إستراتيجية التوافق ونظام الحكم: خطآن جسيمان أعاقا الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي في تونس

إستراتيجيةالتوافق ونظام الحكم: خطآن جسيمان أعاقا الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي في تونس

عند انجاز الدستور الجديد أوائل 2014، استبشر الجميع واعتبروه انجاز عظيما ووُصف بأنه من أحسن دساتير العالم. وهو كذلك فعلا في ما يخص الحريات والشفافية والمساواة إلى غير ذلك... وكان من بين المحاور الأساسية التي تضمنها هذا الدستور الجديد نظام حكم برأسين نادر وجوده في بقية دول العالم، إذ الهدف من ذلك هو عدم احتكار الحكم والاستفراد به من طرف شخص واحد وتقسيمه بين شخصين هما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. ورغم أن الهدف نبيل في حد ذاته، إلا أنه بعد أكثر من سنتين من الحكم بدأت تتضح محدودية هذا التصور وتأثيره السلبي على سير دواليب الدولة. لقد تبين الآن أنه عندما يكون رئيس الجمهورية المنتخب يرأس أو حتى ينتمي فقط للحزب الأغلبي في البرلمان (على الأقل مباشرة بعد الانتخابات) يجد نفسه حر في تسمية رئيس حكومة من حزبه وهنا تكمن إحدى نقاط ضعف النظام برأسين لأن رئيس الحكومة سيعتبر أن رئيس الجمهورية ولي نعمته عندما اقترحه في هذا المنصب وأنه يبقى مهددا بالإقالة في كل لحظة يدخل فيها في تناقض مع رئيس الجمهورية. وبذلك يتحول رئيس الحكومة إلى وزير أول يأتمر بأوامر رئيس الجمهورية فينزلق النظام نحو نظام رئاسي مثلما نلاحظ حاليا عندما نرى رئيس الجمهورية يستقبل جميع أنواع الوزراء ليطلعوه على أنشطتهم ومشاكلهم ويقترحون عليه حلولهم، وهذا أمر لا يستقيم لأنه ليس لرئيس الجمهورية دستوريا أن يتدخل في أي عمل وزاري، وبالتالي حكومي، ما عدا وزارتيْ الخارجية والدفاع. ومن الدلالات الأخرى على توجه نظامنا نحو نظام رئاسي مثلا زيارة رئيس الجمهورية إلى ولاية قفصة سابقا وإلى ولاية المنستير مؤخرا لمتابعة النشاط التنموي للجهتين والإعلان عن مشاريع جديدة هي من مشمولات الحكومة ورئيسها فقط.

أما الجانب السلبي الثاني لنظام الحكم هذا، فهو عندما تأدِّي الانتخابات الرئاسية إلى انتخاب رئيس جمهورية ليس له نواب من حزبه في البرلمان أو له أقلية غير فاعلة. عندها لا يمكن تصور صعوبة التعامل بين رئيس جمهوريةمن المعارضة ورئيس حكومة من الأغلبية قد تنتهي بالتأكيد إلى حرب كلامية وإعلامية وسياسية بينهما تفقد هياكل الدولة انسجامها وتقسم المجتمع وتعطل النشاط الاقتصادي في البلاد. وهذه الوضعية ليست مستحيلة وقد نعيشها في الانتخابات الرئاسية القادمة. لذلك، لا بد لجميع السياسيين التونسيين من إعادة التفكير في نظام الحكم برأسيْن والاعتراف بأننا أخطأنا في اجتهادنا ثم القيام بإصلاح هذا النظام بتحويله وبكل بساطة إلى نظام برلماني يُنتخب فيه رئيس الحكومة حصريا من الحزب الأغلبي، ولا يمكن استثناء أي حزب من هذا النقد الذاتي سوى حركة النهضة التي تشبثت دائما بنظام برلماني وقبلت في النهاية على مضض نظام الرأسيْن حتى لا تعطل انجاز الدستور الذي طال انتظاره من بداية2012 إلى بداية 2014. ويجرنا الحديث هنا عن الأغلبية البرلمانية إلىمعضلة ثانية وهي النظام الانتخابي في الانتخابات التشريعية الذي لا يمكّن بطريقته النسبية الحالية أي حزب من الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان. وهذا الوضع يجبر الأحزاب الكبرى على القيام بتحالفات غير موضوعية للحصول على أغلبية برلمانية ليست دائما مضمونة وقد تُحل في أي وقت من الأوقات، بمجرد حصول تناقض في الآراء والسياسات بين الأحزاب المتحالفة. فهذا النظام الانتخابي النسبي الحالي لا بد كذلك من تغييره إلى نظام انتخابي أغلبي يمكّن الحزب الفائز الأول في الانتخابات التشريعية من الحصول على أغلبية برلمانية مطلقة تجعله قادر على انتخاب رئيس حكومة وتكوين حكومة وحده، دون أن يمنعه ذلك من التحالف مع أحزاب أخرى إذا أراد توسيع قاعدته البرلمانية والشعبية.

أما الموضوع الثاني والهام الذي يجب مراجعته خارج إطار الدستور، فهو ما يهم إستراتيجيةالتوافق التي تتشبث بها حركة النهضة وتدافع عنها بشدة. فالفكرة في حد ذاتها جيدة حيث ترتكز على التشارك في الحكم بين أكثر ما يمكن من الأحزاب وبذلك تتحمل هذه الأحزاب الحاكمة جميعا مسؤولية تسيير الدولة بدلا من الاستقطاب الثنائي بين قطب أحزاب حاكمة من جهة وقطب أحزاب معارضة يقسم المجتمع ويدخله في صراعات تعود بالضرر على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية مثلما كان الشأن أيام حكم الترويكا بين 2012 و 2013. إلا أن المتأمل في الوضع الحالي الذي انبثق عن انتخابات خريف 2014 يتبين له بأن الوضع ليس أفضل خاصة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. والمشكل الأساسي هنا هو أن الأوضاع المتردية التي آلت إليها تونس لا يمكن تحميل مسؤوليتها لطرف سياسي معيّن حيث أن كل طرف يعتبر نفسه كمشارك في الحكم، لا يستطيع أن يدير شأن البلاد حسب برنامجه الخاص وبذلك فهو لا يتحمل المسؤولية في أي فشل. وهنا يحاول كل طرف سياسي في تحالف الحكم بأن يجاري الوضع دون الوصول إلى اتخاذ قرارات جريئة وإصلاحات موجعة تفقده رصيده الانتخابي ويبقى الوضع المتردي على ما هو عليه إن لم يستفحل أكثر ثم تمر سنوات إثر سنوات بعد الثورة دون تحقيق جزء ولو يسير من استحقاقات الشعب الاقتصادية والاجتماعية. لكل هذا، لا بد من إعادة النظر بجدية في استراتيجية التوافق التي تعطي الانطباع بأن البلاد بخير، ولكن ذلك ليس إلا انطباعا يخفي داخله أتعاب وهموم الشعب التونسي التي تنتظر الحل. لذلك يبدو أنه من الأفضل مع اقتراب نهاية الفترة النيابية الحالية سنة 2019، أن تقدم الأحزاب وخاصة منها الكبرى (كل على حدة) مشاريعها الإصلاحية والتنموية للشعب التونسي وتترك له الاختيار عبر صناديق الاقتراع. وإذا تدرجت الأمور نحو هذا الاتجاه، فمن المرجح أن تتم المنافسة بين قطبين كبيرين، أحدهما إسلامي ديمقراطي بقيادة حركة النهضة والثاني ديمقراطي اجتماعي ليست له حاليا قيادة، ولكن من المؤكد أنها ستنبثق عن أحد الأحزاب أو التيارات أو الحركات ذات الطابع الوسطي والوسطي اليساري الذي سيقدم مشروعا منافسا للقطب المقابل. وهنا ليس المهم من هو القطب الذي سيحمله الناخبون إلى سدة الحكم، بقدر ما هو مهم أن يقوم القطب الفائز في الانتخابات بتطبيق مشروعه على أرض الواقع بكل جدية وجرأة، ثم يتحمل في ذلك مسؤولية كاملة أمام قطب معارض قوي يقدم مشروعا بديلا قد يكون أفضل بمناسبة الانتخابات الموالية، وبذلك يحصل التداول على الحكم لما فيه مصلحة تونس بعيدا كل البعد عن التصنيف والإقصاء والتخوين. ويبدو أن هذه الأفكار التي تحث على إنهاء التوافق سنة 2019 واستبداله بمنافسة شريفة بين مشاريع تنموية هي نفسها التي تدفع الآن السيد مهدي جمعة إلى بعث حزب بديل فاعل ذي طابع ديمقراطي اجتماعي قد يتحالف مع أحزاب وتيارات أخرى تشبهه، يمكن له أن ينافس حركة النهضة وحلفائها من أحزاب وتيارات وسطية ووسطية يمينية قد يكون من مكوناتها جزء من نداء تونس الحالي. والمهم في هذا المجال، هو أن تتم المنافسة بين القطبين، الإسلامي الديمقراطي والديمقراطي الاجتماعي، في كنف الاحترام المتبادل بينهما وكذلك في كنف احترام ذكاء الشعب التونسي الذي مل من الشيطنة والتخوين والإقصاء، حيث أنه مثلا من المستبعد جدا أن تنجح جبهة الإنقاذ التي تكونت مؤخرا في استقطاب أغلبية من الناخبين بالاعتماد على خطاب يشيطن حركة النهضة مثلما فشلت حركة النهضة نفسها سابقا في شيطنة نداء تونس.   

د. بوزيد نصراوي
أستاذ جامعي



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.