قانون الاستثمار ... هل من ارتباط أوثق مع واقع فلاحتنا؟
تحتفل فلاحتنا و فلاحينا يوم 12 ماي الحالي بعيدها السنوي، على أنّ لسان حال الكثير منّا يردّد ما قاله، منذ أكثر من 1000 سنة، أبو الطيب المتنبي:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
فبعد خمس سنوات من الثورة انطلق الحديث، و منذ الحكومة السابقة، حول وضع قانون للاستثمار مشجع للاقتصاد و تثبيت دوره في تنمية و تشغيل الشباب العاطل فيها.
و للغرض و بعد إعداد عسير من طرف وزارة التنمية و الاستثمار و التعاون الدولي للحكومة السابقة و عدم مساهمة لخبراء عرّفين بحالة القطاعات المختلفة داخلية و خارجيا ؛ نشرت هذه الوزارة بصفة متوازية تقريبا ''وثيقتين توجيهية'' الواحدة تلو الأخرى في 2015 لمخطط تنمية 2016-2020 عرضت فيها أهدافا ''تحت تسمية: الاقتصاد الأخضر ضامن لتنمية مستدامة'' دون ضبط أي طرق للعمل المُوصلة له ؛ مع مشروع قانون للاستثمار لم يحضَ كلاهما بتأييد لا من المجتمع المدني(الرسالة المفتوحة بليدرز بتاريخ 15.09.2015) و لا من مجلس النواب و من ثمّ تناسي الكل...؛ حتى إصدار القانون 71 في 30 سبتمبر2016 الذي يرجعنا إلى عدد من الأوامر الحكومية التنفيذية و التي تمّ نشرها تحت أرقام 388 و 389 و 394 و 390 لـ 9 مارس2017.
قانون الإستثمار .... و مدى تفاعله مع المشاكل التي تؤُزّ الفلاحة أزََّا
تمّ نشر الأوامر الحكومية 388 و 389 و 394 و 390 لـ 9 مارس 2017 لتنفيذ ما جاء بالقانون:
فالأمر 388 يضبط تركيبة مجلس أعلى للاستثمار من 6 وزراء و محافظ البنك المركزي، فكتابة قارة له؛ و هيئة تونسية للاستثمار و تنظيمات مصالحها... و مجلس استرايجية و مدير تنفيذي تابعين لها ؛ كما يذكر النص كذلك 5 أقطاب فنية : (1) سياسات الاستثمار و الإصلاحات، (2) المنح و الحوافز،(3) الإحاطة بالمستثمر، (4) تقييم و مراقبة المنح و الحوافز،(5) المساندة. كما تتمتّع الهيئة بميزانية تتابع مقابيضها و مصاريفها و صفقاتها... تحت إشراف الدولة و آليات رقّباتها...
و يضبط الأمر كذلك تنظيم الصندوق التونسي للاستثمار و مديره العام و هيئة رقّابته و الـ 3 لجان التي تُحدث فيه للإستثمار و التدقيق و للمخاطر... مع تحديد أجور الجميع وفق ما هو معمول به بالقطاع البنكي العمومي و اصدار نظم أساسية خاصة...
كما يضبط الأمر 389 نسب و أسقف و شروط الانتفاع بالمنح؛ ضبط المشاريع ذات الأهمية الوطنية و سقف المنحة لها؛ ضبط نسب و أسقف و شروط الانتفاع بالمساهمات في رأس المال...؛ ضبط شروط و طرق الحصول على القروض العقارية الفلاحية ؛ ضبط الاضبارة الوحيدة و قائمة وثائق مرفقة... للنصّ...
و يذكّر الأمر 389 كذلك أنّ للاستثمار في الفلاحة، كما كان سابقا، قسمين مع مراجعة أسقف التكلفة لما تكلفته أقل من 200 بالنسبة للفلاحة أو 300 أو 500 دينار بالنسبة للصيد البحري بالنسبة لـ ‘’أ’’ و بالنسبة لـ ‘’ب’’ لما يتجاوز ذلك ؛ مع نشر ملحقيْن للأمر في أنشطة الخدمات و التحويل الفلاحي.
و تختلف هذه المنح حسب أنْ تكون موجهة إلى الترفيع من القيمة المضافة أو القدرة التنافسية أو التنمية الجهوية أو تطوير التشغيل أو التنمية المستدامة ... فيما بين 15 بالمائة و 60 بالمائة حسب الامكانيات العديدة المذكورة في الأمر... ممّا أدى بالإتحاد التونسي الفلاحي إلى طلب ‘’دليل اجرءات’’ لتفهم طرق العمل بالنسبة لكلّ فرضية قد تستحق منحة... مع إعلام هيئة الاستثمار بمقررات الإسناد في ظرف 7 أيام... كما يخضع الانتفاع بالمنح إلى تقديم إضبارة و هيكل تمويل للمشروع و مسك محاسبة قانونية ... و على أن تكون التجهيزات جديدة و وضعية جباية المستثمر مسواة. و يخضع الانتفاع بالمنح كذلك إلى مساهمة الأعراف في نظام الضمان الاجتماعي و تصريحهم بأجور الأعوان و اقتطاع المساهمات المحمولة عليهم... هذا و يتعين أن يقوم المستثمر الراغب في المنح تقديم ملف متكوّن من 12 إلى 14 وثيقة، يستوجب بعضها الاستعانة بمكتب دراسات أو مكتب محام لإعدادها.
و يضبط الأمر القروض العقارية ؛ فينتفع بها الشبان و الحاملون لشهادات فلاحية أو لاقتناء منابات شركائهم، و تحدد هذه القروض إلى 250 أو 125 ألف دينار حسب شروط مع تقديم 5 بالمائة من الثمن من المال الخاص مع تقديم الملف؛ كما يخضع هذا القرض إلى عدد من الشروط منها عدم توضيف رهن على هذه الأرض؛ على أنّ المطالب (التي لا تبلغ 1 مليون دينار) تمرّ بلجنة جهويّة تحدث بقرار مشترك بين 3 وزراء. هذا و يتم صرف أقساط المنح بناءً على الوثائق و معاينة من المصالح المعنية و وزارة المالية ؛ كما يتعيّن أثناء ذلك على المستثمر تقديم تقرير سنوي في تقدّم الأشغال. و تظبط مكوّنات التقرير بمقتضى قرار من وزير الاستثمار....
حتّى متى لم نتُب تَوْبَةً نَصُوحًا من بعض أخطاء الماضي
و إنْ حرصتُ على تقديم هذا العرض لمتطلبات و مفارقات هذه القوانين و لو بإيجاز، فذلك لما بدى لي فيها من إجحاف – و أنا أضع نفسي مكان الفلاح الذي يطلب قرضا أو تحفيزًا من كلّ هذه الهيئات و الصناديق و ما لها من شروط (شروط الأعزب على الهجّالة ؛ كما يقول مثلنا الشعبي). ممّا يجعلنا نقول أنّ وزارة التنمية و الاستثمار... لم تتحّرى، قبل ذلك و تدرس على الأقل إحصاءات 2004-2005 لأوضاع القطاع ككل و لأوضاع المستغلات الفلاحية على الخصوص أو استشارة خبراء على علم بهذه الأوضاع ، خاصة و أنّ ''الدستور'' يقول في فصله 8 '' الشباب قوّة فاعلة في بناء الوطن. تحرص الدولة على توفير الظروف الكفيلة بتنميّة قدرات الشباب و تفعيل طاقاته ...'' و في فصله 12 '' تسعى الدولة تحقيق العدالة الاجتماعية و التنمية المستدامة و التوازن بين الجهاتن استنادًا إلى مؤشرات التنمية و اعتمادًا على مبدأ التمييز الايجابي. كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية'' و في في فصله 40 ''... و لكلّ مواطن الحق في العمل في ظروف لائقة و أجر عادل.'' و كان ذلك من شأنه أنْ يفرض إعداد وثيقة توجيهية للفلاحة تتماشى مع خُصُوصيات كلّ جهة من ربوع تونسنا العزيزة و التعرف على ما فيها من اختلافات و عوائق متراكمة منذ سنوات حتى يتوجّه الفلاح في كل منها للأفضل فالأفضل.... و هذه من أخطاء الماضي التي تُعاد بلا شفقة و لا رحمة لهذا الفلاح الذي يقضي عُمُرُه في توفير غذائنا اليومي.
فلا يمكن للدولة، و هي على الحالة الذي يعرفها الجميع، أنْ تُأمنَ، بنصوص كهذه، تحقيق لا تنميةً مستدامةً و لا توازن بين الجهات انطلاقًا من أيّ مستغلة لفلاح ما ؛ خاصة و هو مطالبٌ بإعداد ما تقدّم من ملفات و وثائق و دراسات و مسك محاسبات قانونية... قصد إمرارها بهيئات إدارية و صندوق تمويل و ما في تصرّفه من لطرق بنكية ... و ما آل إليه بذلك لما نراه من تداين و عشوائية مشاريع مفلسة إذْ الكثير منها في غير محلّه....
'' أ ليس الصبح بقريب ؟'' صدق الله العظيم
و على أمل أنْ ينفلق إصباح الفلاحة عن قريب و لن نبلغ ذلك إلاّ إنْ عزمنا على سلوك سياسة توازي على الأقل ما هو يُبذل الآن من جهود لإحياء السياحة، سياسة تصبو فعليا إلى القيام بقفزة نوعية بها. فبالعكس، فمحتوى هذه النصوص تشيرُ و كأنّ الاستثمار أصبح في ذاته الهدف عوض أنْ يكون وسيلةً للتنمية. و كأنّ التعسير الذي يبرز منها ينمُّ عن نيّة توجيه الحوافز إلى المستغلات الكبرى – بعد أنْ تضائل عددها - و إلى ما سُمي بـ ''شركات الاستثمار SMVDA'' التي تُركّز فوق الأراضي الدولية و على أمل الدولة أنْ تفوز لهم بتمويل خارجي... دون صغار الفلاحين الذي لن يبقى لهم إلاّ الفُتات؛ و كأنّنا لم نشعر بعد أنّ كلّ احتجاجات الشباب التي نراها في أريافنا و طلباتهم لجلب مستثمرين لتركيز صناعات في قُراهم، هو صادر عمّا رأوه من تهميش لمستغلات أبائهم نفّرهم في امتهان الفلاحة... و ما إليها؟ فماذا وضعت هذه النصوص لدمج الـ 75 بالمائة من الضيعات الصغيرة و الـ46 بالمائة من أصحاب المستغلات المسنّين (أكثر من 60 عامَا) في الدورة الاقتصادية و الاجتماعية و تيسير انتصاب ابناءهم على مستغلات أوسع و بعث عقلية مبادرة فعلية فيما بينهم قصد إسهامهم في التنمية و التشغيلية المرجُوّة ؟
ففي غياب سياسات فلاحية لدى الأحزاب السياسية المتواجدة و عدم تواجد منهجيّة عمل في هذه النصوص، ففي رأيي المتواضع، لا بدّ من نصّ إضافي لقانون الاستثمار يبني سياسة تنمية مستدامة للفلاحة – كما جاء في فصول الدستور المذكورة أعلاه - عوض النظرة البارزة فيه و الموروثة عن العهد السابق، و اعتمادها في كلّ النصوص و المخططات المستقبلية... في هذا الاتجاه :
• بالتركيز على تشجيع استغلال فلاحي مبنيّ على خصوصيات الجهات و تخصيب التربة بإدماج الإنتاج النباتي و الحيواني بما يلائم كلّ جهة لمقاومة التغيرات المناخية التي بدت ملامحها في هذه السنة مع إعداد وثيقة توجيهية دقيقة للغرض، مع التذكير- و أني أمتعض من ذلك - أنّي وجدت في وثيقة معدة للمعمرين تقصد تشجيعهم على الانتصاب في تونس (مُؤرخة من سنة 1899 أي في عهد الحماية) و موصيةً أياهم بإدماج الإنتاج النباتي و الحيواني حتى في مستغلات الكروم (العنب) البعليّة، و كم هي – لعمري – توصية صائبةً في ظروف مناخنا الذي لا تزال تشتدّ قسوته مستقبلا ؛
.بالتركيز على تشجيع تطوير المستغلة الصغيرة – بقدر الإمكان - إلى مستغلة متوسطة، عصرية، مربحة، مشغّلة، مستدامة و قادرة على توفير غذاء التونسي و انتاج إضافي موجّه للتصدير مع الضغط على التوريد ؛
• بالتركيز على تشجيع الشاب على المبادرة و تمكينه من الانتصاب بصفة صاحب مستغلة متوسطة قابلة للتطوير بتأطير من الدولة يتدرّج شيئا فشيئا إلى تأطير مهني يساهم هو بنفسه قلبًا و قالبًا؛
• بالتركيز على بعث هياكل مهنية و إعدادها لتحمُل مسؤوليات القطاع تدريجيا مع تشجيعها ماليًا و معنويًا للغرض، و لمصالح الدولة المعنية بالتمويل و هيكلة المهنة (FIOP) دورًا أساسيًا في إعداد النصوص و في تنفيذها على عين الواقع ؛
• الحرص إعطاء أولوية إلى المشاريع المندمجة مع تمكينها من الجمع بين القروض الطويلة و القروض الموسمية ضمانًا لها في أوفر حظوظ للنجاح ؛
• مراجعة القانون القديم الذي يحصر مجموعات الفلاحين في ''الشركات التعاونية للخدمات الفلاحية و مجامع التنمية'' قصد إدراج كافة أصناف الشركات و التعاضديات و الجمعيات الفلاحية فيه و خاصة الشركات و التعاضديات و الجمعيات العائلية كالجمعية بين الأب و الابن أو البنت، و تعاضديات الاستخدام المشترك للآليات الفلاحية، و الشركات بين الفلاحين لبعث صناعات تحويلية صغيرة عوض انتظار المستثمر، الذي قد لا يأتي البتة لتحويل منتجاتهم ...
• التخلص من فكرة تمادي الدولة من امتلاك أراض دولية فلاحية (500000 هك لا تزال على ذمّتها) و استغلالها و التصرّف فيها و كرائها ( و هو الدور الذي لا يليق بها) .. و دراسة طرق ادماجها لتوسيع المستغلات الصغيرة المجاورة – بقدر الإمكان – قصد تطوير عدد المستغلات المتوسطة و المستدامة و تطوير فاعليتها الاقتصادية ؛
• و أخيرًا و إذ يضبط الملحق 1 من الأمر 389 القطاعات ذات الأولوية و منها الفلاحة و أنشطة التحويل الأولي و منظومة الزراعات الجيوحرارية و منظومة النباتات الطبية و صناعة الخبز و المرطبات ... على أنْ يُطعّم بقطاعات لم تُذكر رغم نتائج البحوث المتواجدة مثل: لنتاج و جمع و خزن البقوليات ؛ شراء و بعث شركات تستغل" الطائرات الفلاحية، انتاج و تحويل كل مشتقات الخضر و الغلال، انتاج و تحويل الفطريات مثل les rhizobiaو les mychorises ...
و يضبط أخيرا الأمر 394 طرق ترشيد اختيار المشاريع العمومية بإحداث لجنة للموافقة على هذه المشاريع و هذا أمر مهم جدا بالنظر لما كان من نتائج منقوصة خاصة لما شُوهد من عدم تنسيق منذ بداية سياسات بناء السدود و بعث المناطق السقوية بعدم تنسيقها مع سياسات الإرشاد و تركيز لغرف و منظومات و هياكل مهنية فلاحية قادرة على تأطير الفلاح و إيصاله فعليًا إلى ما هو منتظر من انتاجية مستغلته و إيصال الدولة لإنتاجية محترمة لكلّ استثماراتها في هذه الأنشطه و القيام بدورها كأول قاطرة للتنمية و التشغيل... كما أنّ القيام باستثمارات كبيرة جدا في أشغال ''المحافظة على التربة'' لم تُؤد إلى بعث مستغلات تمثّل ''وحدة اقتصادية قابلة لتركيز الفلاح الذي يُبادر و يُكثّف انتاجيته بما يفرضُهُ العلم الحديث و البحوث المتطورة و الضامنة للنجاح''....
مالك بن صالح
المهندس العام في الزراعة
خريج الـ ENSSAA من باريس
- اكتب تعليق
- تعليق