"سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !" مرثيّة اللغماني لبورقيبة
تزامنا مع الاحتفال بالذكرى السابعة عشرة لرحيل الزعيم الحبيب بورقيبة، تنشر ليدرز قصيدة " سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !" والتي رثى بها الشاعر ٲحمد اللغماني الزعيم الحبيب بورقيبة إثر وفاته يوم 6 أفريل 2000.
وقد تم نشر هذه المرثية في كتاب " ٲحمد اللغماني: الٲعمال الشعرية الكاملة" والذي ٲصدره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة".
"سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !"
إنَّ صَدْرِيَ حضنٌ يضمُّ رزاياهُ * وقد تحضنُ الرّزايا الصّدورُ
يكبرُ الصّبرُ قدرَ مَا يكبرُ الخطبُ * كَذا يعدِلُ الكبيرَ كبيرُ
يَصْلُبُ الطّبعُ بالهُمُوم كما * يَصْلُبُ بالنّار معدِنٌ مصهورُ
إنْ أكنْ نِدَّ محنَتي فلأنّي* بِالبلايا مُمَرَّسٌ وخبيرُ
عِنْدَمَا أَلْتَقِي بِهَا ليسَ يُدري * أيُّنا دافعٌ، وأيٌّ مُغيرُ
إنّ شَأني مَعَ البَلايا صُمودٌ * مُتَحَدٍّ لاَ يزْدهيهِ غُرورُ
وَشهيدي قصيدتي رغم حُزني * لا شهيقٌ يُذلُّها، لاَ زفيرُ
فهيَ ليستْ مَرثيّةً تسفحُ الدّمعَ * كما يُسفحُ الدّمُ المَهدورُ
هي من فورةِ المشاعِر إعْصارٌ * ومن ثورةِ الضّميرِ هديرُ
تنبَري فِي اتّجاهِها لاَ تُبالي * أسُهولٌ دُروبُها أمْ وُعورُ
هيّنٌ عندَها العظيمُ، مريءٌ * عندها المرُّ، والعسيرُ يسيرُ
بنتُ وجْدانيَ العنيدةُ: لاَ يبلغُ * نُصْحٌ مِنْهَا وَلاَ تحذيرُ
تتحدّى الضّنَى كَمَا يتحدّى * الصّخرُ موجَ المُحيط إذْ يستطيرُ
وتُغالي تطرّفًا: لاَ حيادٌ * بينَ بينٍ وَلاَ اعْتدالٌ وقورُ
هَكَذَا شئـتُ أن تكــونَ فكــانتْ * طِبْقَ طبعي: لاَ تَشْتكي بل تثورُ
عشتُ عمري عَلَى شريعةِ طبعي: * ما بصدري بجبْهتي منْشورُ
ليسَ لِي عقْدةُ التّقيّةِ: أفكاري * عذارَى يزينُهنّ السّفورُ
فاقْرأوني عَلَى سُطوري ! فلا أسرارَ * لِي غيرَ مَا تَخُطُّ السّطورُ
وضميري هُو المحكّمُ فِي أمري * وما غيرُهُ عَلَيَّ أميرُ
أَيُّهَا الرّاحلُ الحزينُ ! تمهّلْ * بعضَ حينٍ ! فلِي حديثٌ أَخِيرُ
وحَديثي إليكَ نجْوى نَجِيٍّ * قلبُه طافِحٌ أسًى، مَوتورُ
قد تهاوتْ بكَ السِّنونَ وأبلَى * الشّيبُ مَا أبْدعَ الشّبابُ النّضيرُ
تلكَ أطوارُ قصّةِ المجدِ: نُعمى * ثمّ بُؤسى، والمجدُ نارٌ ونورُ
لستُ آسَى أنّ المقاديرَ أقصتْكَ * فلِلْحكمِ هَبَّةٌ وفُتورُ
عُمُرُ المجدِ ذُو امْتدادٍ مَعَ الآمادِ * والحُكمُ عُمرُهُ مبتورُ
مِثْلما الحكمُ لم يزِدْ مجدَكَ الشامخَ * مجدًا، فَسَلْبُهُ لاَ يضيرُ
لستُ آسَى لذاكَ ! إنّ أسايَ * المرَّ هَذَا الجحودُ والتّزويرُ
فكأنْ لم تكنْ لتونسَ مصباحًا * منيرًا إذْ أطبقَ الدّيجورُ
إذْ تولّى مصيرَ تونسَ محتلٌّ * خبيثٌ وآمرٌ مأمورُ(1)
وكأنْ لم تَفُكَّ قيدًا وطوقًا * فاستراحتْ معاصِمٌ ونُحورُ
وكأنْ لم يسُدْ بفضلكَ حُكمٌ * تونسيٌّ، وَلَمْ يَقُمْ دستوُرُ
نسِيَ القومُ؟ أَم تناسَوْا ! فهلْ * يُجدي ملامٌ؟ أو ينفعُ التّذكيرُ؟
أينَ ذاكَ الهتافُ فِي كلّ بطحاءَ * يُدوِّي؟ أين النّداءُ الجهيرُ؟
أين «نَفديكَ بالدّماءِ وبالأرْواحِ»؟ * أين التّطبيلُ والتّزميرُ؟
أين راحَ الروّادُ؟ أين «الحَوَاريّون»؟ * لا دعوةٌ وَلاَ تبشيرُ
كفروا بانتمائِهمْ واسْتجدُّوا * حين جدّتْ بَعْدَ الأمورِ أُمورُ
أَيْنَ شعرٌ تَحَلَّبتْ مِنْهُ أطماعٌ * جياعٌ، وَغِيضَ فِيهِ الشّعورُ
سالَ سيلَ السّراب فِي فَدْفدٍ أغبرَ * لا ظلَّ عنده، لاَ غديرُ
مُبْدعوهُ إنْ كَانَ ثَمَّتَ إبداعٌ * سَمَاسِيرُ هَمُّهم توفيرُ
رصَدُوا من نفاقِهمْ رأس مالٍ * ثمّروهُ، وأثْمرَ التّثميرُ
ونُفوسُ المُنافقينَ بَغَايا * ضاقَ عَنْهَا الرّصيفُ والماخورُ
أين أهلُ الوفاءِ؟ قَد أنكر الأحبابُ * أحْبابهم، ونَدَّ العشيرُ
«قَلبُوا النّعلَ»(1) عِنْدَمَا انْقَلَب الوضعُ * وفَرُّوا كَمَا تفرُّ الطّيورُ
سُحِبَ الغارُ من عَلَى الجبهةِ الشمّاءِ * فالشّوكُ حولَها مَضْفورُ
هَكَذَا تُجْحدُ الأيَادي ويُجزَى * بالتّجَـــنّي صَنيعُـــكَ المشكورُ
كم سُعاةٌ سعوا إِلَيْك ! ومسْعَاهُم * خدَاعٌ، وَوُدُّهمْ تغْريرُ
مَلَأُوا حولك الفَضَاءَ ذبابًا * ثم حطّوا، وبعدَها لم يطيرُوا
أنتَ أَعليْتَ شَأْنَهمْ فتَعَالَى * قاصِرٌ واستطالَ منهُم قصيرُ
هُمْ رؤوسٌ جَوفاءُ فهي طبولٌ * وَقلوبٌ صمّاءُ فهي صُخُورُ
هُم عصافيرُ فِي ازْدحامِ المُلمّاتِ * وفي فُسحةِ الأمَانِ صُقورُ
همْ عَلَى مشهدٍ من العينِ حُملانٌ * وفي خُفيةٍ ذئابٌ تُغيرُ
همْ أولاء الذين كانوا لنعليْكَ * بِسَاطًا يُمَدُّ حيثُ تسيرُ
همْ أُولاءِ الذينَ أكْرمتَ دَارُوا * يَوْمَ راحتْ بكَ الرّياحُ تدورُ
وطأُوا مجدَكَ المُنيفَ ونالُوا * منكَ لمّا هَوى بك المقدورُ
أنا أدرَى بهَؤلاءِ: فلا عهدٌ * وثيقٌ، لاَ ذمّةٌ، لاَ ضميرُ
قَصَبُ الرّيحِ هُمْ، لهم من * طباعِ الرّيحِ ذَرْيُ الغُبارِ والتّصفيرُ،
ألِفُوا غدْرهمْ فَهَان عليهمْ * أنْ يُنالَ القَفَا وتُرْمَى الظّهورُ
فئةٌ سبّحتْ بحمدِكَ أزمانًا * وتسبيحُها نِفاقٌ وزورُ
مثلَما مَجَّدتْكَ بالأمسِ راحَ * اليومَ يرميكَ غَدرُها المسعورُ
يا لَعَارِ الرّجال ! يَا وصمةً تُومي * إليهمْ فضّاحةً وتُشيرُ !
وصمةٌ فِي تُراثنا تَقْرَفُ * الأجْيالُ مِنْهَا وتشمئزُّ الدّهورُ
سوفَ تبقَى عَلَى الضّمائر كابوسًا * مُنِيخًا تنهدُّ مِنْهُ الصّدورُ
قد يُطيحُ الإعصارُ بالدّوحةِ الفرعاءِ * لكنْ تبقَى ترفُّ الجذُورُ
ثُمَّ يَشَّقَّقُ الأديمُ وينْمو * من جديدٍ دوحٌ عَتِيٌّ قديرُ
أَيُّهَا الراحلُ الموَدّعُ ! رِفْقًا ! * إنّ خلفَ الضّلوع جُرحًا يَمُورُ
هو جرحٌ ينزُّ مَا نزّتْ الذّكرى * بأوجاعِها فَشَبَّ السّعيرُ
هو جُرحي أنا ! لَهُ من وَريدي * دافقٌ مُضرمُ النّزيفِ يفورُ
بوركَ الجرحُ ! ينهلُ المجدُ من * منْزَفِه فهْو سلْسبيلٌ نميرُ
بوركَ الجرحُ ! إنّه فِي انْفرادي * لِي أنيسٌ وَفِي سُهادي سميرُ
ضيقَتي مِنْهُ فُرجةٌ، وعذابي * مِنْهُ مستعذَبٌ، وحُزْنِي حُبورُ
عجبي من طوارئ الدّهرِ ! فالضَّرَّاءُ * سَرَّاءُ، والنّذيرُ بشيرُ
بوركتْ نخوةُ الخُلودِ ! لَهَا من * مُهُجاتِ المُخَلَّدِينَ مُهورُ
ميزةُ الخالدين يَا خالدَ الذّكرِ * حياةٌ لاَ تحتويهَا القُبورُ
غُيَّبٌ عَن عُيونِنا ولهم في * الْقلبِ مأوًى، وفي الضّمير حضورُ
إن تكنْ بينهم فإنّك فيهمْ * سيّدٌ مفردٌ، وهم جُمْهورُ
سيّدًا كنتَ، سيّدًا سوفَ تبقَى * تحتَفي باسمِكَ «الحَبِيبِ» العصورُ
تشهدُ الأرضُ والسّماءُ وَمَا بينَهما * أنّك الكبيرُ الكبيرُ
شامخٌ أنتَ فِي الحَيَاةِ وفي الموتِ * مُدِلٌّ بِمَا صنعتَ فخورُ
فلْتُرَجِّمْ بِمَا تشاءُ السّراديبُ ! * وتنفُثْ مَا تستطيعُ الجُحورُ !
العُقولُ الصّغارُ تحسبُ أنّ المجدَ * هَشٌّ: تدميرُهُ ميْسورُ
يَا لسُخْف العُقولِ ! هَيهاتَ أنْ * يُدركَ سِرَّ الخلودِ عقلٌ صغيرُ !
دعْكَ من صرعَةِ الدّراويشِ ! يُرخيها * بَخُورٌ، يشدُّها بِنْديرُ
إنّها رغْوةٌ عَلَى شفةِ الموجَةِ * تشتدُّ لحظَةً وتَخُورُ
ثم تنهدُّ، ثُـمَّ تنساحُ فِي السّطحِ * وَفِي غمْرةِ الخِضَمِّ تغورُ
أَيُّهَا الرّاحلُ الطّليقُ ! إِلَى أعلى * الأعَالي بَيْنَ البُروجِ يطيرُ
اهْنأِ الآنَ ! واطْمئنَّ ! فلنْ * يُضْنيكَ كيدٌ يكيدُه شِرّيرُ
عِشتَ عُمْرًا مُبَلْبَلًا: مبْتَداهُ * ذُو مآسٍ، ومُنتهاهُ كسيرُ
كلّ أيّامِه الطّوالِ قرابينُ * لإسْعادِ تونسٍ ونُذورُ
شَرَفُ العُمر أن يُبَذَّرَ فِي الخير * وفي الخيرِ يحُمدُ التّبذيرُ
وَرَخيصُ الأعمارِ يُبْطِرُهُ الشُّحُّ * ويُنْمي حُطامَهُ التّقتِيرُ
جئتَ هذي الحَيَاةَ والوطنُ الغالي * سليبٌ وشعبُه مَقْهورُ
ثمّ فَارقْتَها وتونسُ محميٌّ * حِمَاها وَشَعْبُهَا مَنصورُ
دَقَّتِ السّاعةُ الرّهيبةُ، حَلَّ، * الموعِدُ الحقُّ واستبانَ المصيرُ
وتلقّاكَ مِنْ ثرَى تونسَ حِضنٌ * حنونٌ ومُستقِرٌّ قَرِيرُ
حَبَّذَا الموتُ للخُلودِ صراطًا * مُسْتقـيمًا يحــلُو عَلَيْهِ العبُـــورُ !
إنّ موتَ العزيز نصرٌ عَلَى الموتِ * لهُ العزُّ ناصرٌ وظهيرُ
مثلَما تسقُط الجِيادُ عَلَى الشّوطِ * وتهوي تحتَ السّياطِ الحميرُ…
… يَردُ الموتَ فِي ميادينِه الشّهمُ * وَيَرْدَى من ذُعرِهِ المذْعورُ
يَا طليقَ الجناحِ ! لمْ يبقَ بعدَ * اليومِ فِي الكَوْن مسرحٌ محظورُ
فاهْجُرِ الأرضَ ! إنَّهَا دارُ كيدٍ * وشُـرورٍ معمُورُها مهجورُ
وانْطلقْ صاعدًا إِلَى حيثُ لا * يصعدُ كيدٌ وَلاَ تطولُ شرورُ
وسيقْضي التّاريخُ فيكَ قضاءً * عادلًا فهْو حاكمٌ لاَ يَجُورُ
أَيُّهَا الرّاحلُ العزيزُ ! ومن * عِزِّكَ عِزِّي مُستلْهِمٌ مُستنيرُ
أنتَ منّي فِي حَبَّةِ القَلْب * محفوفٌ بِوُدِّي، بِغَيْرَتي مخْفورُ
هُوَ ذا مَا رغبتَ مِنّي(1) سحابًا * مُثقَلًا صابَ منهُ صَوْبٌ غزيرُ
بَعْضُه سَالَ هادئًا فِي مَجاريهِ * وَبَعْضٌ عُبَابُه مسْجورُ
فهو حينًا تَوَجُّعٌ غَطَّهُ الكْبِرُ * وَحِينًا تَمَرُّدٌ وزَئِيرُ
كنتُ أدعُو بِهِ رثاءً حزينًا * هادئًا لاَ يثورُ، لاَ يسْتثيرُ
فأتانِي بُركانَ غيظٍ عنيفَ * القَذْفِ، منْ جَوْفِه السّعيرُ يَفُورُ
فَجَّرَتْهُ حَمِيَّتي وَوِدَادِي * فَشَفاني، وراقَنِي التّفجيرُ
فتقبّلْهُ نفحَةً من صُراحِ الوُدِّ ! * يُهديكَها وَدودٌ غيورُ
نفحةٌ من مَوَدّتي هِي كنْزي * وبِما عندَه يجودُ الفقيرُ
يَا رَئيسِي ! وَكِدْتُ أَدْعُو «حِبِيـبِي» * وَمِنَ الحُبّ جُرأةٌ وغُرُورُ
حَسْبُ حُزْنِي عَلَيْكَ هذي التّراجيعُ * اليتامَى، واليُتْمُ رُزْءٌ مَرِيرُ
هِيَ حُزْنِي طَغى فَضَاقَ بِهِ صدرٌ *رحيبٌ، وجاشَ جَأْشٌ صبورُ
هِيَ حُزْنِي مجرّدًا: لاَ تهاويلُ *خرافيّةٌ وَلاَ تصْويرُ
وهْيَ حُبِّي: بِهِ تطامتْ بحارٌ * وَبِآياتِهِ تَغَنَّتْ بُحورُ
هِيَ حُبِّي الطَّهُورُ: يُكبرهُ منْ* رَفَّ فِي جَانحَيْهِ حُبٌّ طهورُ
وَهِيَ فِي لَوعَةِ الأسَى ذاتُ كِبْرٍ* لا شَهيقٌ يُذِلُّها، لاَ زفيرُ
أحمد اللّغماني
- اكتب تعليق
- تعليق