أخبار - 2017.05.10

الوظيفة العمومية على حدّ السكين

 الوظيفة العمومية على حدّ السكين
الإتجاه العام ينحو هنا وهناك إلى الحد من عدد الموظفين وذلك رغم أنّ الأطراف التي تدعو إلى ذلك صباح مساء تلازم الصمت حينما يطلب منها تحديد نسبة هذا الحدّ وما هي الوزارات التي يمكن أن يشملها. وكان من الطبيعي أن تعتمد الحكومة التونسية هذا الاختيار كمحور مركزي لإصلاح الوظيفة العمومية الذي تعتزم القيام به. نحن نقدر ذلك، لكننا نعتقد أن أية سياسة لا تستقيم ولا يكون لها شأن بمعزل عن الواقع، والواقع لا يقتصر بأي حال على عدد الموظفين وما يترتب عنه من تكلفة.
هنالك في تونس 57 عونا في الوظيفة العمومية لكل ألف ساكن وقرابة 46 موظفا. تعدّ فرنسا 88 موظفا لكل ألف ساكن، ويقدر هذا العدد بـ 160 في الدانمرك والنرويج و124 في السويد و92 في بولونيا و88 في المملكة المتحدة و79 في الولايات المتحدة (المصدر: منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية). صحيح أن المغرب لا يعد أكثر من 27  موظفا لألف ساكن وأنّ الجزائر تعدّ 42. إلا أنه ينبغي أن تؤخذ هذه المقارنة بحذر. ذلك أن احتساب النسبة يأخذ في الاعتبار في بعض البلدان عدد الأعوان في المؤسسات العمومية رغم أنهم ليسوا جميعا موظفين بالمعنى الحصري، بينما لا تدخل بعض البلدان الأخرى في الحساب أعوان المجموعات المحلية رغم أنهم يخضعون لقانون الوظيفة العمومية. ثم أن هذه البلدان يختلف بعضها عن البعض من حيث التنظيم الإداري والتقاليد العسكرية والدور الموكول إلى الدولة في مجالات التعليم والصحة الخ.
وتعد الوظيفة العمومية وفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء 591.017 عونا في سنة 2014 من بينهم 465،2 ألف موظف و105،5 ٲلف عامل. وفي سنة 2014، كانت الشرائح العليا أ1 (85،9 ألف) وأ2 (124،1 ألف) تمثل 35% من المجموع. وتستوعب وزارات التربية الوطنية (32،48% من مجموع العاملين) والصحة العمومية (12،63%) والتعليم العالي والبحث العلمي (6،71%) أكثر من نصف عدد العاملين في الوظيفة العمومية. وقبل سنة 2011 كان عدد أعوان الوظيفة العمومية ينمو بنسبة 1% في المتوسط، وهي نسبة تضاهي تقريبا نسبة النمو السكاني. 
وبعد سنة 2011، انقلب الوضع رأسا على عقب. ففي الفترة الممتدة بين 2010 و2011 ازداد عدد أعوان الوظيفة العمومية بنسبة 2،16% ثم بـ 19،81% بين 2011 و2012 وبـ 4،76% بين 2012 و2013 و 5،86% بين 2013 و2014. ولا نعرف على وجه الدقة عدد العاملين في الوظيفة العمومية في سنة 2015 و2016. والخطأ محمول على الحكومة حيث أن أعضاءها يقعون في التناقض كلما أدلوا بتصريحات في هذا الخصوص. ومهما يكن من أمر فإن التلويح بأن عدد الأعوان سجل زيادة منذ سنة 2015 بـ30 أو 40 أو 50 ألف بحسب المصادر، و الخوض في هذا الموضوع لا ينفع بالنظر إلى تعداد يبقى في كل الحالات في غير علاقة مهما كانت طبيعتها مع ديمغرافية البلد ومع إمكانياته واحتياجات سكانه.
الصادم حقيقة في هذا الصدد يبقى متمثلا في الظروف التي تمت فيها الانتدابات بعد 14 جانفي 2011 وفي طبيعتها. فخلال الفترة المتراوحة بين 2011 و2014 ازدادت أعداد العاملين في الوظيفة العمومية بمقدار 155،7 ألف نفر. وتطوّر عدد الأعوان ضمن الشريحة أ1 من 63،5 ألف في سنة 2010 إلى 85،9 ألف في سنة 2014؛ فيما ارتفع عدد الأعوان المنتمين إلى الشريحة أ2 من 85،7 ألف إلى 124،1 ألف في سنة 2014. وبموازاة ذلك، بقي عدد الأعوان من شريحة أ3 هو هو لم يتغير تقريبا. ولم تتجاوز نسبة النساء ضمن المجموع العام 39،5% في سنة 2010 ولم تمثلن في نهاية الفترة 2011–2014 إلا 36،4% لا أكثر ( نسبة استفادتهن من الانتدابات لم تتجاوز 28%). حينما نأخذ في الاعتبار ونقارن تطوّر نسبة البطالة بحسب الجنس، فإننا نقف عند حقيقة صادمة مفادها أنّ سياسة الانتداب سياسة تفوح منها رائحة التمييز على أساس الجنس والتفريق الجنسي.
ونرى كيف أنّ الضغوط المسلّطة على ميزانية الدولة بمفعول مقدار الأجور والمرتبات في الوظيفة العمومية أصبحت حقيقة لا سبيل إلى إنكارها في كل الأحوال. لقد مثّل هذا المقدار 67،2%  من نفقات التسيير العامة في سنة 2015 و62،6% من المقابيض  الجبائية مقابل 67،8% و 53،4% على التوالي في سنة 2010. وبما أنّ الأجور والمرتبات في الوظيفة العمومية قد ازدادت بنسبة 70،7% خلال الفترة المتراوحة بين 2010 و2015 مقابل 45،6% بالنسبة إلى المداخيل الجبائية، فإنّ تأثيرها على المالية العمومية لا يمكن أن يحمل على ارتفاع حجم الانتدابات والأجور بين 2010 و2011 وحده. أن تبلغ نسبة التهرب الجبائي 40% من المداخيل الجبائية، فهذا يدفع إلى تنسيب وجاهة هذا الربط.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الأجور والمرتّبات في الوظيفة العمومية قد مثلت نسبة 13،5% من الناتج المحلي الخام بالأسعار الجارية 2015 مقابل 10،7% فقط في سنة 2010، أمر لا يمكن أن يتحمله اقتصاد بلد لم يتجاوز نمو ناتجه الخام بالأسعار الجارية نسبة 35% بين 2010 و2015 مقابل 70،7% بالنسبة إلى الأجور والمرتبات في الوظيفة العمومية.
النقاش الذي يدور الآن حول كلفة الإدارة العمومية يعيد إلى الأذهان في الواقع نقاشا يتكرر حول مستوى الأجور في تونس مقارنة بالبلدان المجاورة أو بتلك التي تشبه تونس اقتصاديا. البعض يعتبره مرتفعا إلى حدّ كبير، ويرى آخرون أنه هو المتسبب في تدني القدرة التنافسية وهروب الاستثمارات المباشرة الخارجية إلى المغرب على سبيل المثال. لكن يكفي أن نلقي نظرة فاحصة على المعطيات التي يتضمنها التقرير الدولي المتعلق بالأجور الصادر عن منظمة العمل الدولية 2010-2011 حتى ندرك مدى ما ينطوي عليه هذا الجدل من مغالطة. صحيح أن الأجر الأدنى الشهري في تونس إذا ما تم احتسابه على أساس القدرة الشرائية للدينار التونسي يبدو مرتفعا قياسا بالمعدل الإفريقي، لكنه يظل دون الأجر الأدنى الشهري في المغرب. ومهما يكن من أمر، فإن ما يكتنف النقاش حول عدد الموظفين من لاعقلانية يلهينا عن المشاكل الأخرى التي تتخبط فيها الإدارة العمومية: علاقات سيئة إلى أبعد الحدود مع الذين يتلقون خدماتها وفوضى عارمة ومسؤولون مسلوبو الإرادة، أياديهم مرتعشة، تسيب في تفاقم وإخلالات وفساد ورشاوى... كل ذلك يؤثر سلبا في مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلد.
لقد مرّ رئيس الحكومة على كل هذه المشاكل مرور الكرام وظلّ كلامه عنها هشّا مائعا وغير عملي. لم ينبس ببنت شفه في خصوص ذلك العدد الهائل من الإدارات العامة صلب الإدارة العمومية. عدد الإدارات العامة صلب بعض الوزارات  التي شاءت أن تكشف عن هيكلها التنظيمي يناهز 108 (بعض المصادر تشير إلى أن العدد أرفع بكثير ويفوق 300 إدارة عامة). عدد الإدارات العامة في الوظيفة العمومية في فرنسا لا يتجاوز 36، ويتجاوز عدد الموظفين الذين يتقلدون منصب إطار سامي أو إطار مديري في تونس 15 لكل ألف عون، مقابل أربعة في فرنسا. وقد تشكلت في 1982-83  لجنة فنية مكلفة بإصلاح نموذج تأجير الموظفين بغرض التصدي لتضخّم عدد المناصب "الوظيفية" وأوصت في نهاية المطاف بتخفيف السلم وباعتبار أنّ الأجر القاعدي هو الذي ينبغي اعتماده كعنصر أساسي للتأجير. وبعدها ترك الحبل على الغارب كما لو أن شيئا لم يكن.هذا بالضبط ما يتناوله صندوق النقد الدولي بالنقد من خلال توصيته بمراجعة مقياس  الأجور ( أجور الوظيفة العمومية)، لكنه لا يقف نفس الموقف من كمّ الموظفين ضمن منشوراته المتعلقة بالبلاد التونسية وذلك عكس ما يقال باستمرار؛ هو يشدّد على الحاجة إلى إصلاح الوظيفة العمومية " الذي ينبغي أن يكون متزامنا مع إصلاح جبائي أكثر إنصافا وذلك عن طريق توسيع قاعدة الأداء". صندوق النقد الدولي يذهب إلى أكثر من ذلك. فهو يفرّق بين منوال النموّ ومنوال التنمية وذلك عكس ما يذهب إليه بعض مناوئيه ومؤيّديه على حد السواء داخل الحكومة وخارج الحكومة.
لم نر قط صندوق النقد الدولى أو أيّة مؤسسة مالية دولية أخرى تنحى باللائمة على دول مثل الدانمرك والنرويج وفنلندة أو السويد بسبب "تفاقم" عدد الموظفين. لو فعلت، لقوبل موقفها بالسخرية. لم يزعم أي خبير في الاقتصاد أنّ عدد الموظفين في البلدان الاسكندينافية يعرقل التنمية فيها (مؤشر التنمية البشرية في هذه البلدان هو الأعلى في العالم). فمثل هذا الزعم لا يخلو من عبثية.
المشاكل التي تثيرها الإدارة العامّة لا تقتصر على التكلفة والكم رغم أهميتهما كما أشرنا إلى ذلك آنفا؛ إنما تشمل أيضا تكوين الأعوان وكفاءتهم ومردودهم وتحلّيهم بالنزاهة وجودة الخدمات التي يقدمونها للمواطنين. هذا ما كان على الحكومة أن تقوم به عوض اتخاذ كمّ الموظفين في الإدارة ذريعة للتلهية وصرف الأنظار.
الحبيب التوهامي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.