطنــوا في الوطن القبلي دور كبيـر في تطوير زراعـة النارنج وفي نقل تقنيـــات استخـراج ماء الزهر والزيوت الروحية مــن زهرة النارنج إلى السكان. وحســـب المــؤرخ والجامعي يحيى الغول ظهرت أوّل مبــادرة للاحتفال بعيد الزهــر في تــونس سنة 1894 باقتراح من نائب تونسي كان عضوا في بلدية نابل آنذاك، كما بني أول مصنعين لتقطير ماء الزهـر في عهد الاستعمار وتمّ تنظيم أوّل معرض في نابل في أفريل 1904 وكان بمثابة السوق التجـــارية وبداية من سنة 1930 أصبحت المدينة تحتفل بمهرجان ماء الزهر. وانتظم أوّل معــرض في شكله الجديد في 10 أفريل 1954 بإشراف بلدية نابل. وتعتبر الدورة الرابعة لمعرض نابل بتاريخ 9 ماي 1957 الأهمّ تاريخيا إذ دشّن المعرض آنذاك الزعيم الحبيب بورقيبة.
زيادة في زراعة شجرة النارنج
هي شجرة من نوع القوارص تعمّر طويلا وتنتج نوعا من الثّمر شبيها بالبرتقال ذا طعم خاصّ فيه مرارة. والذي أضفى على هذه الشجرة شهرتها هو زهرتها البيضاء اللون وذات الرائحة العطرة الزكية والتي يتمّ تقطيرها للحصول على ماء الزهر الذي تطلق عليه تسمية الذهب الأبيض وعلى زيت روح الزهر. وتحتفظ ولاية نابل إلى اليوم بالريادة في زراعة هذه الشجرة (تستحوذ على ثلثي زراعتها في تونس) وفي تقطير تلك الزهرة وفي العناية بماء الزهر بنوعيه التقليدي الذي يحضر في البيوت، والصناعي الذي تنتجه الوحدات الصناعية المختصّة. وقد نجحت زراعة هذه الشجرة في المنطقة لأن ولاية نابل تنعم بمناخ يتماشى مع غراسة القوارص ومنها شجرة النارنج التي تحتاج أيضا إلى السقي بمياه ضعيفة الملوحة وإلى حماية من الرياح ومن الجفاف. وينتعش تقطير زهرة النارنج في فصل الربيع لأنه الفترة التي تنضج فيها الزهرة. ويتركّز هذا الإنتاج خاصّة في مدن نابل وبني خيار ودار شعبان الفهري التي تحتوي معا على حوالي 70٪ من شجر النارنج في ولاية نابل وتوجد كذلك في بني خلاّد والحمامات ومنزل بوزلفة ويزرع شجر النارنج أيضا في زغوان وتستور. ويتزامن الاحتفال بماء الزهر كل سنة مع الاحتفال بتقطير ماء الورد والعطرشاء (العطرشية) لأن الولاية تحتكر إنتاج النباتات العطرة فتصبح مدينة نابل بالمناسبة ولمدة تزيد قليلا عن الشهر - ما بين شهري مارس وأفريل- قبلة للعائلات التونسية من جهة والتجار من جهة ثانية. ودون إحصاء عدد شجر النارنج المغروس في الحدائق والشوارع. تغطي حقول النارنج حسب بعض الأرقام حوالي 350 هكتارا من الأراضي الخصبة في ولاية نابل مغروسة فيها حوالي 150 ألف شجرة نارنج تنتج سنويا ما بين 1000 و1200 طن من الزهر الذي يُحوّل إلى ماء زهر عادي وماء زهر بيولوجي.
استعمالات ماء الزهر وفوائده
إضافة إلى أهميّة ماء الزهر في تركيبة مواد التّجميل والعطور فإن له فوائد عديدة إذ يستعمل في المطبخ التونسي لتعطير الأكلات التقليدية أو لصنع المرطّبات ويعطي للقهوة نكهة خاصة عند إضافة قطرات منه في فنجان القهوة كما تضاف إلى ماء الشرب لإعطائه نكهة خاصّة. وفي مجال صحة الانسان يستعمل ماء الزهر كدواء للسعال وللعناية بالبشرة وحمايتها من الالتهابات وإزالة الدّهون عليها وفي تخفيض حرارة الجسم وخاصّة عندما يصاب المرء بضربة شمس وهو مهّدئ يساعد على الاسترخاء والنـــوم الهــادئ ويحمي مــن الأرق كما يستعمـــل في تحضيـر بعض الأدوية الجلدية. وقد أكّدت لنا السيدة «فاطمة» وهــي تزور خيمـــة تقطير الزّهر في نابل خلال مهرجــان ماء الزّهر أنّ شجرة النارنج كلّها فائدة مشيرة إلى أن بعض الاستعمالات الشــعبيّة تشير إلى المنــافع الصحيـّــة لكل مكوّناتها.
الطريقة التقليدية للتقطير
عندما يحلّ موسم جني الزهر وتقطيره تستقبله العائلات بالفرح والزغاريد قبل أن تنكبّ على تجميع الزهر أو اقتنائه من أجل تقطيره ولكلّ عائلة هدفها من ذلك. فهو عند العدد الكبير منها عادة وتقليد يدخل في باب إعداد «العولة» السنوية للأسرة إذ لا تخلو مطابخ العائلات من ماء الزهر، وهو فرصة لبعض الأسر الأخرى لاستغلال التّقطير تجاريا إذ أصبح حرفة لديها وهي عائلات معروفة في الجهة تمتهن تقطير الزهر والورد والعطرشاء.
وتتوارث العائلات هذا النشاط من جيل إلى آخر، فيباع في القارورة التي نسميها «فاشكة». ويذكر أن هـــذه التسمية هي تعريب للاسم الإسباني للقارورة. ونظرا إلى أن فترة استغلال زهرة النارنج هي فترة قصيرة (حوالي شهر) يجتهد الأهالي في استغلال تلك الفترة. وتؤكّد السيدة راضية وهي تمتهن هذه المهنة التي تعلّمتها عن والدتها منذ عشرات السنين أنه عندما تنضج زهرة النارنج في فصل الربيع يتولّى الفلاّح قطفها قبل أن تتفتّح ثم تتولّى المرأة التي تنوي التّقطير اقتناءها أو جمعها من الحقول أو مـن أشجـــار النارنج المنتشرة في حدائق المنازل بمشاركة أفراد العائلة ثمّ نشرها على الأرض لمدّة يومين تقريبا لتفرز المادّة الزيتية التي تحتـــوي عليها وبعدها يتمّ التقطير على مراحل باستعمال كمية معيّنة تبلغ 4 كلغ من الزّهر في كلّ عمليّة تقطير يتمّ اقتناؤها بحوالي 50 دينارا وتمكّن من إنتاج «فاشكتين» مركزتي المحلول سعة الواحدة لتران وذلك بطريقة تكثيف بخار ماء الزهر باستخدام القطّار التقليدي (ويطلق عليه بالعربية الفصحى «الأنبيق» وهو مقطّرة استعملها العرب لتقطير السوائل واستخدم في الكيمياء) وهو وعاء يكون جزؤه السفلي من النحاس والعلوي من الفخّار وهو الأفضل حسب المتخصّصــين. وبيّنت بعـض الدراسات أنّ 86 ٪ مـــن النســوة يستعملن القطّار التقليـدي بينمــا البقية تستعمل القطّار الحديث. وهناك أنـــواع أخرى من القطّار مصنوعة من النّحاس أو من الزّنــك وقد يكون من الفضّة إذا كان ضمن جهاز العروسة.
وتؤكّد السيدة «منجية» العاملة في المجال أن هذا النشاط التقليدي هو نشاط عائلي وعادة أنثوي تقوم به المرأة بمفردها أو بالتّعاون مع أفراد الأسرة وأحيانا الجيران لتوفير حاجيات العائلات السنوية من ماء الزهر إما للاستعمال العائلي الضيّق أو الموسّع أو لأغراض تجارية، مشيرة إلى أن المستهلك التونسي يفضّل اقتناء هذا النوع التقليدي مباشرة لدى تلك العائلات رغم غلاء سعره (بلغ سعر فاشكة ماء الزهر المقطر تقليديا هذه السنة ما بين 30 و 35 دينارا) لجودته ونكهته المميّزة ولفوائده الصحية وتجنّبا للزهر المقطّر بطريقة آلية في المصانع لأنه حسب رأي السيدة «راضية» أقلّ جودة. ولم ينج هذا النشاط من ظاهرة الغش إذ يعمد البعض بمزج ماء الزهر المقطر طبيعيا بماء الحنفية أو بخلط الماء بنكهة روح الزهر وبيعها على أنّها ماء زهر طبيعي وبنفس السّعر وهو أيضا ما تفعله بعض محلات المرطبات باستعمال روح الزهر المصنّعة في الحلويات على أنها ماء زهر طبيعي.
نشاط اجتماعي وثقافي
ويعتبر تقطير زهرة النارنج بهذا الأسلوب التقليدي نشاطا اجتماعيا لكونه يساهم في تلاقي العائلات وتعاونها خلال الموسم لإنتاج ماء الزهر وما يترتّب على هذا اللقاء من مزيد ربط حبل الودّ والمحبّة بين الأسر.
وحسب المختصّين فإنه نشاط اقتصادي بمفهومه الواسع إذ توفّر 7 مصانع في الجهة نسبة 60٪ تقريبا من الإنتاج الجملي لماء الزهر بينما توفّر الطريقة التقليديــة حوالي الـ40 ٪ الباقية. وهو نشاط ثقافي أيضا نظرا للتظاهرات الثقافية والعلمية والترفيهية التي تقام في الجهة تزامنا مع الاحتفاء بماء الزهر وتشترك فيه عدّة هياكل ومنظّمات وجمعيات وفرق موسيقية وتلاميذ المدارس. وقــد اهتمّت التّظاهرات التي أقيمت هذه السنة بهذه المناسبة بالمجالات التاريخية والعلمية والإنتاجية لماء الزهر.
يمكّن تقطير طن واحد من أزهار النارنج صناعيا من توفير 600 لتر من ماء الزهر. ويوفّر موسم جني وتقطير ماء الزهر دخلا جيّدا لحوالي ثلاثمائة امرأة كما يوفّر حوالي 3000 موطن شغل.
زهرة النارنج أساس العطور
إن من أهمّ ما يستخرج من زهرة النارنج ويصدّر إلى الخارج هو الزيت الروحي أو زيت الزهر الأساسي الذي يسمّى «النيرولي» وتنتجـه الوحدات الصناعيــة المنتشرة في الجهة وهو من الزيوت الأساسية المستعملة في صناعة العطور. وبفضل زيت «النيرولي» اشتهرت نابل بكونها من أهـــمّ منتجي زيت النيرولي ومصدّريه في العالم وأصبــح النيرولي التونسي ذا شهرة عالمية إذ يعتبر من بين الأجود في العالم ويصدّر بكثافة ليستعمل في صناعة الماركات العـــالمية لمواد التجميل الراقية، إضــافة إلى العطـــور المشهــورة رغم أنّ تــونــس لا تحتل المـــراتب الأولى بـين البلدان المصــدّرة مـــن حيث حجم التصدير. ويـذكــر أن منتـــج العطــور العـــالمي Guerlain اعـتــرف في إحــدى كتاباته حول العطـــور التي تنتجــها مصـانعه بأن النيرولي النابلي هو المكوّن الأساسي لعطوره الفاخرة وذلك منذ سنة 1955.
بتقطير طن واحد من أزهار النارنج بالطريقة الصناعية يمكن أن نحصـــــل على 1 كلغ من زيت النيرولي إضافة إلى كمية مــــاء الزهــــر التي تستخرج منه، وتصدّر الوحدات الصناعية التونسية «النيرولي» ذا الجودة العالية سنويا بأسعار تقارب 5000 دولار للكيلوغرام الواحد وتقتني ذلك المصانع الفرنسية العاملة في عاصمة العطور الفاخرة مدينة «غراس».
طرق لتثمين المنتوج
ككــل نشـــاط اقتصادي مـــربح وقادر على دعم ميزانية الدولة، يتطلّع المنتجون إلى مــزيد العناية به ليرتقي إلى مرتبة الثروة الوطنية المهمّة للاقتصاد التونسي بتشجيع النــاشطين في مجال تقطير ماء الزهـــر التقليــدي وبمساندتهم للزيادة في الإنتاج وبعث هياكل تتولّى دعمهم في مجال التّغليف والتّرويج والتّصدير خاصّة وأنّ الطّلب كبير في العالم على كل المنتوجات الفلاحية وخاصّة منها الطبيعية أو البيولوجية ممّا يوفّر دخلا مهمّا من العملة لميزانية الدولة ما دام هذا الذهب الأبيض غالي السعــر عنــد التّصدير. كما يمكن ترويج ماء الزهــر بصــورة واسعة لدى السياح الذين يزورون تونس بعد القيام بحملــات تحسيسيــــة موجّهة إليهم حول فوائده.
ويدعــو بعــض من تحــدثنا إليهم إلى ضرورة تنويع المنتوج وتطوير إنتاج ماء الزهر البيولوجي وعدم الاقتصـار على إنتاج ماء الزهر العادي وزيـــت النيرولي والاتّجاه نحو استغلال كافّة مكوّنات شجرة النارنج وخاصّة تقطير أوراقها للحصــول على مـــاء ورق النارنج وتثميــن عصــير ثمارها باعتبار فوائدها في العديد من الميادين كالعطورات والصّناعات الغـذائية والدوائيــــة ومواد التّجميل. ويشتكي المستهلك كما الممـــارس للتّقطير من غــلاء سعر زهرة النارنج بسبب الوسطاء لذا يدعون إلى مزيد تنظيم القطاع للتّخفيض في التكلفة والتحكّم في الأسعار والتصدي للمضاربين وبعث تعاضديات أو تجمّعات فلاحية تختصّ في هذا النشاط مما سيثمّن الخبرة التي تمتلكها المرأة التي تمتهن التّقطير بالطريقة التقليدية في المنزل.
خبراء في التّذوّق
وتؤكد الأستاذة الجامعية السيـــدة كـــوثر بن حسين في محاضرة ألقتها في الندوة العلمية التي انتظمت بالمنــاسبـــة بعنـــوان، «شجرة الأرنج: الخصوصيات والتثمين»، أنّ القـــطاع يفتقر إلى خبراء تذوّق لماء الزهر يستطيعون المصادقة على جـــودتـــه ونوعيته بواسطة الرائحة والتذوق لأنّ نوعية التّربة وماء الري يؤثّران في جودة ماء الزهر وفي طعمه ودعت إلى تكوين هذا النوع من الخبراء. كمــا دعت إلى إعطاء علامة تجارية تونسية «ماركة» لماء الزهر التونسي للمحافظة على هذا التّراث وحمايته عالميّا.
خالد الشّـــــابي
- اكتب تعليق
- تعليق