فساد الملح
هل الملح يشوبه الفساد، التساؤل غريب ومستفز وهل لمادة جوهر تركيبتها المحافظة من الشوائب وعاديات الزمن أن تتدهور، طبعا لا، فمنذ اقدم العصور شكل الملح مادة استراتيجية، ومادة مهمة في المبادلات وحتى وسيلة دفوعات وللتدليل عن أهميتها يذكر المؤرخون أن الكتائب الرومانية تخلت عن أساليب استباحة المناطق التي تحتلها جراء الاطمئنان على تزويدها بالمؤن المحفوظة بالملح مما اشاع السلم الرومانية طويلا. الملاحظ أن الإنتاج العالمي من الملح يفوق 300 مليون طن نصيب تونس منها حوالي مليون ونصف المليون طن هذا الملح لا يفسد ولم يكن موضوع شكاوى أو بلاغات غاية ما في الأمر التنديد بامتياز ممنوح لشركة اجنبية لاستغلال تلك المادة مدة 50 سنة.
أما الملح الذي يمكن ان يفسد فهو الملح الرمزي وهو القوة الناعمة لكل شعب أو امة وتتمثل في نخبها السياسية والاقتصادية والإدارية والعلمية والثقافية وما عداها من المجالات، لحمايتها وتنمية قدراتها على مواجهة الظرفي والاستراتيجي. العبارة ملح الناس طريفة وغير مسبوقة إلا أنها عريقة وردت في كتاب الإخباري ابن عذاري المراكشي والمعروف بالبيان المغرب في تاريخ الأندلس والمغرب، نقل إذا ابن عذاري شهادة ابن حيان الأندلسي إثر واقعة أليمة لمسلمي الأندلس في مواجهة النصارى الذين استفادوا من الخلافات والنزاعات بين العرب والبربر وبين مكونات العنصرين نفسهما في ما عرف بالاسترداد لروكونتيستا، قال ابن حيان: لم تزل آفة الناس منذ خلقوا منهم هم كالملح فيهم، الأمراء والعلماء قلما تتنافر اشكالهم بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يردون. وسنورد ما ذكره ابن عذاري عن موقعة تغلب النصارى على قلمرية سنة 456 للهجرة.
الملح بين الأمس واليوم
ومما لا شك فيه أن المسألة اكتست وتكتسي دوما طابعا يشغل الناس وتنصب اهتماماتهم عليه إذ يتابعون الاخبار بصحيحها واشاعاتها وماذا صدر من تصريحات وتعاليق وحوارات يستطلعون صباح مساء ما هو حال البلاد إلى أين نتجه وماهي مواقف المسؤولين في أمهات القضايا ومن الطبيعي أن يزداد الاهتمام خاصة في ظل الخلافات بين مكونات الطبقة السياسية والاشكاليات المالية والاقتصادية، فتونس وصلت عتبة التداين المفرط وتعيش فوق إمكانياتها والحال أن النمو منخفض ولا يقلع، والاستهلاك رحى لا تفل بينما تتكاثر البطالة وتطحن المتميز والعادي.
وإذا فالاحتكام للنخبة له ما يبرره، فهم الحافظون لوطنهم المدافعون عنه وأصحاب الرأي والقرار للخروج من ربقة الأزمات لكن يبدو أن لا مخطط للغرض نال إجماعأ أو على الأقل أغلبية مريحة فالوضع السياسي والاقتصادي في أسوأ حالاته ولم تكن انطلاقة السنة الجديدة موفقة إذ حملت جملة من الأحداث الحارقة: إصرار من نقابات التربية على إزاحة الوزير وتحركات واعتصامات في عديد المناطق للمطالبة بتنفيذ وعود التنمية والتشغيل وإزالة التلوث، والحكومة كمن تكاثر عليه الغرماء يعد تارة ويلوذ بالصمت أو التهرب تارة أخرى. فحسبها مواجهة المتأكد الأجور والتحويلات الاجتماعية والسعي للحصول على القروض الموعودة لمواجهة عجوزات الميزانية العامة وميزان الدفع الخارجي لتغطية العجز التجاري وتسديد الديون. ولا شك أن جملة المؤشرات ولفت النظر الحازم لصندوق النقد الدولي جعل البعض يؤكد اقتراب البلاد من التجربة اليونانية المريرة. وما زاد في هذا الاعتقاد إعلان الحكومة نيتها بيع حصتها من رأس مال البنوك العمومية وبالموازات فقد أقيل وزير الوظيفة العمومية على خلفية ما ينبغي إدخاله من إصلاحات عليها ومقاومة أسباب الفساد فيها كما أقيل كاتب الدولة للتجارة جراء الاختلاف في الرأي حول سبل مواجهة العجز في الميزان التجاري وتأثير مناطق التبادل الحر علي المؤسسات الوطنية. كل ذلك بين بجلاء هشاشة الحكم التوافقي وصعوبة القيام بإصلاحات هيكلية من شأنها إعادة التوازنات الجملية للاقتصاد وتنشيط الاستثمار كأساس جوهري للنمو الاقتصادي وبالتالي تخفيض الاستهلاك العام والخاص، وقد تطورا بنسب هامة خلال السنوات الأخيرة إذا كيف يمكن التوصل إلى توافق حقيقي تكون عناصره جلية لا تتحمل تاويلات متعددة بعد طرح موضوعي للاشكاليات والاتفاق على الاهداف والوسائل وتقاسم الأعباء.
الأمة في حاجة إلى ملحها
من هنا نفهم أدوار النخب اي ملح الأمة فلها تعود مسؤولية مواجهة الأولويات في مجالات الأمن والإدارة والتنمية والصحة العامة والعمران والبيئة وهم مدعوون للاهتمام بقضايا الجهات وتشريك المجتمع والجمعيات في حلها وهم أيضا مدعوون الى انتهاج مسالك جديدة في تصرفاتهم وأعمالهم وفكرهم ومبادراتهم ليقوم البناء الحضاري الذي لا يستقيم دون استقامة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ملح الأمة هو صمام أمان من المخاطر وهو معين الكفاءة والنزاهة الفكرية والتجرد حتى يكون في خدمة البلاد جميعا فوق كل انتماء ولا تأخذهمفي الحق لومة لائم.
وإذا رجعنا لمصدر خواطرنا نجد معادلة عجيبة بين واجب الذود عن البلاد بالنسبة للأمراء وواجب النصح الخالص للعلماء. والمجموع يشكل النظام السياسي الذي من خلاله ومن خلال أداءه يتجلى سير الدولة والمجتمع خاصة في فترات الانتقال الديمقراطي فللحرية والديمقراطية متطلباتها وأهمها مجتمع سياسي ملتزم ورشيد و إدارة نظيفة و ذات قدرة على الانضباط وفي نفس الوقت حمل السياسيين على التقيد بالدستور والقانون،واعلام موضوعي في ما يتناوله من مسائل ومؤمن لدور الرقابة الاجتماعية دون أن يقع في التأثيرات والتبعية مهما كانت المسوغات.
لقد كانت الثورةمنطلق اكتشاف النواقص دون مواربة وفرضالاحترام للقانون بمايوطد الحرية والنظام في نفس الوقت.إلا أن الطريق مازالت طويلة و تستدعي القطع مع الممارسات الخاطئة لزمن الشمولية لكن يبدو من الواضح أن الديمقراطية التونسية لم تكن لها الانطلاقة المرجوة لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الاقتصادي وهذا ما تؤكده الأحداث من تصدعات في حكومة برنامج قرطاج والضغوط الممارسة من اتحاد النقابات لفرض وجهات نظرهم ومطالبهم حول الإصلاحات التي من شأنها تأمين التمويل الخارجي الذي صارت البلاد مرتبطة به و العودة التدريجية للتعافي والنمو. لكن هنا أيضا تعيق النقابات كل محاولة لإصلاح القطاع العام الذي تحول إلى أوقاف جديدة، و بدعوى أنها ملك للشعب والشعب متغيب،فإنها تبواتمنزلة المقدم عليه.ومهما كانت حاجة الشعب إلى املاكه حتى لا تغدو على الأقل مصدر تسديد خسائر الاستغلال وتحطم المعدات فإن للمقدم المذكور مصالح أخرى فيهاومما تؤكده مصادر ومنها النقابي فإن القطاع العام هو الموءل الأساسي لاتحاد النقابات من حيث الانخراط واقتطاعه االمباشر، أليس هذاهو لب الموضوع.ايمكن لبلد أن يواصل العيش والحياة بالاقتراض من الخارج ولا يستثمر اوينتج ما يكفيه ذل السؤال والتبعية لمن يضمن فيه ،أليست في النهاية دعوة للهيمنة عليه والتدخل في شؤونه.
أما الوظيفة العمومية والحوكمة والتي تم حذف الوزارة التي كانت تشرف عليها بصلاحيات واسعة جدا بما في ذلك الأجهزة الرقابية المفروض ان تكون مستقلة من كل تأثيرات، فهي في مرمى الإصلاحات لكن كيف وهي جيش قوامه ما يزيد عن 600 الف يتقاضون 15 الف مليون دينار والأمر يهون لو واكب النمو الاقتصادي سياسة الانتدابات والتسويات المنتهجة بعيد الثورة وصارت به تحت تأثيرات الأحزاب والنقابات إلى جانب ما يكتنف بعض من مصالحها من شبهات التهاون. وأورد هنا بعض أمثلة فقد صدر قانون 8 فيفري 2016 لتمكين متسوغي الأراضي الدولية من دفع أقساط مما تخلد بذمتهم من معاليم كراء وجدولة المتبقي على أقساط مع تجديد عقودهم ليتمكنوا من استئناف الاستثمار لكن لحد الان لم يتم اي شى من ذلك أليست الدولة بحاجة إلى مالها والى دفع حركة الاستثمار والإنتاج، المثال الثانى ويخص قطاع الإسكان فازاء ارتفاع أسعار العقارات والمساكن عرف القطاع مزيدا من البناء الفوضوي الذي صار يمثل 40 الف مسكن سنوياكما عرف بعض مشاريع سكن تعاوني لكن ما حصل لجمعية المدارس الابتدائية باريانة يغني عن كل تعليق فهذه الجمعية لها مشروع سكني ببرج التركي وهي تسعي لإنجازه منذ عشرون سنة واجهت خلالها كل العقبات والحواجز والمطامع أيضا وآخرها سعي دوائر من البيئة لاقتطاع جانب من موقع المشروع بدعوى ضمه لأرض محمية النحلي التي بها مساحات شاسعة مسيجة ولا يبدو من الضروري توسيعها.
وإذا كان من الصعب تقييم ما يمكن أن ينتج عن خدمات الإدارة علاوة عن تنفيذ استثمارات الدولة فإن ما يزيد في عسر المهمة المكانة النسبية للأنشطة التجارية الموازية والتهريب إذ صارت تمثل حوالى نصف النشاط الاقتصادي، ولا يبدو من جهة أخرى أن الدولة لها من القدرات ما يكفيل انتهاج منوال تنمية جديد ، يقطع مع تصدير الخامات والطاقة والعمالة ذات الأجور المنخفضة،ولكن لحد الان مازالت لم تتبين ملامح المنوال الجديد الأمر الذي يبقي حجم البطالة مرتفعا ونسبة حاملي الشهادات العليا من بينهم أيضا.
الاستثمار في المستقبل
لذلك فإن بلادناتخطيإنلم تسارع بالتركيز على المجالات الاربع للثروة والقوة و هي صناعة المعلومات والاتصال والذكاء الاصطناعي والآليات و صناعة الدواء وتقنيات الصحة والأغذية وتقنيات التصرف في الموارد المحدودة وستكون البلدان القادرة على رفع إنتاجية سكان مدنها الكبرى وكفاءتها الماهرة والشابة متقدمة في النمو الاقتصادي وعلى هذه الأسس فإن تخاذل الدولة في وضع حد للأنشطة الملوثة الخطيرة لمصنع تابع لها يعد خيارا متناقضا مع متطلبات النمو والتنمية وتشغيل الكفاءاتوبالتالي فليس مشكل الإدارة هو العمالة الزائدة فيها بل غياب القدرة على استخدامهم كما أن خيار إحالة عشرة آلاف موظف على التقاعد سيجعلهم يتقاضون منح المعاش من صندوق تدعمه الدولة مباشرة وفي المحصلة فإن ملح البلاد صارت به شوائب كثيرة وان زمن التنمية قد أذن، لنقرا النص و نحضر الغربال.
لم تزل آفة الناس منذ خلقوا منهم هم كالملح فيهم الأمراء والعلماء قلما تتنافر اشكالهم بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يردون فقد خص اله سبحانه هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج هذين الصنفين لدينا، بما لا كفاءة له و لا مخلص منه فالامراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذيادا عن الجماعة و جريا إلى الفرقة، و الفقهاء صموت عنهم صدف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين اكل من حلواهم و خابط في اهواءهم و بين مستشعر مخافتهم أخذ بالتقية في صدقهم. فما القول في أرض فسد ملحها هل هي إلا مشفية على بوارها و استيصالها.
أبوعطف
- اكتب تعليق
- تعليق